- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
وسام سعادة يكتب: مئوية لوزان وشرقنا هذا والمسألة القرمانلية
وسام سعادة يكتب: مئوية لوزان وشرقنا هذا والمسألة القرمانلية
- 29 يوليو 2023, 5:22:18 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
متى انتهت الحرب العالمية الأولى؟ بتوقيع الهدنة بين ألمانيا وقد خلعت قيصرها غليوم الثاني، وبين فرنسا وبريطانيا، في 11 نوفمبر 1918؟ سيجيب كذلك تلميذ مجتهد. أو بعد أقل من عام على الهدنة، بتوقيع معاهدة السلام في فرساي في 28 يونيو 1919، وإملاء المنتصرين من «الحلفاء» شروطهم على المهزومين، وفي الطليعة منهم ألمانيا، قد يذهب إلى الجواب تلميذ آخر.
في الحالتين هذا يعني الجبهة الغربية للحرب أكثر مما يعني جبهتيها الشرقية الشمالية (النطاق الروسي) والشرقية الجنوبية (النطاق العثماني) المتداخلتين في منطقة القوقاز.
كما ينبهنا المؤرخ روبرت غيرورث في كتابه «المهزومون» لماذا أخفقت الحرب العالمية الأولى في الانتهاء» (الصادر عام 2016) لم ينته هذا الحريق العالمي عام 1919 بالنسبة لسكان ريغا البلطيقية شمالاً، مروراً بكييف، وصولاً إلى إزمير على بحر إيجة. لقد استمرت «الحرب الكبرى» شرقاً مدّة أطول، على ركام الإمبراطوريات المهزومة لآل رومانوف وهابسبورغ وبني عثمان، وتشعبت حروباً وحروباً أهلية وحروب تدخّل وثورات وثورات مضادة وأعمال تطهير إثنية واقتلاعات وتبادلات للسكان.
لئن كانت الحرب الأهلية الروسية هي الإطار الأوسع لاستمرار وتطور ديناميات «الحرب الكبرى» شرقاً، فإنّ الموجة الاحترابية لمرحلة 1918-1923، وبمثل ما تضمنت حروباً أهلية، من جملتها تلك الفنلندية، فإنها عجّت بجملة من الحروب القاسية بين الدول، كمثل الاجتياح الروماني للمجر، والحرب الروسية البولندية التي أوقعت زهاء الربع مليون قتيل بين 1919 و1921، والحرب التركية اليونانية 1919-1922 التي اقترب ضحاياها من هذا العدد، وفاقت أضعاف أضعاف ذلك على مستوى من أوجبت تهجيرهم، «بالتبادل السكاني» من ديارهم، للانتقال إلى مشروع الدولة – الأمة الأخرى.
من هنا يجوز التفكير أنّ «الحرب الكبرى» لم تنته تماماً إلا مع توقيع «معاهدة لوزان» 1923، أي بعد أربع سنوات على توقيع معاهدة فرساي، وإن شئنا التدقيق بعد أكثر لقلنا أنها انتهت يوم دخل الجيش التركي، إنفاذاً لبنود معاهدة لوزان، إلى القسطنطينية / اسطنبول في 6 أكتوبر من ذلك العام، وأنهى مرارة خمس سنوات من الاحتلال الفرنسي البريطاني الإيطالي اليوناني للعاصمة العثمانية، التي رضي السلطان في ظلها بمعاهدة سيفر (1920) التقسيمية للأناضول نفسه، والحاجرة على العاصمة والمضائق، في وقت نجحت فيه المقاومة الناهضة في العمق الأناضولي، والمتشكلة من فلول «الاتحاديين» والعسكر المهزوم ومقاتلي القبائل من كرد وتركمان في إطلاق حرب الاستقلال بقيادة الغازي مصطفى كمال.
لئن كانت الحرب الأهلية الروسية هي الإطار الأوسع لاستمرار وتطور ديناميات «الحرب الكبرى» شرقاً، فإنّ الموجة الاحترابية لمرحلة 1918-1923، وبمثل ما تضمنت حروباً أهلية، من جملتها تلك الفنلندية، فإنها عجّت بجملة من الحروب القاسية بين الدول
يعود السبب الأول لانطلاقة هذه المقاومة بنجاح إلى جنون معاهدة سيفر نفسها، وما نصّت عليه من حلّ للجيش التركيّ والاكتفاء بدلاً منه بالجندرمة وحرس السلطان. أما الحرب على جبهة كيليكية، في مواجهة كل من الجيش الفرنسي والفيلق الأرمني الفرنسي، فقد انتهت في خريف العام 1921 بالانسحاب الفرنسي من تلك المنطقة، والمسارعة الفرنسية للبحث عن تفاهم مع مصطفى كمال. ارتبط ذلك بشكل أساسي بقناعة لدى قائد القوات الفرنسية في حرب كيليكية، الجنرال هنري غورو بعدم جدوى وارتفاع كلفة الحفاظ على خطوط الدفاع في تلك المنطقة، والظهور بمظهر المصطدم بشكل مستميت، كرمى للأقليات، مع الأكثرية السكانية الإسلامية فيها. بالنتيجة، أراح الفوز على جبهة كيليكية كمال والمقاومة التركية. لكن الكارثة الحقيقية التي ستفتح الطريق الى مؤتمر ثم معاهدة لوزان هو ما تسببت به اليونان لنفسها، وقد حمّسها على ذلك رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج.
ومن جملة ما يشرحه غيرورث أن دافع لويد جورج إلى تشجيع اليونانيين على التصعيد الهجومي الأرعن ضد الأتراك هو تخوفه من التمدد الإيطالي في الشرق. فروما، لم تستشر الحلفاء الغربيين عندما احتلت مينائي أنطاليا ومرمريس 1919. هذا القلق من الشطط الإيطالي قاد لويد جورج الى تشجيع اليونان على احتلال إزمير، وكان أكثر من نصف سكانها يونانيين، كي لا يظفر الإيطاليون بها. في تلك الأيام، لم تكن الكثافة السكانية اليونانية مقتصرة على إزمير وبقية إيونية (التي منها شاع اصطلاح «اليونان») بل كانت حاضرة في مناطق من الداخل الأناضولي، وفي منطقة البنط على البحر الأسود، وفي قباذوقية. اندفعت أثينا وراء ما أسماه قوميوها «الفكرة العظمى» وصل اليونان الآسيوية بالأوروبية، في دولة من البحر الأسود حتى الأدرياتيكي، وتمكنت حرب الغوار التركية من جرهم في المقابل إلى التوغل أكثر فأكثر في العمق التركي، الى أن وجدوا أنفسهم يتهورون بمحاولة التقدم نحو أنقره نفسها، فكان ما كان من هزيمة كبرى منوا بها على نهر سكاريا، وبلغت ذروتها في استرجاع الأتراك لأزمير وتهجير سكانها من اليونانيين 1922.
هنا ارتكب لويد جورج غلطته الفادحة بالنسبة إلى البريطانيين أنفسهم. فبدلاً من السعي لفتح صفحة جديدة مع كمال، أسوة بما سارع إليه الفرنسيون بعد حرب كيليكية ومن بعدهم الإيطاليون، أخذ على عاتقه خريف 1922 منع تمدد جيش كمال الى منطقة المضائق ومن ثم الى اسطنبول وتراقيا على الضفة الأوروبية. أدى ذلك الى نشوب أزمة حكومية أطاحت بجورج في لندن، ما فتح الطريق الى مفاوضات مؤتمر لوزان، الذي اختار لها مصطفى كمال معاونه عصمت، المرتبط من وقتها فصاعداً بدوره المظفر في معركتي اينونو، علماً أن تصميم كمال على حصر المفاوضات به وبعصمت، فجّر أزمة داخلية في الجمعية الوطنية بأنقرة، وجرى الاستعاضة عنها بجمعية أخرى طيعة أكثر لكمال.
كما يلاحظ المؤرخ الفرنسي هنري لورنس في كتابه «أزمات الشرق» كانت معظم القضايا قد صفيت قبل الدخول في مفاوضات لوزان، بحيث أن نقطة الخلاف الأساسية التي استهلكت جهداً مضنياً في المفاوضات اتصلت بمصير ولاية الموصل العثمانية السابقة. على هذا الصعيد لم تنجح تركيا في إعادة ربط ولاية الموصل بها. بالتالي حسم مؤتمر لوزان الأمر رافدياً لاستمرار الكيان العراقي الذي أقامه البريطانيون على قاعدة وصل ولايات البصرة وبغداد والموصل العثمانية بعضها ببعض. مع ذلك، كانت معاهدة لوزان ككل انتصاراً قوياً لتركيا الكمالية، الدولة الوحيدة بالإضافة الى اليابان التي ستتقبل العواصم الغربية معاملتها بندية في تلك المرحلة عبر ما يذكرنا لورنس أيضاً. وهو يقارن ثالثاً بين وضعية كل من تركيا ومصر بعد لوزان. فمصر، المستقلة اسمياً آنذاك، والتي كانت تسلك طريق التحول إلى ملكية دستورية، لم يسمح لها بالمشاركة في مؤتمر لوزان، لكن ظروف ومناخات ما بعد المعاهدة فتحت أيضاً الطريق الى عودة سعد زغلول، زعيم الحركة الوطنية من منفاه في سيشل، الى مصر 1923. بالتالي، مناخ ما بعد لوزان مهد السبيل لانتصار تجربة التحديث السلطوي في تركيا، انما على قاعدة الاستقلال الوطني الترابي، وتبني المفاهيم الغربية حول الجمهورية ثم حول العلمانية. أما في مصر، فمناخ ما بعد لوزان سيفتح الطريق لملكية دستورية وصراع طويل بين حزب الأكثرية الوفدية وبين أحزاب الأقلية والقصر، وفي إطار استقلال وطني منقوص، متبوع بعلاقة كولونيالية مزدوجة بريطانياً ومصرياً مع السودان. هذا الوضع المركب سيجدد مرحلة نهضوية ثقافية وأدبية مصرية جديدة مع ذلك، في حين أن الكلمة المفتاحية في تركيا ستكون للقطيعة الحادة، بدءاً من القطيعة اللغوية مع اللغة العثمانية المكتوبة بالحرف العربي، والتأسيس بدلا منها للغة تركية مكتوبة بالحرف اللاتيني، وتطهر معجمها من ترسانة الكلمات العربية والفارسية ما استطاعت، محاكية في ذلك تجربة القطيعة اللغوية في بلدان البلقان، كرومانيا التي طهرت لسانها من الكلمات السلافية وأخذت تستورد من الفرنسية والإيطالية، والبلغارية التي دفعها تصميمها على الابتعاد عن الصربية الى استيراد الكلمات بالجملة من الروسية.
أما أثر لوزان الأكثر قساوة فتمثل بتكريس مبدأ الطرد المتبادل للسكان. أتراك اليونان ويونانيو تركيا، خلا استثناءات كيونانيي اسطنبول الذي لم يندثر وجودهم إلا بعد الحملات ضدهم في الخمسينيات. مئات الآلاف كان عليهم حمل متاعهم والانتقال الى الوطن الجديد. من بين هؤلاء قوم القرمان، الكرمانليداس، جهة قباذوسيا. قرابة النصف مليون نسمة. هؤلاء كانوا أثنيا الى الترك والتركمان أقرب، ويتكلمون واحدة من لهجات اللغة التركية. يكتبونها بالحرف اليوناني. كانوا أتراكاً لغويين، والأرجح اثنيين أيضاً، لكنهم كانوا من المسيحيين الأرثوذكس. من «ملة الروم» في التقسيم العثماني. تبادل السكان لإنشاء دولتين قوميتين «منسجمتين إثنيا» تم هنا على أساس الهوية الدينية الصرف. بحيث توجب أن يرحل قوم الكرمانليدس هؤلاء إلى اليونان، وفيها، هي المفجوعة بهزيمتها في الحرب أمام الترك، استقبلوا بنظرة ارتياب. طُلِبَ منهم التوقف عن التحدث بلغتهم التركية الخاصة. هذه المسألة «القرمانلية» جاءت تؤسس بذلك لعصر جديد من المسألة الشرقية. تبعتها بعدها جماعات «قرمانلية» عديدة، وإن يكن بأشكال أخرى.