سامح المحاريق يكتب: جدلية البشر والحجر وأسئلة التنمية في المنطقة العربية

profile
  • clock 21 يوليو 2023, 12:04:27 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في رحلاته المتعددة إلى أوروبا ودخوله القصور المختلفة للملوك والنبلاء، وتجواله في شوارع العواصم الاستعمارية الكبرى، تبلور مشروع الخديوي إسماعيل لتحويل القاهرة إلى قطعة من أوروبا، ومع توليه السلطة في مصر أغدق في الإنفاق على مشاريع البنية التحتية والمباني والقصور، التي استنزفت الخزينة المصرية وفتحت الباب للتدخل الاستعماري.
«ح اتجن يا ريت يا اخوانا ما رحتش لندن واللا باريس».. هكذا بعدها بسنوات كتب الشاعر بيرم التونسي، في تلك المرحلة، كانت المدينتان تشكلان عاصمتين لامبراطوريتين استعماريتين، بمعنى وجود حاجة مبررة لأجهزة إدارية كبيرة احتاجت لوجود بنايات ضخمة تستطيع أن تستوعب ذلك الزخم، وفوق ذلك، توطد مجموعة من العلاقات العملية التي تنعكس اجتماعياً وتميل إلى البساطة والاختزال والفاعلية، جعلت التونسي يعتقد أنها لوازم أساسية في المجتمعات وتعكس تهذيباً أصيلاً داخلها، وفي الحقيقة تمثلت في مجموعة من العلاقات التي تقوم على الحد الأدنى من الاحتكاك الاجتماعي، الذي يولّد المشكلات وسوء الفهم لتصبح مدخلاً للتأثير في كفاءة كامل المنظومة.

التخطيط يبدأ في أوروبا من الأسفل إلى الأعلى، وحسب الحاجات التي تقدمها مجتمعات ناضجة تستطيع أن تتفهم العائد والتكلفة في المدى القصير والبعيد،

ومن قبله، كان تونسي آخر، وهو السياسي البارز في الدولة العثمانية خيرالدين التونسي، يقدم استطلاعاً واسعاً للواقع الأوروبي في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» الذي يشبه تقريراً استخباراتياً مطولاً، ويركز على الجانب المادي الذي يتجلى جزء كبير منه في البنية التحتية والإدارية التي ترتبط بها، وكان الكتاب مدخلاً لتعزيز الرؤية الإصلاحية في الإمبراطورية العثمانية وما أظهرته من فرق في التحديثات الشكلية غير المرتبطة بحراك اجتماعي وسياسي حقيقي من شأنه أن يجعلها تتجاوز المظاهر الشكلية للنمط الأوروبي. في السنوات الأخيرة، أخذت بعض المدن العربية تقدم نماذج من البنية التحتية والمباني الإدارية والسكنية تجاوزت النموذج الأوروبي، وتكاد تقترب من نماذج نيويورك وهونغ كونغ، وعلى الرغم من وجود مبررات مثل توفر الثروات التي تتطلب إدارتها أجهزة إدارية موسعة لتوزع استثماراتها في مختلف أنحاء العالم، والقدرة على استقطاب الشركات العالمية، إلا أن المبالغة تظهر واضحة وتصبح غاية في حد ذاتها، ونموذجاً لوضع العربة أمام الحصان. المظاهر الاستعمارية التي تمثلت في بنية تحتية كبيرة، وعلى قدر كبير من الجودة في المدن الأوروبية المختلفة، خاصة لندن وباريس، مثلت رأساً لجبل الجليد الذي تتعمق منه تحت الماء ثقافة عامة تطورت في قرون طويلة من الحروب والتسويات الناتجة عنها، أي مسيرة من التعلم الجمعي التي أسست لقبول الآخر بما أمكن من خلق فكرة التجاور في الفضاء المديني، والتفهم لطبيعة الخدمات المشتركة، وهو الأمر الذي لم يتوفر عند الشعوب العربية إلا في المدن الكبيرة والقديمة مثل القاهرة ودمشق، وفي حدود معينة من الوقائع الاقتصادية، مع بقاء فكرة المحافظة على الخصوصية والسعي إلى التراصف السكني على أساس القرابة والجهوية، متوطناً يسعى لوجود فرصة من أجل التعبير عن نفسه. العامل الثقافي والتاريخي جزء من المشكلة المتعلقة بالمبالغة في الاستثمار العقاري في المنطقة العربية، لأنه لا يترافق مع ضرورة سكانية تستلزم تقديم الحلول الممكنة في صورة المباني المغايرة للثقافة وأحياناً البيئة، ويبقى العامل الآخر متعلقاً ببنية الجانب الإنتاجي في المجتمع، فالبنية التحتية والمباني الأوروبية الباذخة أتت تعبيراً عن نهضة فكرية وعلمية، عبّرت عن نفسها في صناعات تعتمد على نظام تعليمي يتجاوب مع هذه الحاجات ويخدمها، فالكثير من العلوم الحيوية أتت من تمويلات شركات صناعة الأدوية، والكثير من الأسئلة التي أجابت عليها كليات الهندسة، كانت تعبر عن أسئلة واقعية واجهت مشروعات حقيقية، وحتى على مستوى الدراسات الإنسانية، تولدت الدراسات الأنثروبولوجية من حاجات القوى الاستعمارية لبناء تصورات أعمق للشعوب في المستعمرات، توصل إلى نتائج تخدم المهمة الاستعمارية.
التجليات العقارية في أوروبا، وبعد ذلك الولايات المتحدة، نبتت في أرض الاحتياجات الحقيقية وشكلت استجابة لواقع متدفق وصاخب، أما نظيرتها العربية فكثير منها أتى انغراساً في الأرض بتدخل خارجي، ولذلك لا يتماشى مع الواقع ولا يعبر عنه، كما أن تمويلها في الحالة الأوروبية يتأتى من اقتصاديات إنتاجية تقوم على إحداث القيمة المضافة التي تستطيع أن تتواصل ما بقيت عوامل الإنتاج متفاعلة بصورة إيجابية، مقابل حالة ريعية عربية ترتبط بسياق تاريخي محدد زمانياً بتوفر مصادر الدخل الريعي، ويبقى رهانه التاريخي على الموقع الجغرافي الذي كان محفزاً للتدخل الاستعماري حتى قبل ظهور النفط بوصفه مصدر التغذية الريعية للدولة والمجتمع، لكن الحالة المرعبة تتمثل في النماذج التي لا تستطيع أن توفر الزخم التمويلي من الريع أو الإنتاج وتصر على الدخول في سباق البنية التحتية والاستعراض العقاري من غير وجود الحاجة الحقيقية، والأدهى، قيامها بتأجيل أولويات يمكن أن تعزز من إنتاجيتها مثل التعليم والتأهيل البشري لمصلحة التنافس غير البناء بالنسبة لواقعها وظروفها.
المحصلة، لا يوجد أي مبنى في أوروبا الغربية ضمن أعلى مئة مبنى في العالم، لأن الأطر الديمقراطية وجهت الأولوية لتغذية دولة الرفاه الاجتماعي، والتخطيط يبدأ في أوروبا من الأسفل إلى الأعلى، وحسب الحاجات التي تقدمها مجتمعات ناضجة تستطيع أن تتفهم العائد والتكلفة في المدى القصير والبعيد، ويبدو ذلك بعيداً للغاية عن الواقع في المنطقة العربية. وبعبارة أخرى، تستمر جدلية البشر والحجر في المنطقة في غير اتجاهها الصحيح والمنطقي.

كاتب أردني

التعليقات (0)