- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
يحيى الكبيسي يكتب: العراق: الدولة الفاشلة وفوضى الصلاحيات!
يحيى الكبيسي يكتب: العراق: الدولة الفاشلة وفوضى الصلاحيات!
- 2 يونيو 2023, 5:01:01 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم تلتزم الدولة العراقية بقانون الإدارة المالية والدين العام رقم 95 لسنة 2004، الذي وضعته سلطة الاحتلال، والذي نصّ على أن تقدم الموازنة السنوية يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام إلى السلطة التشريعية، وعلى أن لا تجري أية تعديلات على قانون الموازنة باستثناء إجراء المناقلة بين أبواب الميزانية، وتخفيض مجمل مبالغ الميزانية العامة، أو أن تقترح على مجلس الوزراء زيادة إجمالي مبلغ النفقات عند الضرورة استنادا إلى المادة 33/ ج من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية.
ولم تلتزم كذلك بما قرره الدستور العراقي لعام 2005 الذي أعاد الفقرة الواردة في المادة 33/ ج من قانون إدارة الدولة، مع تعديل بسيط، حيث قررت المادة 62/ ثانيا أنه «لمجلس النواب إجراء المناقلة بين أبواب وفصول الموازنة العامة، وتخفيض مجمل مبالغها، وله عند الضرورة أن يقترح على مجلس الوزراء زيادة إجمالي مبالغ النفقات» وما قرره قانون الإدارة المالية رقم 6 لعام 2019، أيضا، والذي نصّ على وجوب تقديم الموازنة إلى مجلس النواب قبل منتصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر من كل سنة.
لم تُحُترم هذه التواريخ، المحددة بموجب القانون، مطلقا عند إرسال قانون الموازنة إلى السلطة التشريعية، والأغرب من ذلك استمرار السلطة التشريعية في إجراء تعديلات على قانون الموازنة وهي لا تمتلك الصلاحية لذلك (الا فيما يتعلق بالمناقلات أو تخفيض مجمل مبلغ الميزانية) بل كانت الموازنة تخضع لإعادة الصياغة، لغايات ومصالح جهوية وحزبية وشخصية، في انتهاك صريح للدستور بتواطؤ جميع الأطراف! فقد أصدرت المحكمة الاتحادية العليا أكثر من قرار بات ملزما للسلطات كافة، أوضحت فيه انه ليس من صلاحية مجلس النواب إدخال تعديلات على قانون الموازنة باستثناء تلك المتعلقة بالمناقلات أو تخفيض النفقات او اقتراح زيادتها، ومن بينها القرار 35/ اتحادية/ 2021 الذي وضع المبدأ التالي: «إن إضافة نصوص تشريعية من قبل مجلس النواب الى مشروع قانون الموازنة المرسل من قبل مجلس الوزراء يوجب الحكم بعدم دستورية تلك النصوص إذا رتبت أعباءً مالية على الخزينة العامة ومنعت الحكومة عن تنفيذ برنامجها المصادق عليه من مجلس النواب والمعد وفقاً لصلاحياتها المنصوص عليها في المادة 62 من الدستور باعتبارها المسؤولة عن رسم وتنفيذ السياسة العامة للدولة ومنها السياسة المالية ».
الحقيقة أن الموازنة العامة في العراق ليست شأنا ماليا او اقتصاديا كما يجب أن تكون، بل هي شأن سياسي، ومن ثمّ، فإن «تصميمها» يخضع لعلاقات القوة، وقواعد الاستثمار في المال العام!
مفهوم الدولة الفاشلة هو النموذج الذي يجسده العراق بالنظر إلى المؤشرات الموجودة من فوضى الصلاحيات والاختصاصات، وعدم احترام الدستور، وفشل المحكمة الاتحادية في ضمان مهنيتها، وتحولها إلى أداة سياسية
في مقال سابق بعنوان «في توصيف النظام السياسي العراقي» نشر في 8 نيسان/ أبريل 2021، أشرنا إلى بعض التعديلات التي أجريت على قانون الموازنة العامة، وقد كان إجراؤها انتهاكا للدستور، وإلى أن مراجعة تلك التعديلات يكشف نية القائمين عليها في أن تصبّ في مصلحة الفاعلين السياسيين المهيمنين على القرار داخل مجلس النواب، وأنه ممكن معرفة «المستثمر» السياسي الذي يقف خلف كل مادة من المواد التي تم تعديلها أو إضافتها من خلال المقارنة بين مشروع القانون الذي أرسلته وزارة المالية والقانون الذي صوّت عليه المجلس!
هكذا أُضيفت فقرة إلى نص قانون الموازنة لم يكن لها وجود في مشروع القانون المرسل من وزارة المالية تنص على أن: «يُخوّل المحافظون ورئيس صندوق إعمار المدن المحررة والمتضررة من العمليات الإرهابية صلاحية التعاقد المباشر لغاية 5 مليارات دينار للمشروع الواحد استثناء من أساليب التعاقد المنصوص عليها في تعليمات تنفيذ العقود الحكومية رقم 2 لسنة 2014». ويمكن هنا، بكل يسر، معرفة «المستثمر السياسي» المستفيد، وهو نفسه المسيطر على صندوق إعادة إعمار المناطق المتضررة من العمليات الإرهابية!
وكمثال آخر، إضافة أحد أعضاء اللجنة المالية فقرة إلى إحدى مواد الموازنة تنص «لوزارة التربية دعوة القطاعين العام والخاص داخل العراق لتنفيذ الكتب المدرسية… مع الغاء قرار رقم 790 لسنة 2018» لأن الرجل ببساطة يسيطر على عملية طباعة الكتب في العراق، وأن القرار المذكور كان يتضمن إلغاء عقد وقعه مع وزارة التربية لاحتكار طباعة الكتب المدرسية جميعها!
لهذا وجدنا مقرر مجلس النواب يوم 26 أيار/ مايو 2023 يصرّح، وبكل ثقة، أن مجلس النواب يمتلك الصلاحية لتغيير البنود الخاصة في أي فقرة من فقرات الموازنة والتي تشكل نقطة خلاف، مع التصويت عليها في اللجنة المالية» ضاربا بالدستور عرض الحائط!
ولم يقف ذلك عند حدود التصريحات؛ فقد عمدت اللجنة المالية، فعليا، إلى إدخال تعديلات على قانون الموازنة، والتصويت عليها، في سياق صراع معلن على تمرير الموازنة بين أطراف تحالف إدارة الدولة؛ فقد كانت لرئيس مجلس النواب اعتراضاته على قانون الموازنة، بداية من فكرة الموازنة لثلاث سنوات التي يعتقد أنها ستفقده القدرة على الضغط على الحكومة لضمان مصالحه المالية والسياسية! كما أن أطرافا داخل الإطار التنسيقي نفسه ليست مستعدة لمنح رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني سلطات مالية واسعة قد تمكنه من تكرار ظاهرة نوري المالكي في الأعوام 2010 و 2014 عندما تمكن من استخدام الوفرة المالية لتشكيل جمهور زبائني خاص به حوّله إلى الرقم الأكبر شيعيا.
المفارقة هنا أن جميع هؤلاء صوّت على الاتفاق السياسي الذي تشكلت بموجبه الحكومة الحالية، والذي تضمن فقرة تشير إلى تجنب أية إجراءات تصعيدية والتريث في الإجراءات التي تخص حكومة إقليم كردستان والشركات النفطية العاملة فيه، لتجنب الإضرار بالاقتصاد الوطني، والعمل بشكل شفاف لحين تشريع قانون النفط والغاز خلال ستة أشهر من تاريخ تشكيل الحكومة، وهو ما أفضى إلى اتفاق سياسي بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بهذا الشأن، فالجميع، كان يعلم يقينا أن ثمة صفقة ستتوصل إليها الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بشأن قرار المحكمة الاتحادية المسيس حول النفط والغاز الذي اُتّخذ في سياق الضغط على أربيل ومعاقبتها جراء تحالفها مع السيد مقتدى الصدر!
لا يمكن فهم هذا العبث إلا بإدراك مفهوم الدولة الفاشلة والهشة وهو النموذج الذي يجسده العراق بالنظر إلى المؤشرات الموجودة من فوضى الصلاحيات والاختصاصات، وعدم احترام الدستور، وفشل المحكمة الاتحادية في ضمان مهنيتها، وتحولها إلى أداة سياسية، وتحول سلطات الدولة ومؤسساتها إلى إقطاعيات للقائمين عليها، ومنطق الصفقات الذي يحكم كلّ شيء، كل تلك المؤشرات إنما تكرس هذا الفشل وتؤكد تلك الهشاشة!