- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
محمد قدري حلاوة : في ذكرى سقوط الطبقة الوسطى
محمد قدري حلاوة : في ذكرى سقوط الطبقة الوسطى
- 6 يوليو 2021, 11:21:25 م
- 741
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الطبقة الوسطى بما تمثله من عامل أمان وعنصر توازن في أي مجتمع تشهد سقوطا فاجعا..لم يكن سقوط الطبقة الوسطى حدثا عرضيا أو من قبيل مصادفات القدر الداهمة.. كان يمكن لأي مراقب أن يلحظ بسهولة عواقب السياسات الممنهجة لتفتيت الطبقة الوسطى وتهميشها وتهشيمها رذاذا يذوب في مجري الطبقة الدنيا..
لم يستمع أحد لصرخات المحذرين والمنبهين لتلك العواقب وبدوا على أنهم مجموعة من "الأرذال" _ كما كان يحلو للرئيس الراحل السادات يصف معارضيه بذلك _ أو على أفضل الإحتمالات مجموعة من الكتبة والمثقفين الغارقين في نستولوجيا الماضي الغابر تقصر أعينهم عن رؤية تباشير الحاضر الزاهر..
يمكن القبض على طرف خيط بداية السقوط منذ أعلن "السادات" قوانين " الإنفتاح الإقتصادي" عام ١٩٧٤ / ١٩٧٥.. كان البلاد ما تزال تسترد أنفاسها وقد خرجت من حرب شديدة المراس.. مجتمع منهك ومتقشف بل وظل بعض الخريجين بمئات الألوف وغيرهم أكثر من ستة سنوات على جبهة القتال المستعرة... وعندما عادوا للحياة المدنية وجدوا طبقات طفيلية أخرى تبرز وتسود وتجني الثمار رغم أنها لم تدفع ثمنا أو تضحي بشئ.. بالتوازي مع كل عوامل التمزق المجتمعي طفت ظاهرة الهجرة إلى بلاد النفط لأصحاب المؤهلات العليا والعمال والفلاحين.. وبدت الهجرة كالطوفان الذي يجرف كل شئ في طريقه.. الأرض والعقول والسواعد.. وطغت أنهار البترودرلار تسري في عصب المجتمع وتشكل ملامحه و أفعاله وحركاته الإرادية واللا إرادية.. وفاضت ظاهرة "السلع المستوردة" و " البوتيكات" و " المناطق الحرة".. وعلت قيمة الإستهلاك فوق أية قيمة أخرى.. بل توارت كل القيم مفسحة المجال للثمن الذي صار هو السيد الحاكم في كل المجالات والسياسات والقرارات..وبدأت ظاهرة التناقض الفاجع بين الأجور والأسعار وطفا مفهوم التضخم ليصبح أفعى معتصرة ضخمة يسعى الجميع للسيطرة عليها ويفشلون في مسعاهم أيضا..
لم تغفل الثقافة الشعبية عن رصد التحولات المجتمعية في أي مرحلة من مراحل حياة المجتمع أو أي تغير يطرأ على ثفافته.. ووصفوا المظاهر أوصافا دالة تشير من جانب آخر للتحولات المادية وفي الفكر والثقافة والمخيلة...فمثلا في تلك الفترة أطلقوا على "الجنيه" وصف " اللحوح" أي الشئ القادر على تحريك كل شئ حتى لو كان غير قانونيا.. بما يشير إلى إنتشار ظاهرة الفساد.. أما المليون جنيه فصار وصفها الشعبي " الأرنب" إشارة إلى التوالد المتوالي في الثروة و سرعة قفزها ونموها.. وبعد أن كانت السيارة " الفيات ١١٠٠" سيارة شعبية ومنتشرة وصفت " بالقردة" كناية عن صغر حجمها ودمامتها وقبحها مقارنة بضخامة ماركات "المرسيدس" التي أطلقوا عليها " الخنزيرة" و " التمساحة"..
كان كل فرد في المجتمع ينعزل داخل شرنقته.. يبحث عن أمانه الطبقي.. ولم تعد هناك قيمة أو هدف مشترك يوحدان المجتمع.. صارت علاقة الفرد بالمجتمع ترتكز على شيئين لا ثالث لهما "أن يصعد فيه _ المجتمع _ وبقوة.. وألا يهبط للأسفل ولأي سبب".. لا تكاليف ولا حقوق أو واجبات.. الدولة ذاتها بدأت تتخلى عن المواطن شيئا فشيئا.. " الخصخصة" و التدمير الممنهج للقطاع العام... ترشيد الدعم... وصولا إلى إلغاؤه..التخلي عن سياسة تعيين الخريجين وإمتداد طوابير البطالة .. لم يأبه أحد بمستويات الفقر المخيفة ومعدلاته المرعبة طالما ظل مؤشر البورصة في صعود.. لم يلتفت أحد لظاهرة إنتشار العشوائيات المطوقة للأحياء الراقية كالأحزمة الناسفة مهددة السلام المجتمعي بما تبرزه من مظاهر تباين وتفاوت.. لم يشغل أحدا ذهنه بظاهرة الهجرة من الريف للمدينة والتفاوت الفادح في مستوى الخدمات والمرافق المقدمة لهما.. لم يبال أحد بإنتشار الجريمة وتوحش أساليبها وطرقها.. لم يعتن أحد بكل تلك الدراسات الملقاة على الأرفف المتربة والتي تتحدث عن أن الفقر من أكبر عوامل توغل الإرهاب وجماعاته في المجتمع.. المهم هو أن ترتفع مؤشرات الإقتصاد ومعدلات النمو والمنحنيات البيانية الجافة.. المجتمع إذن بخير.. فقط إن غضضت بصرك عن كل تلك الأصفار الهائلة الملقاة على اليسار بلا قيمة أو أمل في الغد. .
وصارت الطبقة الوسطى محاصرة ومختنقة بين طبقتين.. الطبقة الدنيا تنظر لها _ للوسطي _ بريبة وعداء.. و طبقة الصفوة ترمقها بكبر وإستعلاء.. وإنزوي التكنوقراط وأصحاب الياقات البيضاء يلعقون جراحهم.. ولا يشغل أذهانهم سوي هم ملح واحد.. أن يمر اليوم بخير دون صاعقة تكاليف أو "فواتير" مزعجة مثقلة تربك الخطط _ القاصرة أصلا عن المواجهة _ الموضوعة لمواجهة تكاليف ومتطلبات الحياة التي لا تكف ولا تتوقف.. ولسان حالهم يلهج بدعائهم الأثير "يارب الشهر يعدي على خير".. إلى أن تمر الشهور والأعوام بخيرها وشرها.. ويمضي العمر المتوجس هباء منثورا..بين دعاء ورجاء..
منذ نحو خمسة وأربعون عاما والطبقة الوسطى تذبح بسكين بارد.. لم يعد يلاحظ منها سوي بقايا أشباح وظلال.. تلك الطبقة المتسربة نحو الأسفل في مستنقع الفقر كقطرات الماء الساقطة هباء من صنبور تالف...هي ضمير الوطن.. هل يستطيع وطن أن يحيا بلا ضمير؟..
( المقال يعبر عن وجهة نظر وإنطباعات شخصية وليست تحليلا علميا بأي حال من الأحوال)