- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
يحيى كامل يكتب: البيع في المزاد العلني «تسليع» مصر وأزمة نظام السيسي
يحيى كامل يكتب: البيع في المزاد العلني «تسليع» مصر وأزمة نظام السيسي
- 29 يوليو 2023, 5:44:36 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
أزعم أن أحداً، مهما بلغت درجة اهتمامه من عدمه بالشأن المصري أو السياسي بصفةٍ عامة، لم يسمع بأزمة مصر الاقتصادية المستعصية، ولو تصادف ومرّ بنشرات الأخبار، فعلى الأغلب بلغه طرفٌ من مشكلة الانقطاع الكهربائي المتكرر في الآونة الأخيرة، أو ربما يكون قد شاهد أحد الفيديوهات التي صورها مواطنون لأنفسهم، والتي تتناول هذا الموضوع تحديداً بالسخرية.
لعل أول ما لفت نظري في هذا الموضوع بالتحديد هو انكسار علة، أو آفة النسيان التي اعتقدنا طويلاً (لسوابق تاريخية وأسبابٍ موضوعية من دون شك) أنها ملازمةٌ للشعب المصري، ما عبّر عنه نجيب محفوظ بجملته الشهيرة المتداولة: «آفة حارتنا النسيان»، إذ عدا السخرية المريرة مما أطلق عليها أحدهم «خدمة قطع الكهرباء» ووصفها بالانتظام بحسٍ فكاهيٍ لافت، فإن الناس يتذكرون جيداً ما سبق وقيل لهم عن كم الاستثمار في محطات الكهرباء، والاكتشافات في حقول الغاز التي بيعت ورُوج لها على كونها فتوحاً مبينة و»أهداف» في استعارةٍ من لغة كرة القدم، ووعدوا بأنها ستحدث ثورةً وانقلاباً في مستوى معيشتهم ورفاهيتهم.
كانت أولويات السيسي واضحة لأي شخصٍ: الحفاظ على النظام وترميم هيكل الدولة الجريح؛ هو لا يهمه بما يضحي في سبيل ذلك ولو اضطر لبيع كل شيء
لم ينس الناس الوعود، على عكس الشائع والمعهود، بل يتذكرونها جيداً وبنصها، يكررونها بسخرية مريرة إزاء تناقضها الصارخ مع ما يعيشونه من وضعٍ شديد البؤس؛ ربما وجب الإفادة هنا بالغلاء الفاحش الذي يلتهم مقدرة الناس الشرائية مع انهيار قيمة العملة المحلية، ومعاناتهم البشعة هذه الأيام من الحرارة الشديدة، فهم يعيشون حالة «شواء» مستمرة كما وصفها صديق، وقد زاد من ذلك الجحيم انقطاعات الكهرباء التي ذكرنا وذاع صيتها. باختصار شديد لم تعد الحياة في مصر تُطاق، وفاض بالناس تماماً، نحن هنا لا نتحدث عن حقوق الإنسان والحريات السياسية إلخ، مما لا يأبه له كثيرٌ من الناس، بل عن الطعام الذي لا يجدونه ونار جهنم التي تشويهم، مع عدم القدرة على تشغيل مراوح الهواء، فالأمر أو الأزمة بسيطة المفردات جداً، وجودية تماماً، لا تحتاج إلى فذلكة، أو كلام كبير للتعبير عنها، بقدر عمق أسبابها في حقيقة الأمر وضربها في أسس وطبيعة النظام القائم، وربما من هذين العاملين مجتمعين تستمد خطورتها. لكن الذاكرة الحاضرة، ذلك المستجد ربما على الوعي الجماهيري، ليس بمكمن الخطر الوحيد، بل أيضاً حالة انكشاف أو انفضاح الأسباب الحقيقية للأزمة، وما وراء قرارات الحكومة؛ على سبيل المثال وفي موضوع الكهرباء فقد ذاع وشاع أن سبب الانقطاعات الحقيقية، على الرغم من زيادة القدرة الفعلية في إنتاجها، إنما يعود إما إلى بيعها في الخارج، أو بيع الغاز من أجل توفير العملة الصعبة، ما يقودنا إلى العنوان الأكبر (في الحياة والمقال) عن بيع، أو «تسليع» مصر. فالشاهد أن جُل الرهانات أو التصورات عن كيفية تنشيط الاقتصاد ثبت عدم جدواها، ربما لأن الجدوى الاقتصادية لم تكن هدفاً أو محل درس منذ البداية، بل «الإيحاء» بأن ثمة تغييراً يحدث على الأرض، تطورا ما، في صورة منشآت، جسور (كباري) وطرق بالتحديد، بالإضافة إلى كون تلك المشروعات وفّرت مصدراً للربح السريع لشركات القوات المسلحة، داعم الاقتصاد الأكبر والأهم. لقد وصل السيسي مدعوماً منذ البداية برأس المال الخليجي، الذي مول انقلابه بصيغٍ عديدة، ثم انطلق يقترض كأن العالم ملكه، وربما كان يتصور أن سيطرته على ذلك الخزان البشري الضخم، مصر، ومحاصرة نيران الثورة التي تخشى مملكات ومشيخات الخليج من وصولها إليها، كفيلان باستمرار تدفق رؤوس الأموال، ولا شك في أن ذلك نابعٌ من تصورٍ جاهلٍ في الأساس ودائماً، عن طبيعة هذه الدول والشعوب الآن؛ هو تصورٌ يحمل قدراً لا بأس به من تعالٍ متوارث من فترةٍ كانت مصر تتوفر فيها الخبرة والعلم والعقول، وكانت هذه الدول ما زالت تحبو، مستعدةً للدعم أو الإغداق بلا حدود (في تصورٍ يجافي الحقيقة أيضا) لكنه فوجئ بأن دعم هذه الأنظمة المالي ليس بلا حدود، والمستجد أنه ليس بلا مقابل. لقد شبت هذه الدول عن الطوق، واكتسبت الحنكة التجارية والاقتصادية فدخلت في السوق العالمية كمستثمرين، لا كزكائب من الأموال كما يحلو للسيسي أن يتصور، كما أنهم ليسوا بالحماقة التي يظن، بحيث يستطيع الضحك عليهم بكلمتين من عينة الأخوة وحبيبي يا نور العين، التي نجح بها للأسف في بدايات انقلابه مع «الشعب الذي لم يجد من يحنو عليه»، ولا شك لديّ في شعور أصحاب القرار في دول الخليج بالغضب والإهانة مما يعرفونه جيداً من تصورات السيسي الخرقاء المهينة عنهم، وعن قدراتهم الذهنية والسياسية، وقد صاروا أفضل تعليماً بمراحل، وأذكى منه، وإن كان ذلك تحديداً ليس بالصعب في حالة السيسي بقدراته الذهنية المحدودة. لذا، فالتطور المهم أو المستجد، هو الاستعاضة بشراء دول الخليج للأصول المصرية، خاصةً بعد أن تورط النظام والدولة المصرية، بل غرقت، في ديون لها فوائد باهظة مستحقة.
لقد كانت أولويات السيسي واضحة تماماً لأي شخصٍ يتابع ببرود منذ البداية: الحفاظ على النظام وترميم هيكل الدولة الجريح؛ هو لا يهمه بما يضحي في سبيل ذلك ولو اضطر لبيع كل شيء. هو أصلاً متشبعٌ برؤية لا ترى في أي شيءٍ غير النظام وأجهزة أمنه سوى سلعٍ أو خدماتٍ تباع وتشترى لخدمة بقاء النظام، وفي أزمته لا يهم ما يحدث للبشر من قطع الخدمات، أو التراجع عنها. منذ البداية، منذ أول تسريباته، قال صراحةً بأن من يريد من دول الخليج دعماً منه فليدفع، ليس غريباً على من قبل بمنطق السوق الذي يتغلغل في كل حنايا الحياة، من يرى أن كل شيءٍ في نهاية المطاف سلعةٌ، أن يقدم على بيع أي شيء دون اعتبارٍ لأي قيمة سوى المالية. لقد عبّر السيسي عن ذلك أيضاً بصورة مضحكة سخيفة حين تطوع فقال، إنه لو توفرت القدرة لديه لبيع نفسه لفعلها، إلا أنه تخطى هذه فقرر بيع أصول الدولة، ممتلكات الشعب من الناحية القانونية، والتضحية بالخدمات المقدمة للناس.
لقد «سُلعت» مصر منذ بداية عهده والآن دخلت في مرحلة المزاد العلني، أُضحيةً على مذبح النظام. في الحقيقة، إن سياساته وانحيازاته منذ البداية لم تترك له العديد من الخيارات الآن، وسوف يستمر البيع وسوف تعتصره مشيخات الخليج حتى آخر قطرة، ولن يشتروا إلا في الوقت المناسب لتنتقل الملكيات بأبخس الأثمان، ولن يجد سوى النفاق والمزيد من الوعود والقمع للسيطرة على الناس؛ إلا أنني أظن تلك الوصفة، مع تنامي وعي الناس وانكشاف حقيقته، لن تنجح طويلاً، وأحسب أنه ما لم تخف الأعباء على الناس فسنرى قريباً مظاهر سخطٍ أو انفجاراتٍ لا أستطيع التنبؤ بشكلها ومداها بعد.