- ℃ 11 تركيا
- 2 نوفمبر 2024
مدى الفاتح يكتب: في تذكر المارشال فيليب بيتان
مدى الفاتح يكتب: في تذكر المارشال فيليب بيتان
- 18 يوليو 2023, 3:50:07 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في مثل هذه الأيام، بالتحديد في الثالث والعشرين من تموز/ يوليو عام 1951، توفي عن عمر يناهز السادسة والتسعين، وفي منزل متواضع، الماريشال فيليب بيتان، الذي قاد فرنسا للانتصار على الألمان في الحرب العالمية الأولى، وعرف بقيادته للجيش في معركة فيردون الشهيرة (1916).
لم يكن ذلك هو كل ما يرتبط بالماريشال بيتان، بل طغى على تلك السمعة الطيبة، ما قام به في سنوات لاحقة، إبان الحرب العالمية الثانية، فبينما كانت القوات الألمانية تتقدم مرة أخرى لغزو فرنسا، كان بيتان الذي تولى منصب رئيس الوزراء عام 1940 بانتخاب البرلمانيين، يتخذ موقفاً محيراً، وهو رفض الانخراط في الحرب، وتوقيع هدنة مع أدولف هتلر بحجة تقليل الخسائر المادية والبشرية. برر بيتان لموقفه بالأزمة الاقتصادية، التي كانت تمر بها بلاده، والتي لا تجعلها جاهزة للدخول في أي معترك حربي، كما قال في تبريره أنه أراد بذلك «إنقاذ» فرنسا عبر تجنبيها مصير بولندا.
في فرنسا، كما في أي بلد آخر، سيظل هناك من سيرفض الاحتلال ويصر على مقاومة أي سلطة غازية، هنا كان مطلوباً من بيتان أن يعمل على ملاحقة هؤلاء «المخربين»
رفض الانخراط في الحرب لم يكن يعني التفاوض، أو كان يعني التفاوض على شروط الاستسلام، ففي ظل الضعف، الذي كانت تعانيه فرنسا مقارنة بالقوة الصاعدة، ألمانيا النازية، فإنه لم يكن هناك أي معنى آخر لرفض الحرب سوى الرضوخ للغزو. رضخ بيتان بالفعل للغزاة، حتى تحول من عسكري بطل إلى متعاون مع الاحتلال، وراضٍ بما ترك له من الأراضي الفرنسية. هكذا تشكل النظام، الذي سيطلق عليه اسم «حكومة فيشي»، التي كانت أشبه بمستعمرة ألمانية. لم يكن من الممكن للتفاهمات، التي أقامها بيتان مع الألمان أن تقتصر على الاستسلام السياسي والتنازل عن السيادة، ففي فرنسا، كما في أي بلد آخر، سيظل هناك من سيرفض الاحتلال ويصر على مقاومة أي سلطة غازية، هنا كان مطلوباً من بيتان أن يعمل على ملاحقة هؤلاء «المخربين» وأن يشوه صورتهم بوصفهم بأنهم مجرد متهورين غير واعين بحجم المخاطرة، وبما ستجلبه هذه المقاومة على فرنسا من تخريب وعلى أهلها من موت وضرر. اجتهد بيتان في وضع مغالطة فريدة من نوعها، تتمثل في أن ما قام به هو أسمى مراتب الوطنية، التي هي في أصلها تجنيب البلاد ويلات الحرب، في حين أن معارضي ذلك الخط «السلمي» هم الأعداء الحقيقيون لفرنسا، بل إنهم يقدمون بتهورهم هذا المسوغات للقمع العسكري والتمدد الألماني، استنادا إلى هذه المغالطة لاحق بيتان كثيرا من السياسيين والمعارضين لحكومته العميلة. مضى بيتان في «التعاون» مع ألمانيا الهتلرية إلى ما هو أبعد من ذلك، فوافق على تهجير الآلاف من اليهود، ليلقوا مصيرهم على يد النازيين، كان هذا التصرف هو إحدى النقاط، التي ظلت مثيرة للجدل في حياة بيتان، وحتى يومنا هذا. الجدل حول بيتان بدأ منذ أن قام الجنرال شارل ديغول، الذي تحول من صديق مقرب ورفيق سلاح إلى معارض لبيتان، بالتدخل لتخفيف الحكم عليه، وحفظ بعض الكرامة له اعتباراً لماضيه. ديغول، الذي قاد جناح المعارضة والمقاومة الموازي، كان يعتبر أن من المهم الاحتفاظ لبيتان ببعض التقدير. استمر الجدل حتى عام 1995، حينما قام الرئيس جاك شيراك بإعادة الاعتبار له والحديث عن أن الخطأ، خاصة في ما يتعلق بتسليم اليهود، لم يكن متعلقا به فقط، بل بعموم الفرنسيين. مؤخراً، أطلت هذه النقاشات برأسها إبان الحملة الانتخابية الفرنسية، حيث ناقش الأمر كل من المتطرف اليميني إيريك زمور والرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، وللذين اتفقا على أهمية بيتان كشخصية عسكرية وطنية، على الرغم مما قام به من «تقدير كارثي». كان ذلك التقدير ينطلق من افتراض أن ألمانيا، وبعد كل تلك الخسائر، التي لحقت بها خلال الحرب الأولى، لن تكون مستعدة لخوض حرب جديدة. لا نعلم حتى اليوم من أوحى لبيتان بذلك التقدير، خاصة أنه كان عسكريا مخضرما وذا خبرة واسعة في القراءة الاستراتيجية، هذه الخبرة لم تنجح في أن تريه، أن من البديهي أن تقوم أي قوة بالتمدد نحوك، إذا شعرت منك ضعفاً، أو إذا أوحيت لها بأنك غير مستعد للقتال.
بسبب دوره البطولي في معركة فيردون، فإن التعامل القضائي مع بيتان كان أخف من طريقة التعامل مع رفيقه بيير لافال، لافال كان يبرر الانحياز للألمان والإيطاليين بذريعة مناهضة الشيوعية والبلشفية السوفييتية. بتهم من بينها الخيانة والتخابر سوف يحكم على بيتان بالسجن المؤبد وبالتجريد من الألقاب العسكرية والممتلكات، في حين سيتم تنفيذ حكم الإعدام على لافال. المثير في الأمر كان حضور بيتان إلى فرنسا من مقره، الذي وفرته له السلطات الألمانية لحمايته، وإصراره على الدفاع المستميت عن نفسه أمام المحكمة الثورية، التي عقدت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وهزيمة «الرايخ الثالث» في عام 1945 بالموازاة مع محاكمات نورمبرغ الشهيرة ضد النازيين. فيما كان صوت الثوار والمقاومين يطالب بتنزيل أقصى العقوبات على كل المتعاونين مع الاحتلال، وعلى رأسهم بيتان، كان الأخير، الذي كان يبلغ التسعين من عمره حينها، يبدو محتفظاً بثقته بنفسه، لدرجة أنه جادل في البداية بأن المحكمة ليست مختصة، وأنه يحظى بمنصب دستوري وبهذا لا يمكن لمن هو أقل منه أن يحاكمه. لم يهتم أحد لما كان بيتان يقوله، وحتى حينما رفض أن يجيب عن أسئلة المحكمة، فإن القضاة اكتفوا بالاستماع إلى محاميه، الذي أعاد منطق موكله المتمثل في أن دافعه الوحيد لما قام به كان الرغبة في حماية فرنسا. كان المحامي يرى أن دور موكله الأول كبطل شعبي عقب الانتصار العسكري الكبير لا يتعارض مع دوره الثاني. كان من الواضح أن المحكمة، وإن وضعت أمامها مجموعة كبيرة من الوثائق الرسمية، كانت أقرب لأن تكون صورية، وأن أي تبرير يقال لم يكن ليقنعها. كان هناك ضغط كبير في الخارج من الشعب الثائر وفي الداخل أيضا عبر المحلفين والقضاة المتحيزين للمقاومة. كان الجميع يتهم بيتان بأنه تسبب بضعفه واستسلامه في الكثير من الآلام وفي الإساءة للكبرياء الفرنسي. كانت فترة الاحتلال عصيبة فعلاً، فعلى مدى أعوام كانت المنتجات الثقافية والحضارية الفرنسية تحت التهديد، فظلت اللوحات الشهيرة كلوحة «الموناليزا» مخبأة، والكنوز منتقلة من مكان لآخر خشية أن تتعرض للتدمير. قصة بيتان كان ملهمة للكثير من الباحثين والكتاب، الذين تعرضوا لها عبر أعمال مفصلة وكتب ووثائقيات، ولعل آخر ما صدر بهذا الشأن هو كتاب المؤرخ البريطاني جوليان جاكسون «فيليب بيتان.. رجل العار»، الذي صدر أواخر الشهر الماضي عن مطبعة جامعة هارفارد. حاول جاكسون في هذا الكتاب تقديم إضاءة مختلفة ومتوازنة حول تلك المحاكمة ومنطقها، وهي إضاءة تظل مهمة في ظل اختلاف الكثير من الفرنسيين حول تقييم ما قام به بيتان.
مع الاتهام الجاهز بالخيانة، يحاول منظرون إبراز الجانب الفلسفي للقضية. أولئك يعتبرون أنه لا يمكن إلقاء اللوم كله على بيتان دون تحميل الشعب الفرنسي قاطبة، من الذين وافقوا على الاستسلام وعلى ملاحقة المعترضين والمقاومين وعلى تسليم اليهود، نصيبهم من اللوم. وفق هذه النظرة فإنه لولا تلك الجماهير الراضية لما كان من الممكن المضي في سياسة الرضوخ «البيتانية».