يسري عبدالغني :هذا الرجل اسمه طلعت حرب

profile
د. يسري عبدالغني ناقد وكاتب
  • clock 8 يوليو 2021, 8:12:52 م
  • eye 670
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

 يرتبط اسم طلعت حرب في تاريخ مصر باستقلال مصر الاقتصادي وتحرير اقتصادها من السيطرة الأجنبية المتوحشة ، ومن هنا يضعه العديد من الكتاب والباحثين في مصاف أعظم الشخصيات في تاريخ مصر الحديث ، والأبطال الوطنيين .

وحتى ندرك معًا أهمية طلعت حرب الزعيم الاقتصادي الوطني الكبير ، فإن اقتصاد مصر في ذلك الوقت كان واقعًا تحت سيطرة الأجانب ، فقد كانوا يملكون مساحات كبيرة من الأراضي المصرية ، كادت تصل إلى نصف الأراضي المصرية تقريبًا ، وكان متوسط ما يملكه الأجنبي من الأراضي 79 فدانًا مقابل فدانين وثلث فدان يملكها المصري ، وفي الوقت ذاته كان الأجانب يملكون معظم المشروعات الصناعية والتجارية ، حيث كان نصيب رؤوس الأموال الأجنبية في هذه الشركات يبلغ 61 مليونًا من الجنيهات مقابل 6 ملايين فقط يملكها المصريون ، وقد استغل الأجانب هذه السيطرة في التحكم في حياة المصريين الاقتصادية ، وتكبيلهم بالديون ونزع ملكية الأراضي التي يملكونها ، ناهيك عن سوء المعاملة ، والاستغلال الذي يفوق الحد .

 وقد دفع ذلك الوطنيين المصريين إلى التفكير في إنشاء بنك مصري وطني تكون مهمته تخليص الأراضي من يد الأجانب ، ومساعدة المصريين على تمويل إنشاء الشركات التجارية والصناعية ، واستثمار أموالهم في المشروعات النافعة ، وقد جرى هذا التفكير في إنشاء بنك مصري في أثناء الثورة العرابية ، ولكن الفكرة ماتت بعد احتلال بريطانيا لمصر في سنة 1882 .

 على أن فكرة إنشاء البنك ظلت تراود الوطنيين المصريين ، خصوصًا بعد أزمة ماليه حدثت في عام 1907 ، كانت من نتيجتها أن استطاعت البنوك الأجنبية نزع ملكية أراض قدرها مليون ومائة ألف فدان فيما بين سنتي 1907 و 1913 ، فتجددت الدعوة لإنشاء بنك مصري ينقذ اقتصاد البلاد من يد الأجانب على أن هذه الدعوة لم يقدر لها أن تتحقق إلا بعد أربعين سنة على ظهورها ، على يد محمد طلعت حرب .

 كان مولد محمد طلعت حرب في 25 نوفمبر سنة 1867 ، في ناحية قصر الشوق ، التابعة لحي الجمالية بالقاهرة ، وكان والده موظفًا في مصلحة السكك الحديدية ، وبعد أن أتم تعليمه الثانوي بالمدرسة التوفيقية في القاهرة ، التحق بمدرسة الحقوق الخديوية  في أغسطس 1885 ، وحصل على شهادتها ، كما حصل على مرتبة الشرف في امتحانات الترجمة ، وكانت اللغة الأجنبية التي يجيدها اللغة الفرنسية .

 تشرب طلعت حرب الروح الوطنية في مدرسة الحقوق الخديوية التي كانت في ذلك الوقت تشهد نشاطًا وطنيًا كبيرًا يقوم به الطلبة ، وكان من زملاء طلعت حرب في المدرسة زعماء وطنيون أصبح لهم اسم مشهور في المستقبل ، مثل : الزعيم الوطني / مصطفى كامل ، والزعيم الوطني / محمد فريد ، كما كان يدرس له وطنيون مرموقون مثل : مؤسس الحركة التعاونية الزراعية في مصر / عمر لطفي ، والشاعر الأديب والمثقف الكبير / حفني ناصف .

 وقد أتيح لطلعت حرب أن يتعرف على أساليب رأس المال الأجنبي في نهب البلاد ، بعد تخرجه في الحقوق ، عندما عمل في الدائرة السنية ، وهي أراضي الخديوي إسماعيل التي كانت مرهونة مقابل القروض التي اقترضها ، ثم تقرر بيع هذه الأراضي وفاء للديون التي كانت أصلاً للأجانب ، وكان منصب طلعت حرب وقتها مديرًا لمكتب تسوية المنازعات .

 وفي عام 1905 ، ترك طلعت حرب العمل الحكومي ، وعين مديرًا لشركة مهمة من شركات استصلاح الأراضي ، هي شركة كوم أمبو ، وكان اختيار طلعت حرب لإدارة هذه الشركة دليلاً على ما تمتع به وقتذاك من مهارة وصلات مع رجال المال والأعمال في مصر ، وكان رجال المال في ذلك الوقت معظمهم من اليهود المصريين ، الذين كانوا يلعبون دورًا مهمًا في الاقتصاد المصري ، وقد عين أحدهم فيما بعد وزيرًا للمالية المصرية ، وهو يوسف قطاوي باشا .

 وفي عام 1908 انتقل طلعت حرب من شركة كوم امبو ، ليصبح مديرًا للشركة العقارية المصرية ، والتي كان مجالها أوسع بكثير ، ففي حين كانت عمليات شركة كوم امبو تجري أساسًا في مديرية (محافظة) قنا بمصر العليا (صعيد مصر) ، فإن مجال عمليات الشركة العقارية المصرية ، كان يشمل الدلتا المصرية كلها ، وقد سمحت ملكيات الشركة الواسعة في مديرية (محافظة) الغربية لطلعت حرب بالتعرف على كثير من عائلات الأعيان البارزة .

 وقد كان عمل طلعت حرب في الشركة العقارية المصرية نقطة تحول في حياته ، فبالإضافة إلى أنه تدرب على الأعمال المالية على يد خبراء مهرة ، فقد أتيح له الاطلاع على هذا المنجم من الذهب المسمى بميدان المال ، والذي كان يغرف منه الأجانب ، وفي الوقت نفسه أدرك أن استقلال مصر السياسي الذي يحارب من أجله أبناء مصر ، لن يكون له قيمة إذا لم يستند إلى استقلال اقتصادي قوي ، وإذا لم يسيطر المصريون على اقتصادهم .

 وقد أتيح لطلعت حرب في تلك الأثناء أن يعمل كوكيل لعدد من ملاك الأراضي المصريين البارزين ، ومن هؤلاء : فؤاد سليم الحجازي ابن لطيف سليم الحجازي ، الذي كان من الشخصيات الوطنية العامة ، وأحمد بليغ باشا الناظر السابق للدائرة السنية ، والأهم عمر سلطان باشا أبرز أعضاء عائلة سلطان ذات النفوذ الواسع في مديرية (محافظة) المنيا بصعيد مصر ، بما أفاده في إقامة علاقات مع عدد أكثر من أقوى العائلات ، وهي العلاقات التي أفادتهم فيما بعد في تأسيس بنك مصر ، أول بنك وطني تعرفه بلادنا .

 وفي هذه الفترة من حياة طلعت حرب انخرط في الحياة السياسية ، وكان على صلة بالحزب الوطني ، وكتب الزعيم الوطني الشاب / مصطفى كامل مقالاً في صحيفة (أللواء) ، هنأ فيه طلعت حرب لكونه أول مصري يعين مديرًا لاثتنين من أهم الشركات في مصر ، وهما شركة وادي كوم أمبو والشركة العقارية ، على أنه عندما ألف أستاذ الجيل / أحمد لطفي السيد حزب الأمة في عام 1907 ، انضم إلى هذا الحزب ، وظهر اسم طلعت حرب بين الأعضاء المؤسسين لصحيفة الجريدة ، وهي لسان حال حزب الأمة ، وكتب عدة مقالات فيها في سنوات 1907 و 1908 و 1910 .

 أقول لكم : لقد وقف طلعت حرب موقفًا وطنيًا كأي وطني غيور على بلاده ، من مسألة مد امتياز شركة قناة السويس في عام 1910 ، عندما سعت الشركة الأجنبية لمد امتيازها أربعين عامًا لينتهي عام 2008 بدلاً من عام 1968 ، وأثار هذا الطلب سخطًا ومشاعر حادة بين الوطنيين المصريين ، وقد شكلت الجمعية العمومية ، وهي المجلس النيابي الثاني إلى جانب مجلس شورى القوانين ، لجنة خاصة لدراسة المقترحات ، وكلفت اللجنة الوطنية طلعت حرب بإعداد تقرير ، وقد حدد طلعت حرب في هذا التقرير الخسائر المالية التي ستتعرض لها مصر لمد الامتياز ، الأمر الذي أتاح للمعارضين حجة قوية لرفض مد الامتياز ، وفي نفس العام أصدر طلعت حرب كتابًا بعنوان : (قناة السويس) ، أوضح فيه رأيه في مشروع مد الامتياز ، قال فيه بالحرف الواحد : " نرى المشروع ، من كل وجهة قلبناه عليها ، مشروعًا ضارًا لا تصح الموافقة عليه " ، ويقال أن الرئيس الراحل / جمال عبد الناصر اطلع على هذا الكتاب ، ضمن الكتب والدراسات التي اطلع عليها قبل اتخاذه قرار تأميم قناة السويس سنة 1956 .

 وفي عام 1911 ، كانت فكرة إنشاء بنك مصر قد أصبحت مطلبًا للوطنيين المصريين في أرجاء مصر ، ولذلك عندما انعقد المؤتمر المصري الأول في شهر أبريل 1911 ، اقترحت لجنته وجوب إنشاء بنك مصر برؤوس أموال مصرية خالصة ، وقد رأى طلعت حرب زيادة الشرح في اقتراح اللجنة ، فوضع في سنة 1913 كتابه المشهور (علاج مصر الاقتصادي ومشروع بنك المصريين) ، أو كما سماه البعض (بنك الأمة) ، وفي هذا الكتاب أحاط فيه بحالة مصر الاقتصادية منذ عهد الخديوي إسماعيل ، واستعرض المحاولات التي بذلت في سبيل إنشاء بنك مصري يضطلع بمهمة إقراض المصريين والتعامل معهم ، وبين بالأرقام والوقائع الحاجة الماسة لإنشاء هذا البنك والوطني .

 وفي ذلك الحين كان الواقع الاقتصادي لمصر يدفع الكثيرين من كبار ملاك الأرض جديًا للتفكير في هذا البنك الوطني ، فقد كانت رقعة الأراضي الزراعية محدودة ، وكانت أسعارها تتزايد باستمرار ، في الوقت الذي انخفضت فيه أسعار المحاصيل الزراعية بسبب سيطرة الأجانب ، ولم يعد استثمار المال في شراء الأراضي يحقق الربح المنشود ، وقد نبه طلعت حرب إلى هذه الحقيقة أكثر من مرة في كتاباته العديدة ، التي أتمنى أن نعيد طباعتها أو نشرها وقراءتها قراءة واعية فاحصة ، لعلنا نستفيد منها في واقعنا الحاضر ،  وبالطبع أثناء الاضطلاع على هذه الكتابات لا ننسي اختلاف الظروف والأخوال ، ولكن الثوابت باقية .

 يقول طلعت حرب : لقد دخل في يد كثير من أهل مصر أموالاً كثيرة في السنوات الأخيرة ، ففيم استعملوها ؟ ، استعملوا معظمها في نوع الاستثمار الذي ألفوه ، وهو شراء الأراضي الزراعية ، وتهافتوا عليها حتى أغلوا ثمنها ، هذا حسن ، ولكن إذا نظرنا إلى مجموع الأمة المصرية ، هل نجد إيرادها قد زاد بانتقال الفدان من يد لأخرى ؟ ، وهو هو بعينه  يعطي إيراده مهما ارتفع ثمنه ، إن تلك الأموال التي دخلت في يد المصري واستعملها في شراء الطين (الأراضي الزراعية) ذهب معظمها هباء في زيادة ثمن الأراضي بتهافته على شرائها ، وعدم تنويعه طرق استثمار ماله .

 ونواصل حديثنا فنقول :إن الحرب العالمية الأولى كانت هي الفرصة الحقيقية لطبقة أصحاب المال والأعمال لتذوق الربح الذي كان وقفًا على الأجانب ، فقبل الحرب كانت مصر سوقًا دوليًا تتنافس فيها الأمم الصناعية الكبرى ، حتى انخفضت فيه أسعار السلع الأجنبية إلى حد لم يدع أملاً في نشوء صناعات وطنية تستطيع منافستها ، ولكن قيام الحرب أدى إلى اهتمام الدول الصناعية الكبرى بخدمة المجهود الحربي على حساب المنتجات الصناعية ، كما انسحبت كثير من رؤوس الأموال الأجنبية من مصر ، وقد أفاد أصحاب رؤوس الأموال المصريين من هذه الظروف حيث قاموا بإنشاء بعض المشاريع الصناعية من جهة ، وزيادة رأس أموالهم في البنوك من جهة أخرى ، ومن هنا أدرك كثير من المصريين الوطنيين ، ومنهم طلعت حرب ضرورة تطوير صناعة محلية ، وتمثل اهتمامهم في إنشاء الحكومة المصرية لجنة التجارة والصناعة في سنة 1916 ، من كبار الرأسماليين المصريين ، وعلى رأسهم : طلعت حرب ، وإسماعيل صدقي ، وأمين يحيى ، ويوسف قطاوي ، لدراسة الأسس التي تقوم عليها الصناعة المصرية الوطنية .

 وعندما انتهت الحرب العالمية الأولى ، وقامت ثورة 1919 الشعبية ، التي اشتركت فيها جميع طبقات الشعب ، من أجل الاستقلال ، والتي كانت لها قادة ، وأفكار من نخبة واعية مثقفة تحركها ، و أهداف واضحة مفهومة ، أي أنها لم تكن هوجة أو مؤامرة وضيعة يقوم بها بعض المأجورين الذين لا هدف لهم إلا جلب المال من أعداء الوطن الذين يريدون له الخراب .

 لقد شعر طلعت حرب أن هذه الروح الوطنية المتأججة في قلب الشعب المصري هي الفرصة المناسبة لتحويل حلم إنشاء بنك وطني مصري إلى حقيقة واقعة ، بنك تساهم فيه كل الأمة ، ويستفيد منه كل فرد على أرض مصر ، ولذلك هب يحفز الهمم ، ويضرب على الوتر الحساس في كل طبقة لكي   يحشدها وراءه .

  نقلب في الدوريات القديمة لنجد خطابه الذي ألقاه يوم 7 من مايو سنة 1920 ، الذي يوجهه للشعب المصري بمختلف فئاته وطبقاته ، وبالذات الشباب الناهض ، حيث يقول : في البلاد شباب ناهض يريد عملاً فلا يجده ! ، بل يريد أن يتمرن على عمل ، فلا يجد بابًا يطرقه ، تأسست في مصر مدارس للتجارة عليا ومتوسطة وليلية (أيام كان لدينا مدارس ليلية يستكمل خلالها كل من فاته قطار التعليم تعليمه إلى آخر مراحله) ، فماذا كان نصيب متخرجيها ؟ ، هل شغلت البنوك أو الشركات أحدًا منهم ؟ ، اللهم لا  ، إلا النادر الذي لا حكم له ، بينما نجد الباقين يشتغلون في الغالب كتبة في المصالح الحكومية ، وما كان هذا الغرض من تأسيس هذه المدارس !! .

 ثم خاطب طلعت حرب التجار المصريين ، الذين كانوا يعانون من منافسة العناصر الأجنبية لهم وسيطرتها على الأسواق بسبب جهلهم بالأساليب الحديثة للتجارة ، فوعدهم بأن البنك سيعمل بالاتحاد مع حضرات التجار على تنظيم الحالة التجارية ، وإنشاء الغرف التجارية ، والنقابات ، والشركات التعاونية وغيرها ، للدفاع عن مصالح أعضائهم ، ودرس أنجح الطرق لترقية شئونهم ، وزيادة أرباحهم ، بتحسين طرق البيع والشراء ، وترتيب الأعمال وتنظيم الحسابات .

 كما توجه طلعت حرب أيضًا إلى ملاك الأراضي ، وأصحاب المصانع ، فوعد بأنه سوف يعمل معهم على تأسيس النقابات ، وشركات التعاون اللازمة لهم ، وللدفاع عن مصالحهم ومحاصيلهم ومصنوعاتهم ، مؤكدًا على أن البنك ملك للجميع ، ملك  لكل مصري ، وأن الذي سيقوم بأموره وإدارته من المصريين ، والكل يعمل من أجل هدف واحد هو ترقية الشئون المصرية ، وتنظيم الحركة الاقتصادية بالبلاد .

 وأخيرًا تمكن الاقتصادي الوطني / طلعت حرب من تأسيس بنك مصر بمرسوم سلطاني صدر في 3 من أبريل 1920 ، وكانت مجموعة المؤسسين تتكون من ثمانية من العاملين في مجال المال والأعمال ، وهم : أحمد مدحت يكن باشا ، و يوسف قطاوي باشا ، وعبد العظيم المصري بك ، وعبد الحميد السيوفي بك ، والدكتور / فؤاد سلطان ، واسكندر مسيحه ، وعباس بسيوني الخطيب ، وبالطبع كان على رأسهم طلعت حرب .

 وقد اشترط أن تكون الأسهم اسمية ، ويكون بقاؤها بيد مصرية ، حتى لا يشترك الأجانب أو أي فرد غير مصري في التأسيس ، وحتى لا يكون الاشتراك في التأسيس بغرض المضاربة بالأسهم في سوق الأوراق المالية بالبيع والشراء ، وقد حث طلعت حرب المساهمين المصريين ، على عدم المضاربة قائلاً : إن المساهم لم يساهم في البنك ، على ما نعتقد ، ليضارب بأسهمه ، بل نذهب لأكثر من ذلك : ماذا يضير الأمة التي تعودت على الموقف ، لوقف بعض بنيها جزء من مالهم على استقلال بلادهم الاقتصادي ، واعتبروا الأسهم من أول يوم وقفًا لا بيع فيها ولا شراء ؟ ! .

 هذا ، وقد ترتب على جهود طلعت حرب في هذا الصدد أن تعزز مركز بنك مصر بما أخذ يتلقاه من المصريين في كل مكان على أرض مصر ، فعندما تأسس البنك كان راسماله 80 ألف جنيه في سنة 1920 ، فارتفع رأس المال إلى نصف مليون جنيه في 26 يناير سنة 1925 ، ثم بلغ في ديسمبر سنة 1937 ، مليونًا كاملاً ، وارتفع عدد المساهمين من ثمانية في سنة 1920 ، إلى 9356 مساهمًا في 30 ديسمبر سنة  1934 ، وأما الودائع فقد ارتفعت من مائتي ألف جنيه في سنة التأسيس لتصبح 45 مليون جنيه في نهاية عام 1947 .

 الحق يقال : إن هذا النجاح الكبير دفع طلعت حرب إلى النزول في ميدان تكوين أو تأسيس الشركات الصناعية والتجارية ، الأمر الذي جعله يجمع بين صفة الرأسمالية المالية، وصفة الرأسمالية الصناعية والتجارية ، وهذا التحول يعتبر الميلاد الحقيقي أو الصحيح للرأسمالية الصناعية المصرية ، فحتى ذلك الحين لم تكن الصناعة الحديثة معروفة للمصريين ، كما أنه لم تكن هناك هيئات خاصة تعمل على تمويل الصناعات الكبيرة ، وإنما كانت الصناعة المصرية في ذلك الحين مقصورة على المشروعات الفردية المحدودة التي تتبع نظم الإنتاج الفنية العتيقة ، ولكن ذلك كله تغير بعد اتجاه طلعت حرب إلى تكوين الشركات الصناعية والتجارية الحديثة .

 ففي المدة من عام 1922 إلى 1928 ، أي في نحو ست سنوات فقط أنشأ طلعت حرب عشر شركات تجارية صناعية كبرى ، اتبعت في تنظيمها وإدارتها وتشغيلها أحدث النظم العلمية ، وغطت الميادين التالية : شركة مصر للطباعة 1912 ، شركة مصر لحلج الأقطان سنة 1924 ، شركة مصر للنقل والملاحة النهرية سنة 1925 ، شركة مصر للسينما سنة 1925 ، شركة مصر لغزل ونسيج القطن سنة 1927 ، شركة مصر لمصايد الأسماك سنة 1927 ، شركة مصر للكتان سنة 1927 .

 وقد أدى ظهور هذا الاتجاه الصناعي إلى تأسيس اتحاد الصناعات المصري في عام 1922 ، لتأييد الصناعة المصرية والدفاع عن مصالحها ، وتذكر كتب تاريخ الاقتصاد المصري أنه في ذلك الحين لم تكن مصر قد عدلت نظامها الجمركي على نحو يكفل حماية صناعاتها ، لسبب بسيط هو أنه لم تكن هناك صناعات مصرية تستحق الحماية الجمركية ، ولكن بعد إنشاء شركات بنك مصر الصناعية أصبحت الضرورة تقتضي حمايتها من منافسة الصناعات الأجنبية المثيلة ، عن طريق فرض رسوم جمركية عليها تكون عالية بحيث تكون المنتجات المصرية أرخص منها ، ويقبل المستهلكون على شرائها بما يدعم الاقتصاد الوطني .

 نقول : إنه في الوقت نفسه فإن النضال الوطني لم يلبث أن أدى إلى إلغاء الامتيازات الأجنبية في مصر سنة 1937 ، وأصبح في وسع الحكومة المصرية فرض الضرائب على أصحاب رؤوس الأموال الأجنبية في مصر الذين يشتغلون في الصناعة والتجارة .

 على أن قيام الحرب العالمية الثانية كان له أثرًا سلبيًا كبيرًا على بنك مصر ، إذ أقبل الكثيرون وتحت تأثير الخوف من ظروف الحرب ، ونتيجة الشائعات المغرضة التي روجها من لا ضمير لهم ولا وطنية ولا انتماء ولا ولاء ، ونتيجة لمؤامرات الحاقدين   الذين كانوا يتمنون أن يعود الاقتصاد القومي المصري إلى الوراء مئات الخطوات كي يتسع لهم الميدان للسلب والنهب والاستغلال ومص دماء الشعب المسكين ، نتيجة كل ذلك سحب العديد من الناس ودائعهم من بنك مصر ، وهي الودائع التي استخدم جزء منها في تمويل بعض المشروعات ، ولم يكن لدى بنك مصر سيولة نقدية كافية لمواجهة هذا الظرف الطارئ ، فاتجه طلعت حرب مضطرًا إلى الاقتراض من البنك الأهلي المصري ، وطلب إلى الحكومة المصرية مساعدته في الضغط على البنك الأهلي ليقبل بإعطائه القرض ، وقد قبلت الحكومة المصرية بشرط استقالة طلعت حرب من إدارة بنك مصر ، ولم يتردد الفارس النبيل في كتابة استقالته ، إنقاذًا للبنك وشركاته .

 وقد أثرت هذه الأزمة على صحة الزعيم الوطني النبيل الشريف  الاقتصادي الكبير / محمد طلعت حرب أول من مصر الاقتصاد المصري ، وأنشأ بنكًا وطنيًا قوميًا ، فلم يلبث طويلاً حتى فاضت روحه إلى باريها ، في 21 من أغسطس سنة 1941 ، ولكن بعد أن أرسى دعائم الاستقلال الاقتصادي المصري ... رحم الله طلعت حرب جزاءً وفاقًا لما قدم من جهود رائعة للرقي والنهوض بمصر .

التعليقات (0)