- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
مالك التريكي يكتب: رشيد صفر: مثال لرجل الدولة المخلص
مالك التريكي يكتب: رشيد صفر: مثال لرجل الدولة المخلص
- 29 يوليو 2023, 5:41:39 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بانتقال الأستاذ رشيد صفر إلى رحمة الله تعالى الأسبوع الماضي، طويت صفحة الشخصيات الأولى لدولة الاستقلال ولم يعد على قيد الحياة أحد من رؤساء الحكومات الذين عملوا تحت إمرة الزعيم بورقيبة. والواقع أن رشيد صفر كان آخر وزير أول (رئيس وزراء) فعليّ في عهد بورقيبة، ذلك أن بن علي لم يخلفه في المنصب إلا خمسة أسابيع انتهت بانقلاب 7 نوفمبر.
عين رشيد صفر يوم 8 يوليو 1986 وزيرا أول في أحلك الظروف وفي أواخر الخريف البورقيبيّ الطويل. كانت البلاد في أزمة اقتصادية خانقة، وكان بورقيبة قد تحول ألعوبة في أيدي الحاشية التي استتب لها الأمر بعد أن نجحت في إزاحة كل من الوزير الأول محمد مزالي، وزوجة الرئيس وسيلة بن عمار، وسكرتيره وصديق عمره علالة العويتي، بل وابنه الوحيد الحبيب بورقيبة الابن! ولم يكن لرشيد صفر، المعروف بالجد والاستقامة، والكفاءة في مجال الاقتصاد والمالية، قبل بمواجهة دسائس الحاشية، ولا حتى مواجهة وزير الداخلية المتنفذ بن علي الذي كان على تواطؤ مع رأس الحاشية، سعيدة ساسي بنت أخت بورقيبة. ومع ذلك فقد نجح رشيد صفر في إنقاذ البلاد من الإفلاس وفي وضعها على سكة الإصلاح الاقتصادي والتعديل الهيكلي. وقد نشرت لوموند خبر تعيينه وزيرا أول تحت عنوان «رشيد صفر: تقنيّ الاقتصاد». ولا أزال أذكر خطابه الأول أمام مجلس النواب يوم 19 أغسطس 1986. كان خطابا منهجيا أتى فيه على تفاصيل الخطة التي وضعها لإصلاح ميزانية الدولة (التي كانت تعاني عجزا بـ270 مليون دينار) في ظل تراجع إيرادات السياحة وانخفاض سعر النفط من ثلاثين دولارا إلى ثمانية (كان النفط يمثل خمس موارد البلاد) وانخفاض تحويلات العمال التونسيين في الخارج. وكان أبرز قراراته هو خفض قيمة الدينار بعشرة بالمائة. وقد ساهم ذلك الخطاب في تأكيد مصداقية رشيد صفر وإكسابه سمعة شبيهة بسمعة الهادي نويرة رحمه الله، سواء من حيث الكفاءة في الإدارة الاقتصادية أم الدقة والإيجاز في الحديث.
يلاحظ من يقرأ مذكرات رشيد صفر أنه قد نشأ على القيم المعرفية والأخلاقية والوطنية ذاتها التي نشأ عليها جيل الآباء
وفي 23 أغسطس 1986 أعلن، لأول مرة في تاريخ البلاد، أن جميع الوزراء والمسؤولين صاروا ملزمين قانونا بتقديم كشف بممتلكاتهم في بدء المهام وختامها. وفي 20 يوليو 1987 قدم أمام مجلس النواب الخطة الخمسية التي تركزت على معالجة البطالة وتدعيم المالية العامة وبدء تحقيق التوزان التنموي بين الجهات بحلول 1991. إلا أنه كان واضحا أن رشيد صفر لم يعين إلا لأداء المهمة الصعبة، أي فرض سياسة التقشف وتجميد الأجور، وأنه سيزاح سريعا. وهذا ما وقع. ولكن نظرا إلى أنه كان مسالما ومتعففا عن الصراعات، فإن بورقيبة عوضه عن الإقالة من رئاسة الحكومة بترشيحه لرئاسة مجلس النواب، خلفا للأستاذ محمود المسعدي، فتم التصويت له بالإجماع يوم 13 أكتوبر 1987.
ويلاحظ من يقرأ مذكرات رشيد صفر أنه قد نشأ على القيم المعرفية والأخلاقية والوطنية ذاتها التي نشأ عليها جيل الآباء. فقد كان والده الطاهر صفر من أوائل قادة الحزب الحر الدستوري الجديد. ودرس الحقوق والعلوم السياسية في السوربون، وكان من زملائه آنذاك إدغار فور، الذي سيصير سياسيا شهيرا ورئيسا للحكومة الفرنسية منتصف الخمسينيات، ثم عضوا في الأكاديمية الفرنسية. وعاد الطاهر صفر وبورقيبة إلى تونس في العام ذاته، 1927، كما اعتقلا معا عام 1935 ونشبت بينهما خلافات بشأن الطريقة المثلى للكفاح. وقد كان الطاهر صفر مفكرا إصلاحيا رفيع الأخلاق بعيد النظر، وكان يؤمن بالنضال السلمي على طريقة غاندي.
ومما يرويه إدغار فور في مذكراته أن الطاهر صفر، الذي توفي عام 1942 وابنه رشيد ما يزال صبيا في التاسعة، قد كان طالبا متفوقا يحصد جميع الجوائز الأولى في ختام كل سنة دراسية في السوربون، «بينما كنت أنا أحصل على درجة قريب من الحسن»! كما يروي أنه حرص لما كان رئيسا للحكومة على الإشادة بنبوغ زميله، حيث قال لبورقيبة لما قابله أول مرة عام 1955: كان في وسع الطاهر صفر أن يتولى منصبا مرموقا في الإدارة أو البحث العلمي أو التدريس الجامعي في فرنسا.
توفي الأب شابا دون الأربعين والابن شيخا في التسعين. ولكنهما لم يلقيا من الوطن الذي تفانيا في خدمته معظم القرن العشرين سوى الجحود والنسيان. نسأل لهما من الله واسع الرحمة وحسن الثواب.