إدريس آيات يكتب: تراجع ترامب عن فرض التهجير هل هو بسبب الضغط العربي؟

profile
د. إدريس آيات أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت، وخبير في الدراسات الاستراتيجية والأمنية الأفريقية
  • clock 21 فبراير 2025, 10:41:21 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
إدريس آيات يكتب: تراجع ترامب عن فرض التهجير هل هو بسبب الضغط العربي؟

في تصريح مفاجئ، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أنه لن يفرض خطته بشأن غزة، بل سيكتفي بتقديم “توصيات”. وعلّق قائلاً: “فوجئت بعدم ترحيب الأردن ومصر بالخطة التي طرحتها بشأن غزة، ونحن نقدم لهما مليارات الدولارات سنوياً، ولن أقوم بفرض خطة التهجير”. بهذا الاعتراف الرسمي، يقرّ ترامب بأن مصر وقفت أمام مشروع تهجير الفلسطينيين، في مؤشر واضح على فشل المخطط تدريجياً.

لم يكتفِ ترامب بهذه التصريحات، بل زادها غطرسةً بلهجة إمبريالية متهكمة قائلاً: “القطاع يتمتع بموقع رائع، وأتساءل لماذا تخلّت عنه إسرائيل؟” وكأنّ هذه الأرض لا أهل لها، وكأنّ شعبها ليس سوى تفصيل زائد في حسابات القوى العظمى!

بالتوازي مع ذلك، اجتمع قادة الدول العربية في قمة مصغّرة بالرياض، ضمّت مصر، السعودية، الأردن، الإمارات، قطر، الكويت، والبحرين، حيث تصدّرت القضية الفلسطينية جدول أعمالهم. ويبدو أن هذا اللقاء غير الرسمي، جاء كخطوة استباقية لتوحيد الموقف العربي ضد محاولات واشنطن وتل أبيب فرض أمر واقع جديد في غز/ة، ما يعكس مستوى القلق العربي تجاه هذه التحركات.

بغض النظر عن التفسيرات المختلفة حول الدافع الحقيقي وراء الموقف العربي الرسمي مؤخرًا عن رفض التهجير، وما إذا كان نابعا من اعتبارات سياسية أم التزامات أخلاقية، فإن العامل الحاسم يبقى موقف مصر، التي رفض رئيسها عبد الفتاح السيسي حتى مناقشة أي مخطط لتهجير الفلسطينيين خلال لقائه مع ترامب. يرى البعض أن هذا الرفض يستند إلى مبدأ وطني وقومي، فيما يراه آخرون قراراً سياسياً مدروساً، لكن في نهاية المطاف، يظلّ البعد الجيوسياسي هو الأكثر أهمية في هذه المسألة في قراءاتي.

على المستوى الاستراتيجي، أدرك القادة العرب متأخرين أن غزة ليست مجرد قضية فلسطينية، بل باتت خط الدفاع الأول عن سيادة دولهم وأمنهم القومي. تهديدات ترامب بترحيل الفلسطينيين إلى سيناء، أو إلى أراضي السعودية والأردن، كشفت عن أبعاد أعمق للمشروع الصهيوني، الذي يقوم على اقتطاع أجزاء من الدول العربية، ضمن رؤية طويلة المدى تمتدّ لمائة عام إن لم تكن أكثر، وهي الخطة التي يمشي عليها اليمين المتطرف في إسرائيل على تفسيرات توراتية، وهو اعتقاد جازم لدن إسرائيل. فمنذ إعلان ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، ومنحه الجولان السوري للاحتلال، بات واضحًا أن الهدف النهائي هو إعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط، بشكل يخدم المصالح الإسرائيلية دون أدنى اعتبار لسيادة الدول العربية.

أما بالنسبة لمصر، فإن موقفها ليس فقط دفاعًا عن غزة، بل أيضًا عن مصالحها الحيوية. يدرك الخبراء الاستراتيجيون أن تهجير الفلسطينيين هو الخطوة الأولى نحو تنفيذ مشروع “قناة بن غوريون”، البديل الإسرائيلي لقناة السويس، والذي يهدف إلى خنق الاقتصاد المصري وإضعاف دورها البحري العالمي. المشروع الإسرائيلي، الذي يتضمن شق قناة تربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط عبر قطاع غز/ة، سيمثل تهديدًا وجوديًا لمصر، وسيخلق خط دفاع حصين لإسرائيل في أي مواجهة مستقبلية مع القاهرة. من هنا، تدرك القيادة المصرية أن مصير غزة مرتبط بمصير مصر نفسها، وأن السماح بتهجير الفلسطينيين ليس سوى تمهيد لضرب السيادة المصرية في الصميم.

كل هذا يفسر التصعيد العسكري المصري خلال الأشهر الأخيرة، وتزايد الإنفاق على التسلح. فرغم اتفاقية “كامب ديفيد”، لم تتخلّ العقيدة العسكرية المصرية عن احتمالية اندلاع مواجهة مستقبلية مع إسرائيل. المسؤولون الإسرائيليون أنفسهم أبدوا دهشتهم من حجم التسليح المصري، حيث تساءل أحدهم مؤخرًا: “لماذا تتسلح مصر بهذا الشكل؟ لا يوجد تهديد يواجهها!”، متناسيًا أن الخطر الحقيقي على الأمن القومي المصري كان ولا يزال الكيان الصهيوني، حتى مع كل الاتفاقيات الموقعة.

في المقابل، تدرك إسرائيل أن رفض مصر لخطط التهجير يعني إفشال المشروع بالكامل. لذلك، سارعت إدارة ترامب إلى تزويد تل أبيب بأسلحة متطورة بقيمة 7 مليارات دولار، تضمنت أكثر من 1000 قنبلة من نوع “يوم القيامة”، وهي ذخائر لا تستخدم في مواجهة فصائل المقاومة، بل موجهة لاستهداف بنى تحتية كبرى، في رسالة غير مباشرة إلى القاهرة. من السذاجة الاعتقاد بأن هذه الترسانة معدّة فقط لغز/ة، فالواقع أن مصر هي الطرف الوحيد القادر على منع المخطط الإسرائيلي من التحقق، وهو ما يجعلها الهدف النهائي لهذه الصفقات العسكرية.

من هنا، تتأكد ضرورة التكاتف العربي والإفريقي لدعم الموقف المصري، بصرف النظر عن أي خلافات سياسية داخلية حول النظام الحاكم. الخطر الآن يتجاوز الأفراد والأنظمة، ليصل إلى بقاء الدول ذاتها. وإذا نجح الكيان الصهيوني في فرض واقع جديد في غزة، فإن السيناريو نفسه قد يتكرر في أماكن أخرى، سواء في جنوب إفريقيا حيث يحاول المستوطنون البيض التمسك بالأراضي التي نهبوها من السود، أو في ناميبيا، أو حتى في جزر موريشيوس التي بدأت بريطانيا في التراجع عن وعودها بإعادتها لأصحابها. المسألة لم تعد مجرد قضية فلسطينية، بل باتت تتعلق بالمصير المشترك لشعوب الجنوب العالمي في مواجهة الإمبريالية الجديدة.

ختامًا، يجب أن ندرك أن السياسة ليست ترفًا أخلاقيًا، بل فن إدارة الممكن. في عالم تسوده المصالح، لا مكان للمثالية المجردة، بل يتطلب الأمر بناء تحالفات حتى مع من نختلف معهم لمواجهة المخاطر الكبرى. وإذا كان المشروع الصهيوني قائمًا على استغلال التناقضات داخل العالم العربي، فإن الردّ الوحيد هو تجاوز الخلافات الداخلية، ورسم معادلة جديدة تحفظ للأمة كرامتها ووجودها.

التعليقات (0)