- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
د. ناصر محمد معروف يكتب: آية النحل وسر الصلوات الخمس
د. ناصر محمد معروف يكتب: آية النحل وسر الصلوات الخمس
- 30 مايو 2023, 5:55:48 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
سؤال: لماذا كان نزول جبريل في صلاة الظهر بالذات ليعلمها للنبي ﷺ دون غيرها من الصلوات؟
الإجابة:
أَمْرُ الصلوت أَمْرٌ غريب فعندما تقرأ قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِّلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ) النحل ، نجد أنّ الآية تحدثنا عن كيف تشرق الشمس في الصباح والأرض يغطيها الظلّ فتبدأ الشمس بإزالة الظل حتى تصير في كبد السماء وتستوي ، ثم يبدأ الظل بإزالة الشمس إلى أنْ يزيل الظل الشمس كاملةً ، ويغطي الظلّ الأرض ثم يبدأ الليل.
ظلُّ الصباح يسمى ظلا والشمس تزيله ، وظلُّ مابعد الظهر يسمى فيئا لأن لفظة الفيء: رجوع ، أي رجوع الظل ، فالظلُّ يزيل الشمس.
إن حياة الإنسان كاليوم تماماً ، فالمثل في القرآن ماديٌّ لنسقطه على المعنويات، فالصغير يبدأ حياته بالإغلاقةحيث يغطيه كاملاً ، فيبدأ في النضوج ويستنير عقله حتى يستوي ويصبح مكتملاً عند انتصاف عمره مع بلوغ الأشُدّ، ثم يبدأ هذا الإغلاق يعود تدريجياً ، ويبدأ ضعف البصر وفقدان الذاكرة تدريجياً ، إلى أن يكتمل الإغلاق حتى يأتي الموت.
وفي الصباح تكون الأرض مغطاةٌ بظلٍّ واحد ، ومصدر النور واحد وهو الشمس التي تبدأ بإزالة هذا الظلّ ، وكذلك الإيمان والتوحيد فإن مصدره واحدٌ وهو الله الواحد ، ولأجل ذلك أفرد اليمين ، أما عندما يبدأ الظلّ بالرجوع فإنّه لا يكون ظلاً واحداً ، إنما ظلال حسب الأماكن والأشياء ، ولذلك جمع الشمال بالشمائل ، لأن مصادر الظلّ مختلفة ، فالحيطان والأشجار والخيام وغيرها ، فمصدر الضلال مختلف ، فالشيطان والنفس والهوى ، والمال والمنصب ، والنساء والعشيرة... وهكذا.
والعجب أنّ الصلوات تبدأ عندما يبدأ الظلّ بالتعدد فلا صلاة من طلوع الشمس إلى وصولها كبد السماء ، ثم مع تعدد الظلّ تبدأ الصلوات بصلاة الظهر ، وكأنه يريدنا أن نؤكد توحيدنا وقت اختلاط الأشياء وتعدد الأفكار والظلمات ، ولذلك قال: (الشمائل سجدا لله وهم داخرور) ، فحياة الإنسان تخضع لقانون الله رغماً عن أنفه فيعود الإغلاق عنده شيئاً فشيئاً دون أرادته حتى يكتمل ، كما اليوم تماماً.
إن فترة الصباح ، من شروق الشمس إلى الاستواء لم يفرض الله فيها أي فريضة ، وهكذا فإن بداية العمر لم يفرض الله على العبد فيها أي فريضة ، فهي مرحلة إعداد وتجهيز حتى يكتمل الاستواء والنضوج.
ومع اكتمال النضوج والاستواء ، تبدأ الصلوات ، وقد جاء جبريل وقت الزوال للنبي ﷺ يعلمه الصلاة، ففي الحديث (جاءَ جبريلُ إلى النَّبيِّ حينَ زالتِ الشَّمسُ فقالَ : قُم يا محمَّدُ فصلِّ الظُّهرَ حينَ مالتِ الشَّمسُ ، ثمَّ مَكَثَ حتَّى إذا كانَ فَيءُ الرَّجلِ مثلَهُ جاءَهُ للعَصرِ فقالَ : قُم يا محمَّدُ فصلِّ العصرَ ، ثمَّ مَكَثَ حتَّى إذا غابتِ الشَّمسُ جاءَهُ فقالَ : قُم فصلِّ المغربَ ، فقامَ فصلَّاها حينَ غابتِ الشَّمسُ سواءً ، ثمَّ مَكَثَ حتَّى إذا ذَهَبَ الشَّفقُ جاءَهُ فقالَ : قُم فصلِّ العشاءَ فقامَ فصلَّاها ، ثمَّ جاءَهُ حينَ سطعَ الفَجرُ في الصُّبحِ فقالَ : قُم يا محمَّدُ فصلِّ ، فَقامَ فصلَّى الصُّبحَ) النسائي ، فمع زوال الشمس تبدأ الصلوات ، ولذلك كانت الصلوات كما يلي:
(١) صلاة الظهر:
نلاحظ في الحديث أنَّه وبمجرد الاستواء والنضوج وميل الشمس كانت صلاة الظهر ، وهكذا فلا صلاة إلا مع نضوج العبد واستوائه ، حيث يصبح قادراً على إنجاب مثله ، فالنضوج والاستواء يستحق الشكر والخضوع لله فكانت صلاة الظهر هي البداية.
(٢) صلاة العصر:
نلاحظ أنه وعندما صار ظل الرجل مثله جاء جبريل ليعلم النبي ﷺ صلاة العصر ، حيث كان ظل الرجل كطوله ، وهذا يعني أنّ وقت العصر من الفجر إلى الفجر ، هو منتصف اليوم بالنسبة للنهار والليل، وهذا دليل على أنّ فترة الإغلاق أطول من فترة الانفتاح ، ففترة الشمس قصيرة جداً بالنسبة لفترة الظل والظلام ، ولذلك فهو تنبيه للعبد أنَّ اكتمالك ليس طويلاً فلا تغتر ،وعجِّل بالقرب والطاعة ، وعجِّل في الإنجاز ، فهي فرصتك فلا تضيعها ، ولذلك كانت صلاة العصر هي الصلاة الوسطى ، ففي يوم الأحزاب قال النبي ﷺ: (شغلونا عن صلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا) أحمد ، وهذا دليل على أنَّ العبد يكون قد رشد في سن الأربعين وانتصف عمره ومطلوب منه أن يستقيم ويجتهد في نصرة الدين والطاعة ، ((حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَى وَعَلَى وَالِدَى وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرِّيَّتِى إِنِّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّى مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) الأحقاف
(٣) صلاة المغرب:
ومع غياب الشمس جاء جبريل ليعلم النبي ﷺ صلاة المغرب ، فقد عم الظل الأرض مرة أخرى وبدأ دخول الظلام ، وكان الرجوع إلى الله القادر ، وهكذا فالعبد يجب ان ينتبه ، فإذا أنعم الله عليه ووصل سن الستين فلا عذر له فلا تقبل منه الغفلة أبداً ، وما أجمل أن يُكَثِّف العبد من التوبة والعبادة والرجوع إلى الله ، والعجب في ذلك قول النبي ﷺ: (أَعْذَرَ اللَّهُ إلى امْرِئٍ أخَّرَ أجَلَهُ، حتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً) البخاري.
(٤) صلاة العشاء:
ظَلَّ بعد الستين بصيص أمل إلى أن غاب الشفق نهائياً ، فجاء جبريل الى النبي ﷺ وكانت صلاة العشاء وبدأ الليل بظلامه ، وكان الموت والسكون بعد ذلك ، فالإغلاق التام إلا منْ رحم الله تعالى، ((وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ)) النحل ، ولذلك كان ((مَن صَلَّى العِشَاءَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ)) مسلم ، فمن ذهب إلى المسجد وقت الركون إلى السكون استحق أن يكتب من الذاكرين فيأخذ جائزة قيام نصف الليل.
(٥) صلاة الفجر:
الفجر وهو عودة الضوء من جديد ، وكان آخر وقت جاء فيه جبريل إلى النبي ﷺ وكانت صلاة الفجر ، ولا غرابة أنْ قدم الله الموت على الحياة ، فارجوع والحياة من جديد حتماً ، قال تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) الملك ، وقال((كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ۖ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)) البقرة ، فسبحان الله ، فإن الفجر هو انفجار النور من جديد ، ولنتذكر ، قوله تعالى: ((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) المطففين ، والنبي ﷺ قال: (يقوم الناس لرب العالمين، حتى يغيب أحدهم في رشْحه إلى أنصاف أذنيه) متفق عليه ، وهنا لا يعجل السباق إلى الله والخضوع له إلا العقلاء الذين عرفوا أن الله هو الذي بث أرواحهم من جديد فسارعوا إليه ، وتعَجَّلوا ، ولذلك كان هؤلاء في ذمة الله دون غيرهم ، ومن صلاها في المسجد حُقَّ له أن يأخذ عبادة وقت السكون المظلم ، لذلك قال ﷺ: (وَمَن صَلَّى الصُّبْحَ في جَمَاعَةٍ فَكَأنَّما صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ) مسلم.
وهكذا كانت الآية مثالاً ماديأً لنتعلم منه فلا نغفل عن واجباتنا وخضوعنا لله طواعية قبل أن نخضع له إرغاماً ولا مفر من لقائه سبحانه