يسري عبدالغني يكتب : المدينة قاعدة الإسلام رؤية حضارية

profile
د. يسري عبدالغني ناقد وكاتب
  • clock 9 أغسطس 2021, 1:14:25 م
  • eye 908
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تمهيد في مدخل : 

 لقد كانت هجرة الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) إلى يثرب التي بايعه أهلها على السمع والطاعة ، من متطلبات الأمن الذي افتقده في مكة ، حيث كانت قريش مصدر إزعاج للنبي (عليه الصلاة والسلام) وللمسلمين لا يأمنون فيها على أنفسهم فأمر النبي أصحابه بالهجرة إلى المدينة بعد أن بايعته جماعة من الأوس والخزرج على توفير الطمأنينة والاستقرار والأمن لهم إذا هاجروا إلى مدينتهم يثرب ، ومنذ بركت ناقته في مربد لغلامين يتيمين من بني النجار ، اشتراه منهما ليتخذه مكانًا آمنًا لمسجده ومسكنه ، كما أن أبا أيوب الأنصاري (رضي الله عنه) أنزله في بيته معززًا مكرمًا ، ومع هذا فقد خطط (عليه الصلاة والسلام) ليقيم نظام دولة أساسه الأمن والتحالف والتعاون مع قبائلهم على اختلاف عقائدهم ، لأنه كان من بينهم اليهود وبعض المسيحيين .

أمن الوطن جوهره التكافل الاجتماعي : 

 لا يتحقق الأمن في مكان من الأماكن إلا عندما تربط أفراد هذا المكان روابط وتجمع بينهم وشائج المحبة والمودة والتعاون ، وبدون هذه الرابطة التي تدفعهم إلى المعيشة المشتركة مطمئنين ، لن يسود الأمن ، فالقلق إذا ظهر في جماعة ما لا يجعلها تستقر ، لكن الشعور بالأمن يدفع الإنسان إلى العمل الجاد المثمر ، لأنه اطمئنان على نفسه وماله وممتلكاته ، وهكذا فالمجتمع الوطني يتكون من جماعة أو جماعات تقطن منطقة ، وتزاول أنشطة ذات مصلحة مشتركة ، ولها تنظيم اجتماعي وإداري يحكم علاقات أفراده ، ولهم قيم ومشاعر مشتركة ، ولابد أن يكون من قواعد هذا التنظيم الأمن ، لأنه أساس وجوهر ازدهار   المجتمع .

 ولقد كان مجتمع المدينة مجتمعًا يضم جماعات عنصرية ودينية مختلفة لكل منها معتقداتها وشعائرها وتقاليدها ، ومن الطبيعي أن تكون أولى المشاكل في مثل هذه المجتمعات ، مشكلة : الفرقة والانقسام وعدم الانسجام ، ومن أهم المتطلبات تحقيق الوحدة الوطنية بين أفراد هذا المجتمع ، ليستطيع البناء ، والدفاع عن نفسه ضد العدو المتربص به ، وهو قريش التي ظلت تقاوم تيار الدين الإسلامي .

 لقد ضم أهل المدينة قبائل يهودية هي : بني قريظة ، وبني نضير ، وبني قينقاع ، وغيرها ... ، وكان هناك الأوس والخزرج ، ورغم إسلامهما إلا أنه كان بينهما نزاع في الجاهلية ، وحرب طاحنة ، كما كان هناك المهاجرون من مكة ، لهذا واجه قائد الدولة الإسلامية رسول المحبة والرحمة  (عليه الصلاة والسلام) مهمة صعبة في سبيل خلق روح التضامن الاجتماعي بين هذه الجماعات التي تعيش في وطن واحد ، وعلى الجميع أن يعيشوا متعاونين آمنين على أنفسهم ، وأعراضهم ، وأموالهم ، من أجل أن يستمر بينهم السلام والأمن على أساس من الإخاء والتعاون .

الأخوة ركيزة أمن الوطن : 

 أخذ الرسول (عليه الصلاة والسلام) على عاتقه وضع أسس وركائز هذا المجتمع الجديد ، وأعد وثيقة ترسي قواعد التعاون ، وأدخل نظامًا يذيب الأساس القبلي الذي كان  سائدًا ، ويلغي نظام العصبية ، وهذه الوثيقة حددت أسس التعامل بين الجماعات ، ومن أسمى أهدافها توفير الأمن للجميع ، وبدأ بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، أي أنه ألف بينهم بأخوة الإسلام والإيمان ، فالمسلم أخو المسلم ، وكان الهدف من الأخوة القضاء على وحشية الغربة التي تدخل القلق على النفس ، وتدفعها دفعًا في بعض الأحيان إلى الانحراف ، وبهذا تشكل خطرًا على أمن الوطن والمواطن .

 ولا شك أن الأخوة من الركائز الأساسية للتضامن الاجتماعي لأنها تقضي على حب الذات والأنانية الفردية ، وتساعد على تقوية روح الجماعة ، والمصلحة العامة ، كما ألغت فوارق الأصل ، والنسب ، واللون ، وخاصة بعد أن آخى الرسول (عليه الصلاة والسلام) بين عمه حمزة بن عبد المطلب ، ومولاه زيد بن حارثة ، وآخى بين عمار بن ياسر ، وحذيفة بن اليمان ، وبهذه تأكدت روح الإيثار وترعرعت في مجتمع المدينة أواصر المحبة والوفاء ، كما ظلت حقوق الإخاء مقدمة على حقوق القرابة ، وأصبحت الأخوة بين المسلمين أساس التضامن ، والتماسك بين المجتمع وأفراده .

 وهكذا كانت وثيقة المدينة هي الدستور الذي ينظم علاقة الأفراد ويحدد الحقوق والواجبات والحريات العامة لأفراد مجتمع قاعدة الإسلام  (المدينة) ، حيث تؤكد هذه الوثيقة على أن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم ، وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس ، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، وأن ليهود بني النجار ، وبني حارث ، وبني ساعدة ، وبني ثعلبة ، وجفنة ، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف .

الأمة ووحدة الوطن : 

 الأمة في اللغة : الجيل أو الجماعة من الناس ، أو الجيل والجنس من كل حي ، وكل من كان على دين الحق مخالفًا لسائر الأديان ، فهو أمة واحد أو واحدة ، ونبي الله إبراهيم (عليه السلام) كان أمة ، قانتًا لله تعالى ، وفي علم التاريخ والاجتماع يعني لفظ أمة أنها طائفة من الناس ، تربطهم أواصر الجنس أو اللغة أو الدين ، ولهم هدف مشترك ، ومصلحة واحدة ، يدافعون عنها ، ويموتون فغفي سبيلها ، لأن حياة الأمة وكرامتها في عزهم                 وكرامتهم .

 كما يقصد بالأمة أيضًا : كل جماعة تجمعها حياة مشتركة كالقبيلة التي تربطها أواصر القربى ، ويعيشون في مكان معين ، ولهم رئيس أو حاكم يلتزمون بأوامره ، لأنه مكلف بحمايتهم حتى يعيش آمنين مطمئنين ، عندما يرعى مصالحهم ، ويدافع عن حرياتهم وحقوقهم ، وما دام يوفر الحماية والأمن لهم فهو جدير برئاستهم .

السلطة القضائية والأمنية : 

 وسلطة رئيس القبيلة كالقاضي ، كرجل الأمن مسئول عن الفصل في المنازعات التي تقع بين أفراد قبيلته ، فيصدر حكمه على المتخاصمين طبقًا للشريعة المعمول بها ، أو تبعًا للتقاليد المرعية ، وله سلطة رجل الأمن لأنه يقوم بتنفيذ الحكم ، وإلزام الظالم برد المظلمة ، ودفع الدية أو الغرامة المقررة تنفيذًا لحكمه الذي أصدره ، فهو بهذا يجمع بين السلطة القضائية والتنفيذية ، ووفقًا المضمون السابق فقد يكون الدين ، ووحدته أساسًا من أسس تحديد الأمة ، فقد تضم الأمة أديانًا مختلفة وجنسيات مختلفة لكنها تنتظم في كونها أمة واحدة لها أهداف مشتركة تجمع هذه الجنسيات والأديان ، وتوحد بينها عندما يحدق الخطر بها .

 ومفهوم الأمة قد يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمفهوم الوطن والدفاع عن أمنه ، وحماية حدوده ، والذود عنه ، وقت الخطر ، لأن عزة الوطن من عزة الأفراد ، فإذا اعتدي على الوطن ، وضاعت حريته ، وفقد استقلاله ، فقد المواطنون كرامتهم وحريتهم ، وقد تولى السلطة التشريعية والقضائية والأمنية في المدينة رسول الله (عليه الصلاة والسلام) فكانت بيده مقاليد الحكم والتشريع ، ولو أنه عهد إلى أبي بكر أو عمر بن الخطاب (رضي الله عنهما) بالقضاء والشرطة .

 كما أن الفاروق عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) حين أصبح أمير المؤمنين ، عهد إلى علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) بالقضاء ، وتولى شخصيًا مهمة الشرطة أي حفظ الأمن والنظام ، حيث كان يعس ، أي يسير بالليل من أجل أن يطمئن بنفسه على استتباب الأمن والنظام .

حرية الدين وأمن الوطن :

 حددت الوثيقة النبوية ، والتي كتبها النبي (عليه الصلاة والسلام) حرية العبادة ، وأقرت اليهود على دينهم ، وعلى عقائدهم ، مؤكدة على أن لليهود دينهم ، ومواليهم ، وأنفسهم ، وكان هدف الوثيقة أن يعيش جميع سكان المدينة آمنين في وطنهم ، على أنفسهم ، وأموالهم ، وأعراضهم ، وممتلكاتهم ، ولهم حرية التعبير (الرأي والفكر والقول) ، بشرط أن يتعاون ويتضامن الجميع لما فيه الصالح المشترك لمدينتهم ، وألا يعتدي أو يظلم أحد غيره ، وبهذا يتحقق السلام والأمن والأمان ، عندما يتعامل الجميع على أنهم أمة واحدة ، فمن توافقوا في الدين فهم أخوة في الله ، ومن تخالفوا في الدين فهم أخوة في الوطن .

 واعتبرت الوثيقة التي أعلنت لأهل المدينة أو لقاعدة المجتمع الإسلامي يثرب (المدينة) حرمًا أمنًا لأهلها ، كما أقرت الصحيفة حرية التنقل الآمن بشرط عدم الإخلال بالنظام العام ، والقانون ، وأنه من خرج فهو آمن ، ومن قعد بالمدينة فهو آمن بالمدينة ، إلا من ظلم نفسه .

التحالف والتعاون لحماية الوطن :

 لقد تضمن دستور المدينة نصوصًا واضحة صريحة على التحالف والتناصر بين أبناء الوطن الواحد ، وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ، وأن النصر للمظلوم ، كما أن بينهم النصر على من دهم يثرب ، حيث قالت : إن من تبعنا من يهود فإن له النصر ، والأسوة ، غير مظلومين ، ولا متناصر عليهم ، وكل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضا .

 وأشارت الصحيفة كذلك إلى أمور هي ألا يحل لمؤمن أقر بما في الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثًا ولا يأويه ، وأن من نصره أو أواه فإن عليه لعنة الله ، وغضبه يوم القيامة ، ولا يأخذه منه صرف وعدل .

الولاية الواحدة والذمة الواحدة :

 أوردت الوثيقة أن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس ، وألا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه ، ووردت فيها كلمة (ذمة) وتعني العهد والأمان لأصحاب الديانات الأخرى ، لدخولهم في عهد المسلمين وأمانهم ، فإذا أعطى المسلم لأحد آمانًا جاز ذلك على جميع المسلمين ، وليس لهم أن ينقضوا هذا العهد .

 كما تؤكد الوثيقة التي يمكن القول بأنها أول وثيقة لحقوق الإنسان ظهرت في العالم ، أو أول وثيقة للحقوق المدنية عرفها التاريخ الإنساني ، تؤكد على أن الجار كالنفس غير مضار ، معلنة بوضوح وجلاء عدالة الإسلام الحنيف ، وسماحته ، ورقيه ، وتحضره ، ذلك الدين القيم الذي أنزل على محمد نبي السلام والمودة بين الجميع (عليه الصلاة والسلام) .

وحدة الفداء والسلم : 

 لأن الإسلام دين السلام والرحمة ، فقد أشارت الصحيفة إلى فداء الأسرى ، ودعت إلى السلم ، فورد فيها : إذا سلم المؤمنون واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء وعدل بينهم ، كما أنه إذا دعا اليهود إلى صلح يصالحونه . 

 أما موضوع فداء الأسرى فعلى كل قبيلة أو جماعة من أهل المدينة أن تتولى فداء أسراها ، فالمهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاملون فيما بينهم ، وهم يفدون عانيهم أي أسيرهم بالمعروف والقسط أي العدل بين المؤمنين ، وكذلك كل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف ، أي تتحمل فداء الأسرى ودفع الدية .

العدالة في الوطن : 

 العدالة سمة دولة صدر الإسلام ، وهي أساس الحكم ، تأمر بها الشريعة الإسلامية الغراء ، ويطبقها الخلفاء الراشدون (رضوان الله عليهم) ، فقد أمر أمير المؤمنين / عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قاضي البصرة العراقية أبا موسى الأشعري بالعدالة والمساواة بين الخصوم مهما كان حسبهم أو نسبهم ، ونحن جميعًا نحفظ ما جاء في وصيته الذهبية : " آسن بين الناس في : وجهك ، ومجلسك ، وعدلك ." .

 أي اعدل بينهم ، فلا فضل لواحد على الآخر ، فالناس جميعًا سواسية كأسنان المشط أمام الله و القانون ، والعدل أساس صلاح أي أمة .

 وسبقت ذلك الوثيقة التي كتبها الرسول (عليه الصلاة والسلام) لأهل المدينة حين   قالت : وعلى اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وعلى إناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم .

 وبالطبع فإن العدالة من الأمور التي يتوقف عليها أمن المواطنين الموجودين في المدينة ، وتحقيق العدالة يرتبط كل الارتباط بأن الوطن ككل ، وهذه هي العدالة والأخوة التي جاء بها الإسلام الحنيف ، فحقق العدالة بين الناس ، وأمر بالإخاء والمساواة ، فلا فضل لإنسان على غيره ، ولا تمييز بين الجميع مهما اختلفت قبائلهم ، وأجناسهم ، وعقائدهم ، وألوانهم ، وقد خلقهم الله شعوبًا وقبائل من أجل أن يتعارفوا ، ويتبادلوا الآراء والأفكار والخبرات والتجارب ، من أجل واقع أفضل لهم جميعًا ولذويهم ، ولم يخلقهم ليتصارعوا ، أو يتحاربوا ، ولكن من أجل أن يعمروا المعمورة الأرضية بالحب والخير والسلام .

 وأخيرًا فقد كنا نتمنى الحديث عن المضمون الاجتماعي والاقتصادي في هذه الوثيقة (دستور المدينة ) ، لأنه من الجوانب المهمة التي يجب أن نعرفها ، إلا أننا سنرجئ هذا إلى مجال آخر إذا كان في العمر بقية ... 

التعليقات (0)