- ℃ 11 تركيا
- 24 نوفمبر 2024
يحيى الكبيسي يكتب: العراق عن احتكار المجال العام والخطاب التكفيري!
يحيى الكبيسي يكتب: العراق عن احتكار المجال العام والخطاب التكفيري!
- 14 يوليو 2023, 12:20:36 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ليس ثمة تاريخ إسلامي موحد، بل ثمة مدونتان سنية وشيعية لهذا التاريخ، ولكل منهما مقدماتها التي لا تلتقي مع الأخرى! مع كل ما يترتب على ذلك من سرديات يتعامل معها المؤمنون بها على أنها حقائق مطلقة لا يدخلها الشك، وتتشكل، في محصلتها، فكرة الإيمان/ الاعتقاد نفسها.
ولا توجد هناك إشكالية في ذلك ما دامت تلك المدونات/ السرديات، مقتصرة على المجال الخاص، فهي، في الأساس، جزء من حرية الفكر والوجدان والمعتقد، التي يصونها الدستور والقوانين، شرط أن لا تُفرَض على المجال العام، بطبيعة الحال، لاسيما إذا كان في المعتقد مظاهر تعصب أو تمييز أو تكفير صريح ضد الآخر!
تتفق المدونتان السنية والشيعية في الرواية حول واقعة «غدير خم» والتي حدثت بعد حجة الوداع مباشرة، لكنهما تختلفان تماما في تأويل خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالمدونة السنية تتمحور حول فكرة أن لا وصية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بالإمامة، أو إمامة أهل بيته فيما بعد، فيما ترى المدونة الشيعية أن الوصية بالولاية/ الإمامة كانت لعلي وأهل بيته من بعده، وأن من أنكر ذلك ولم يؤمن به فهو «كافر» بالإجماع!
يروي الكليني في كتابه «الكافي»: «وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض صلى الله عليه وسلم حتى بين لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيله وتركهم على قصد سبيل الحق، وأقام لهم عليا عليه السلام علما وإمام» وهو يكفر صراحة في مواضع عديدة من الكتاب كل من لا يؤمن بهذه «الإمامة» ليس لعلي وحده، وإنما للأئمة الآخرين من بعده، فالإيمان بالنسبة إليه يعني «الإيمان بولاية علي والأوصياء» وأن من جحد إماما من الله لن «ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم»!
ويروي الصدوق في كتابه «ما لا يحضره الفقيه» الحديث الآتي: «من جحد إماما برئ من الله وبرئ منه ومن دينه فهو كافر مرتد عن الإسلام، لأن الإمام من الله، ودينه دين الله، ومن برئ من الله فهو كافر ودمه مباح في تلك الحال إلا أن يرجع ويتوب إلى الله عز وجل مما قال»!
وينقل الطوسي في كتابه «تهذيب الأحكام»: «ولا يجوز لأحد من اهل الإيمان أن يغسل مخالفا للحق في الولاية ولا يصلي عليه إلا أن تدعوه ضرورة لذلك من جهة التقية… وإذا صلى عليه لعنه في صلاته ولم يدع له فيها» ويشرح ذلك بقوله: «فالوجه فيه أن المخالف لأهل الحق [أي من لا يؤمن بالإمامة] كافر فيجب أن يكون حكمه مع الكفار»!
الطائفية حين تتجسد وتتحول من وجود بالقوة على المستوى النظري، إلى وجود بالفعل على المستوى العملي، عبر الدولة ومؤسساتها، عندها فقط يمكن الحديث عن «الطائفية»
هذا الخطاب التكفيري الصريح كان يجب أن يبقى حبيسا في بطون هذه الكتب، وفي أسوأ الأحوال أن يبقى محصورا في نطاق الحيز الخاص المتعلق بالدرس الديني العالي، ولكن هذا لم يحدث، فقد كان ثمة إصرار على إدخال هذا الخطاب في مناهج التعليم الأولي، ففي كتاب «تاريخ الحضارة العربية الإسلامية» للصف الرابع الإعدادي/ الأدبي «نجد النص الآتي: «ومن كتب الحديث المعتبرة عند الإمامية الكتب الأربعة (الكافي) للكليني… و (من لا يحضره الفقيه) لابن بابويه الصدوق… و كتابي «التهذيب) و (الاستبصار) للطوسي» والكتاب الأخير هو مختصر لكتاب تهذيب الأحكام !
لكن في الوقت نفسه تصدر كلية العلوم الإسلامية في جامعة بغداد كتابا رسميا تقول فيه: «يحذف الاستشهاد في الرسائل والأطاريح والتدريس والمناهج الدراسية والكتب المساعدة أينما ورد ذكر لابن تيمية وابن قيم الجوزية وكذلك أي كتاب مثير للفرقة والتجزئة»!
والسؤال هنا لماذا يتم «السكوت» عن خطاب تكفيري صريح « يثير الفرقة والتجزئة» يرد في كتب محددة، ويتم «ملاحقة» خطاب تكفيري صريح آخر يرد في كتب أخرى؟ لا يمكن فهم ذلك إلا من خلال محاولة احتكار المجال العام، وفرض مدونة/ سردية دون أخرى، وتأويل أحادي على هذه الخطابات تبعا لتحيزات المحتكر!
لم يقتصر الأمر على مناهج التعليم، فقد كان هناك، ولا يزال، إصرار على عد «يوم الغدير» عيدا وطنيا، دون اعتبار للحساسية التي يمثلها اعتراف الدولة بمناسبة تحمل في طياتها تكفيرا صريحا لنصف الشعب العراقي، و 90٪ من الشعوب الإسلامية! بل وجدنا تحالف الإطار التنسيقي يقيم احتفالا بهذه المناسبة، تضمن خطابا لا يقل تكفيرية من على منصة الاحتفال؛ فرئيس مجلس الوزراء الأسبق يقول في كلمته بالنص: «ونحن حينما نقول عن الغدير وما ورد عنه لا نقول فقط عن كتبنا وإنما عن كتب كل المسلمين يذكرون هذا العيد ويذكرون هذه الحادثة ويؤيدونها ولكن الشيطان غلب عليهم» في تدليس متعمد بين الاعتراف بالواقعة، وبين الاعتراف بالولاية/ الإمامة، وفي تكفير صريح لمن لا يعترف بالولاية/ الإمامة بأن الشيطان غلب عليه! فضلا عن خطاب طائفي من طرف يمثل الدولة العراقية، يرى بأن يوم السقيفة هو مؤامرة، ويصف صحابيا بالخبيث، وآخر بالخائن! وقد جاهر بذلك في حضور رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب اللذين كان يستمعان إلى خطاب «تكفيرهما» في «خطاب طائفي متهافت» وهما يبتسمان!
لا يتعلق الموضوع هنا بالصراع التاريخي بين السنة والشيعة، أو بما تحمله مدونة كل منهما تجاه الآخر، بل يتعلق الأمر بالدولة العراقية وبتحيزاتها، ويتعلق بمحاولة احتكار المجال العام وفرض هوية أحادية عليه، ويتعلق بخطاب الكراهية والتكفير المسكوت عنه!
لا يمكن للدولة أن تتبنى مدونة دون أخرى، أو تعترف بسردية دون أخرى، وأن تفرض هذه السردية على المجال العام، في ظل مجتمع متنوع لديه معتقداته المختلف عليها بين أطياف الشعب! فهذا الانحياز يعرَض فكرة العيش المشترك إلى الخطر، فضلا عن أنه ينقض، من الأساس، منطق الدولة التي يفترض أنها حيادية تجاه مواطنيها!
في سياق هذا الاحتكار المنهجي للمجال العام، يُبتزُ كل من يعري الدولة وتحيزاتها، ويعري الخطاب التكفيري، من خلال اتهامه بالطائفية في محاولة لإسكات أي صوت يقوم بتعرية الطائفية الحقيقية ويفضحها!
قلنا مرارا إن الطائفية لا تتحقق إلا عبر الدولة نفسها، فالشعور أو السلوك الطائفي الفردي، أو حتى الجماعي، مهما كان واضحا، يبقى هامشيا غير ذي قيمة خارج السياق الاجتماعي، وهو قابل للتقييد عبر وسائط الضبط الاجتماعي أولا، والقانوني ثانيا. لكن الطائفية حين تتجسد وتتحول من وجود بالقوة على المستوى النظري، إلى وجود بالفعل على المستوى العملي، عبر الدولة ومؤسساتها، عندها فقط يمكن الحديث عن «الطائفية»!
كاتب عراقي