- ℃ 11 تركيا
- 24 نوفمبر 2024
وسام سعادة يكتب: الهجوم الأوكراني المضاد وابتزاز «فاغنر» ومأزق «الرّاشية»
وسام سعادة يكتب: الهجوم الأوكراني المضاد وابتزاز «فاغنر» ومأزق «الرّاشية»
- 11 يونيو 2023, 4:08:49 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
سابقت موسكو انطلاقة الهجوم الأوكرانيّ المضاد الذي يبدو أنه انطلق بالفعل في الساعات الماضية، للإطناب الإعلاميّ بصدده، إلى درجة أنّ الشواهد المتلفزة الأولى لهذا الهجوم جاءت من الجانب الروسيّ، يضاف إليها تصريح الرئيس فلاديمير بوتين بأن «القدرة الهجومية لنظام كييف لا تزال قائمة» وأنّ الجيش الأوكراني استدعى احتياطات استراتيجية في هذا السياق.
أن يستعجل نظامٌ من طبيعة جهازيّة – أمنيّة وسلطويّة تغطية العمليات الهجومية المزمع أن تستهدف استقرار احتلاله لجنوب الشرق الأوكراني، فليس ذلك بالأمر المألوف عند الأنظمة السلطويّة، وخاصة حين لا يترافق ذلك مع بثّ لغة واثقة ولا حتى مصممة من أن يلاقي الهجوم المضاد الفشل الذريع. في الأمر بعض الغرابة إذاً، يزيدها تصاعد لهجة الانتقادات من طرف المعلّقين على الشاشات الروسيّة للقيادة العسكرية ولوزارة الدفاع، وفي أحيان عديدة الغمز من قناة الكرملين، والموضوع يتّصل هنا بمعلّقين من حواشي و«محاشي» النظام الحاكم.
ويأتي ذلك، بعد أسابيع قليلة على الحديث المسهب للأوليغارشي يفغيني بريغوجين، موجِد «مجموعة فاغنر» الإرتزاقية الموازية لوحدات الصدم، هذه المجموعة التي باتت من أعمدة النظام البوتينيّ على الرغم من وضعيتها «غير القانونية» في روسيا نفسها. وهذا لم يمنع افتتاح مقرّ مركزيّ لها في مدينة سانت بطرسبرغ في 4 تشرين الثاني/نوفمبر 2022. بريغوجين، خريج سجون الأحداث في الاتحاد السوفييتي، حيث برع منذ يفاعته عن فئة النشّالين والنصّابين، تمكن، بمساعدة أجهزة الدولة من بناء هذه شبكة «مجموعة فاغنر» التي توكلت بالعمليات الخارجية الميدانية – الهجومية، سواء في ليبيا وأفريقيا الوسطى أو في سوريا، هذا في مقابل إطلاق يد «فاغنر» لنهب مناجم الذهاب والماس واليورانيوم، أو تحصيل نسبة من عوائد النفط. لكن «فاغنر» لم تكن مصمّمة بالأساس للعمليات الدفاعيّة، وهي وجدت نفسها في هذا الموقع مع ازدياد عثرة القوات الروسيّة في الجنوب الأوكرانيّ. وعلى الرغم من «إسهامات» هذه المجموعة في تخريب مدينة باخموت، فإن بريغوجين وبعد أن صعّد مطلع ايار/مايو الماضي بأن مسلّحيه سينسحبون من المدينة بعد «عيد النصر» فإنه رفع سقف تهديفه على القيادة الروسية، ولم يكتف بمعهوده في الشهور الماضية من قنص على وزير الدفاع سيرغي شويغو، وعلى قائد الأركان فاليري غيراسيموف، بل هزأ ممن سمّاه «الجدّ السعيد» – في إشارة إلى الرئيس الروسي – الذي كان يتوقع بشكل ساذج الانتصار السريع في الحرب، فكانت نتيجة ذلك تدهور حال الجيش الروسيّ واقتدار الجيش الأوكرانيّ وتزوّده بالأسلحة الأمريكية والغربية الأكثر تطوّراً. والأهم أن بريغوجين قد شدّد في كلامه المدوي هذا – والذي ينال من صديقه القديم بوتين، والإثنان من سانت بطرسبرغ، على أنّه لم يعد من الممكن لروسيا أن تربح هذه الحرب، التي تستمرّ روسيا رسمياً في تسميتها «عملية عسكرية» من دون الذهاب إلى خيار التعبئة العامة. ميدانياً، تتزايد المشاحنات بين الجيش الروسي «النظامي» وبين مرتزقة «فاغنر»، بل تصدر وزارة الدفاع بيانات تفيد عن تعرّض جنود لها للإعتقال والتعذيب على يد مرتزقة «فاغنر». هذا في وقت قلّد فيه الرئيس مجرم الحرب ديمتري أوتكين، قائد «فاغنر»، وهو أوكراني المولد، «نيشان الشجاعة» لدوره في معركة حلب.
التوتر بين مجموعة «فاغنر» وبين القيادة الروسية
يأتي الهجوم الأوكراني المضاد إذاً في وقت يتزايد فيه التوتر بين مجموعة «فاغنر» وبين القيادة الروسية، وتزداد فيه في الوقت نفسه حاجة هذه القيادة إلى مجموعة «فاغنر». وهذه مفارقة تعزف على لحن المفارقة الأولى. وهو أنه، في وقت أدرجت فيه موسكو عملية اجتياحها وضمّها للأراضي الأوكرانية تحت شعار «مكافحة النازية» مستفيدة في ذلك من الجذور المتعاونة مع ألمانيا النازية لدى قسم أساسي من الحركة القومية الأوكرانية، فإنها ازدادت اعتماداً على مجموعة «فاغنر» الذي يفاخر قادتها بتقليعتهم «النازية الجديدة» ولم يتردّد أوتكين في الإفصاح بوضوح بأنه جرى تسمية المجموعة باسم المؤلف الموسيقى الألماني الشهير بمواقفه المعادية للسامية، كونه الموسيقيّ المفضّل لدى أدولف هتلر. في وقت تخوض روسيا حربها على أوكرانيا على أنها «ضد النازية» فهي تعتمد على شبكة من الخارجين عن القانون، بموجب القانون الروسي نفسه، يرون في روسيا مشروع «رايخ ثالث» جديد يعملون لأجله!
يغلب الترجيح في اللحظة الحالية بأن الهجوم الأوكراني المضاد والذي يعالج محاوراً ممتدة على نحو ألف كلمتر على طول الجبهة سيكون هجوماً متدرّجاً، الهدف الأول فيه هو امتحان القدرات والاستعدادات العسكرية الروسية. يختلف حال هذا الهجوم إذاً عن الهجوم الأوكراني المضاد على جبهة خاركيف (بين ايلول/سبتمبر وتشرين الأول/اكتوبر 2022) والذي شكل انعطافة أساسية في الحرب، من بعد التعثر الروسي على جبهة كييف. ففي خاركيف، وهي منطقة ينطق أغلب السكان فيها بالروسية، كانت حصيلة هذا الهجوم وخيمة على الجانب الروسي، حيث اضطر إلى انسحابات واسعة. الهجوم المضاد الحالي يخاض على جبهة أكثر امتداداً، وينذر بتصعيد من الجانب الروسي للحرب المباشرة على السكان، وقد بدأ ذلك من خلال اغراق الأراضي بالمياه في منطقة خرسون، لكنه يتم كذلك الأمر في ظل زيادة نوعية في تسليح الجيش الأوكراني، وفي ظل انعدام تناسب معنوي لصالح الأوكران في هذه الحرب.
فهل تمضي روسيا نحو إعلان التعبئة العامة؟ وماذا يمكنه أن يعني ذلك الآن غير نقل الأزمة إلى الداخل الروسي؟ فالتعبئة الجزئية لوحدها كانت كفيلة بدفع مئات الآلاف من الروس لمغادرة بلادهم خشية تجنيدهم في هذه الحرب، عالية الكلفة البشرية، والتي لم يعد الجانب الرسمي الروسي يخفي عثراته المتفاقمة فيها. في الوقت نفسه، وإذا ما اقتصر الأمر على الدعاية المعتمدة في السياق الحربي، فإن روسيا لم تعد تدّعي بأنها تحقق انتصارات واسعة على جبهة القتال، بل يلعب إعلامها الموجه لعبة التسامح مع النقد الموجه لوزارة الدفاع والقيادة العسكرية وأحياناً لبوتين نفسه. في الوقت نفسه، يلعب هذا الإعلام، وبوتين نفسه، لعبة أخرى. وهو التشديد ليلاً ونهاراً من أن هذه الحرب في أوكرانيا والتي لا يبلي فيها الجيش الروسي البلاء الحسن هي مع ذلك تفصيل، وأنها عنصر من الحرب الأساسية، القائمة بين روسيا وبين المجموعة الغربية. تتسلح روسيا بالبرودة السينيكية في الربط بين سوء الحال على الجبهة وبين «تفصيلية» الجبهة نفسها قياساً على الحرب الشاملة ذات البعد الدولي. لكن هل يجدي كل هذا؟
إعلان التعبئة العامة
في كتابه المفصّل الصادر مؤخراً بالإنكليزية، وتحت عنوان «حرب بوتين على أوكرانيا. حملة روسيا في سبيل ثورة مضادة عالمية» يربط صاموئيل راماني بين مآلات الوضع على الجبهة وبين مصائر النظام البوتيني نفسه. ويتقاطع هذا مع استمرار النقاش حول طبيعة هذا النظام. فلئن كانت الروسية – الأمريكية ماشا غيسين سباقة من 2017 في الحديث عن تطور في الاتجاه التوتاليتاري لهذا النظام، ذلك في كتابها «المستقبل تاريخ: كيف تستعيد التوتاليتارية على استعادة» فإن قراءة أخرى تشدد في المقابل على طبيعته الهجينة، أو على أنه «توتاليتارية مهجنة» على ما يذهب إليه اندريه كوليسنيكوف، بما أن آلياته القمعية، الاقتصاصية من الخصوم، والتعليبية للرأي، تتداخل مع استمرار عناصر مستلة من اقتصاد السوق، والديمقراطية الانتخابية، والثقافة المدنية. في المقابل، ثمة اتجاه يميل أكثر فأكثر إلى اعتبار النظام البوتيني قد تطور، وخاصة مع هذه الحرب، في اتجاه «الفاشية». بل انه نحت لذلك مصطلح جديد، لقول الفاشية الروسية الحالية هو «Rashism»ومن الممكن تعريبها: الراشية. وقد ساهم الرئيس الأوكراني نفسه في اشاعة هذا المصطلح في الأشهر الأخيرة بخطاباته. يبقى أن ثنائية وزارة الدفاع في مقابل «مجموعة فاغنر» هو واحدة من سمات هذه «الراشية» الأكثر مأزقية. اعتماد موسكو على فاغنر، وابتزاز فاغنر لموسكو، مؤشران لا يطمئنان بالنسبة إلى مستقبل الأوضاع في الداخل الروسي نفسه. لقد تنازلت روسيا في حال فاغنر عن مبدأ احتكار الدولة لمنظومة العنف الشرعي. سمحت بوجوب نوع من «الفافن اس اس» في ألمانيا النازية، هذا في وقت لا يعتمد النظام البوتيني الحاكم على مؤسسة حزبية فعلية، ويميل بعكس الأنظمة الفاشية في مرحلة ما بين الحربين، إلى العزلة عن السكان وليس تعبئتهم. يريدهم غير معترضين عليه، وليس مقاتلين في سبيله. فهل بإمكانه ان يطلب من الجماهير ان تتحرك فقط حين يدخل في مأزق لا يبدو انه باستطاعته الخروج منه؟
ما يظهر الآن هو أن هذه «الرّاشية» تحور وتدور في اللحظة الحالية، لحظة الهجوم الأوكراني المضاد، حول موضوع إعلان التعبئة العامة، وتحاول ان تكتفي بإثارته بشكل ميديائي متواصل أكثر منه اعلان التعبئة بالفعل. لا يعني ذلك ان الأمر لن يحصل، لكنه في مجازفة. اما بتسريع نقل المشكلة إلى الداخل الروسي، واما بأن تكون التعبئة العامة هي مجرد هرج ومرج. يأتي ذلك فيما موعد الانتخابات الرئاسية الروسية يقترب. وعلى الرغم من الطبيعة الأمنية للنظام لا يمكن التعامل مع هذا الاستحقاق على أنه لا يشكل لحظة جديرة بالمراقبة. لأن ما قد يكون شكلانيا للغاية في حال كان بوتين يسيطر على الوضع في الجبهة سيكون مأزقياً في الحال المغايرة. وثمة من أسرع في ربط كلام بريغوجين في سياق التهديف الانتخابي الرئاسي المبكر. الأوضح هو ما يشدد عليه صاموئيل راماني من أن النظام الروسي الذي تمكن من دون صعوبة تذكر في محاصرة العناصر الليبرالية «المضادة للحرب» يتعايش مع ازدياد النقد الموجه للقيادة السياسية والعسكرية من جانب القوميين المتشددين. يحصل ذلك في وقت فاقت عثرة الجيش الروسي في الحرب الأوكرانية كل التوقعات، حتى بين أعتى خصوم موسكو، لحظة بدء العملية العسكرية الروسية. في المقابل، فإن التفاؤل الغربي في انهيار سريع للاقتصاد الروسي لم يكن في محله. لكن الحؤول دون انهيار اقتصادي روسي كبير سيكون أصعب في ظل استمرار الضعف العسكري، وتحرر البلدان الأوروبية تدريجياً من ابتزاز الغاز الروسي، وأثر العقوبات المالية والتجارية الغربية. فهل تسعى موسكو حينها جدياً إلى الخروج من الحرب. تأخرت للغاية للتفكير بذلك. فأوكرانيا لم تعد تقبل بأقل من الانسحاب الروسي من كافة أراضيها، بما فيها شبه جزيرة القرم، وهي تشعر بالفعل بأن حرب بوتين عليها أعطتها فرصة سانحة لاستعادة حتى ما خسرته عام 2014، فلماذا تتنازل عن ذلك؟