الدكتور إيهاب عبدالسلام يكتب الغموض في الشعر الحديث

profile
إيهاب عبد السلام شاعر وناقد
  • clock 4 أبريل 2021, 12:57:13 ص
  • eye 1668
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

1- بداية ليس لدينا مشكلة في الشعر العربي؛ فشعرنا حي ومتحقق، ومتدفق في العصر الحديث، ولم يتوقف يومًا، ولم تمر علينا عشر سنوات دون شاعر مُلْهَم يتفاعل معه الناس، إنما الجنازة هي لبعض الشعراء الذين عاشوا وماتوا -وهم شعراء كبار- ولم يتركوا أثرا، ولا يَذكر لهم إنسان حرفًا، بسبب ما اكتنف شعرهم من غموض.

وإني لأرجو أن يكون كلامنا عن الغموض واضحًا، كي لا نجمع على شعرنا بلاءين، بلاء الغموض وبلاء تناول الغموض بكلام غامض.

2- القضية ليست في الغموض كوسيلة فنية، فقد لا يكون عيبًا، بل إن بعض النقاد جعله ضرورة كالدكتور القط، ويرى أن الشعر ينبغي أن يتسم بشيء من الغموض ولكنه اشترط أن يكون غموضا شفافا، يعني وراءه شيء، (أن يكون غموضا شفيفا وليس كثيفا) وخلفه معنى مفهوم إذا تدبرته. وإنما القضية في الإبهام الذي يستغلق على الفهم. 

3- أنا من جيل الثمانينات، وهذا الجيل يعد شاهدا على ذلك التحول من الوضوح إلى الغموض، وتلك الحقبة تمثل العتبة الفارقة بينهما، فقد عاصرنا الشعراء الذين لم نفهم ما يقولون، وصادقنا بعضهم، ومن هنا لا تكون شهادتنا معتمدة فقط على استقراء النصوص، وإنما أيضا على معرفة النفوس، بعض الشعراء كان يعد الغموض هدفًا وغاية، لدرجة أنني سألت أحدهم مرة عن معنى كلمة في قصيدته لا أعرفها، وبذلك لم أفهم المعنى الذي يريده، فقال: هي تاريخ سنة كذا بلغة ليست عربية (وغير معروفة) فسألته عن دلالة التاريخ، فذكر حدثًا ليست له أهمية كبيرة، وقد كان في ذلك التاريخ، وهو يومئ إليه في قصيدته، فقلت: وهل يفهم الناس هذا..؟ فقال حرفيًّا: (ما هو أنا لازم أكون غامضًا).

4- نتج عن هذا الإبهام أن افتقد الشعر جمهوره بالكلية، وصار هناك اقتناع لدى عموم الناس أن الشعر كلام غير مفهوم، وأصبح لدينا أسماء شعراء كثيرين وليس لدينا شعر، هم لديهم شعر في تصورهم، لكننا لا نذكر لهم شعرًا، هذا مقابل في وقت من الأوقات وفي زمن من الأزمنة كان لدينا شعر لا نذكر له شعراء، بل كان لدينا شعر لا يعرف كثيرون أنه شعر، وسأضرب مثلا بعبارة يذكرها أطياف من الناس: (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية)، مَنْ مِن أنصاف المثقفين أو أرباعهم أو أخماسهم لا يردد هذه الجملة؟ أعتقد أن من لا صلة لهم بالحقل الأدبي ولا علاقة لهم بالشعر يرددونها؛ ومع ذلك مَنْ الذي يعرف أنها بيت لشوقي؟ بيت على بحر الرمل في مسرحية مجنون ليلى. الشعر بهذا المعنى الواضح القوي تغلغل في الوجدان دون أن يبرز أو يلح على هويته بأنه شعر. ثم انعكس الوضع بدلا من أن كان لدينا شعر يسري في وجدان الناس دون أن يعرفوا له شاعرا، بل دون أن يشعروا أنه شعر، أصبح لدينا أسماء كثيرة توصف بأنهم شعراء كبار ولا نعرف لهم شعرًا، وعندما وُوجهوا بهذا لم ينكروه بل قالوا: (نحن نكتب للأجيال القادمة) وهذا تبرير عجيب؛ حتى إن أمل دنقل نفسه رد على هذا الزعم بقوله: «أليس للأجيال القادمة شعراؤها؟ هل كتب المتنبي نفسه لنا؟ هل كتب شوقي أو علي محمود طه أو حتى بدر شاكر السيّاب لنا؟ إننا نقرأ هؤلاء وفي مؤخرة الرأس عصرهم وتجربتهم وليس عصرنا وتجربتنا ولولا ذلك لاستغنى البياتي 1956 عن البياتي 1965، والبياتي 65 عن البياتي 75.. فلقد كتب في 1956 لجيل 1956 وكتب في 1965 لجيل 1965. إن التاريخ لا يعود للوراء. إنني لا أعرف حتى اليوم شاعرًا عربيًّا تجاوزت عبقريتُه عصرَه، بل نحن نعاني من الحالة المعكوسة؛ إنَّ غالبية من يكتبون في شكل الحداثة هم سلفيُّو الرؤية؛ انظر إلى موجة استخدام الرمز التراثي؛ لقد هجم الشعراء على التراث العربي دون تمييز، دون إعادة أجزاء الصورة إلى تركيبها المعاصر، وأحيانًا دون أن تتداخل في رؤياه الفلسفية».

5- القضية إذن ليست في الغموض فهو أقل الكلمات حدة، والغموض مسألة سهلة فقد يكون بسبب كلمة لا يعرف المتلقي معناها فإذا عرفه زال الغموض، أو حدثٍ شهير أشار إليه الشاعر لا يعرفه المتلقي فإذا عرفه زال الغموض، لكن الإبهام يعني الاستغلاق على الفهم فتفاقمت هذه الظاهرة وتجاوزت الغموض إلى الإبهام في نماذج ليست بالقليلة، فأصبح المعنى خافيًا تماما لا تكاد تقف عليه، حتى نُشِرَت عديد من الكتب تعالج تلك الظاهرة، ككتاب (الإبهام في شعر الحداثة) الصادر في عالم المعرفة 2002.

6- تفاقمت مشكلة الإبهام حتى ضج منها كثير من النقاد، بل الشعراء أيضا، ومنهم من هم محسوبون على التحديث الشعري كمحمود درويش الذي كتب:

قصائدنا بلا لونٍ

بلا طعمٍ بلا صوتِ

إذا لم تحمل المصباح من بيتٍ إلى بيتِ

و إن لم يفهم البُسَطا معانِيَها

فأولى أن نذريَّهَا

ونَخْلُدَ نحن للصمتِ!

هكذا يقفز درويش قفزة واسعة في الاتجاه المعاكس لمن قفزوا مثل تلك القفزة في اتجاه الغموض إلى حد الإبهام، فعندما يجاوز الأمر حده ينقلب إلى ضده، فاشترط أن يفهم (البسطاء) وليس النقاد أو الشعراء أو المثقفون.

7- إن الإغراق في الغموض باسم الحداثة كان سمة غالبة عليها، ومما شجَّع على انتشارها متابعة بعض النقاد لها بالتأييد والاستحسان، حتى إذا وجدوا نصًّا مفهومًا حاكوا له نقدًا غير مفهوم، وكأنَّ عدم الفهم صار من متطلبات الحداثة، وكأنّ الفهم أصبح عيبًا، يُعاب به اللسان العربي المبين، ولـمَّا كان الفهم والمتعة وجهين لعملة واحدة، افتُقِدَتْ المتعة، وأصاب ما سموه شعرًا جفافٌ شديد.

8- جرب أمل دنقل في بداية حياته الشعرية أن يكون شعره غامضا، واستطاع أن يحكم على التجربة سريعا وأن يفر تمامًا من هذا الغموض وأن يلغيه من حياته الإبداعية. 

وذلك عندما كتب قصيدة (الوقوف على قدم واحدة) وفيها:

تبقين أنت: شبحا يفصل بين الأخوين

وعندما يفور كأس الجعة المملوء ..

في يد الكبير:

يقتلك المقتول مرتين!

أتأذنين لى بمعطفي

أخفي به ..

عورة هذا القمر الغارق فى البحيرة

عورة هذا المتسول الأمير

وهو يحاور الظلال من شجيرة إلى شجيرة

يطالع الكفّ لعصفور مكسّر الساقين

يلقط حبّة العينين

لأنه صدّق _ ذات ليلة مضت _

عطاء فمك الصغير ..

عطاء حلمك القصير ..

قرأ أمل دنقل تلك القصيدة على لويس عوض، ولم يخجل لويس من أن يقول معلقا على هذا المقطع: (لم أفهم). وليست كل الحالات يصرح فيها المتلقي بأنه لم يفهم النص، لأن لويس عوض في ذلك الوقت كان أعلى قامة من أمل الشاعر المبتدئ حينها، وإذا كان المتلقي أعلى قامة انصرفت تهمة عدم الفهم إلى النص. وإذا كان الشاعر أعلى قامة انصرفت تهمة عدم الفهم إلى المتلقي سواء كان ناقدًا أو غير ناقد، وهذا ما انسحب على كثير من الحالات الأخرى التي أحجم فيها المتلقي من أن يصرح بأنه لم يفهم.

يقول الشاعر أمل دنقل معلقا على ذلك الموقف مع لويس عوض: "إن كل إنسان مرتبط بالتاريخ بشكل أو بآخر. لكن السؤال هنا ينصب حول استخدام التَّاريخ كوسيلة فنية لنقل أفكار معاصرة. لقد اهتم الرواد الأوائل باستخدام المثيولوجيا اليونانية والمسيحية؛ وهي رموز ومصطلحات لأرضية أساسية، بينما شكَّلت عاملًا من عوامل الاغتراب والغموض في قراءة المواطن العربي، وقرأتُ الإلياذة والأوديسة وقصص الحب والجمال عند الإغريق حتى يمكنني أن أتخلص من المباشرة التي تفرضها طبيعة الموضوعات التي كنت أعالجها، واتجهت إلى التاريخ المصري القديم لأستخرج من الأساطير الدينية مادة يمكنني استخدامها كرموز، لكن المأساة هنا أننا مصريون بالاسم فقط، فكل التراث المصري القديم أصبح مجرد معابد وهياكل قائمة في الصحراء لا تملك انعكاسًا وجدانيًّا حقيقيًّا على مشاعر الناس باستثناء بعض الحالات القليلة كالموت والمعتقدات الخرافية، وفي قصيدة (الوقوف على قدم واحدة) استخدمت قصة الأخوين الشهيرة في الأدب الفرعوني التي تصور الصراع بين أخوين بسبب امرأة هي زوجة أحدهما، وعندما قرأت القصيدة للدكتور لويس عوض قبل نشرها في الأهرام سألني عن هذا المقطع الذي استخدمت فيه القصة الفرعونية، ورغم أنه تذكرها إلَّا أنني سألت نفسي عن جدوى الاهتمام بتراث ثقافي لا يعيش إلا في دائرة العقل. إذن يمكننا القول: إن التراث الحقيقي الذي يعيش في وجدان الناس هو التراث العربي الذي يأخذ أحيانًا شكل التراث الإسلامي. رغم الفروق الدقيقة بين التراثين، فالعرب كانوا قبل الإسلام، ويمكننا اعتبار التراث السَّامي كله تراثًا عربيًّا، لكن التراث الإسلامي تدخل فيه معتقدات شعبية لشعوب أخرى".

وأقول أنا: "إن لحظة صدق واحدة من لويس عوض صنعت لنا شاعرا في حجم أمل دنقل، فتُرى كم ضيع الزيف منا قامات شعرية، وغيب شعرها عن واقعنا، فغابت معه..؟!

9- وتتابعت النصوص الغامضة والمبهمة، ويتوهم مبدعوها أن صمت المتلقين يعني الرضا، والصمت لا يعني الرضا في كل الحالات فقد يكون سببه الخوف من عاقبة الانتقاص.

10- عندما اطلعت على هذا الموقف بين أمل دنقل ودكتور لويس عوض في وقت مبكر، لم أخجل من أن أعلن أنني لم أفهم أي نص لا أفهمه، فأنا أعرف العربية ولدي ثقة في دراستي وعقلي، قد يخفى عليَّ معنى كلمة، ولا بأس في هذا، وسرعان ما أعرف معناها، ولكنني أفهم السياق العربي، ولا أخجل من أقول: (حضرتك شاعر وبتقول كلام شكله جميل بس أنا مفهتمش أنت عايز تقول إيه وتوصل لي إيه؟!). وإذا كانت لدينا هذه الجرأة والشجاعة ما تمادى الشعراء في كتابة ما لا يُفْهَم.

11- الذين يرددون عبارة الحاجظ: (المعاني مطروحة في الطرقات يعرفها العربي والعجمي... إلخ) ويفهمون منها أن المعاني مكرورة وليست مهمة، أسألهم: 

-  عندما قال حافظ إبراهيم: (الأم مدرسة إذا أعددتها... البيت) أين كان هذا المعنى مرميا على أية ناصية في أي شارع؟

-  وعندما قال شوقي: (... وأخف من بعض الدواء الداء) أين كان هذا المعنى مرميا على أية ناصية في أي شارع؟ 

-  وعندما قال أحمد بخيت في الثمانينيات: (مأساتنا عشق الطغاة كأننا ** لم ننس بعد عبادة الأصنام – ما مر طاغية بسور حديقة ** إلا ومات الزهر في الأكمام) أين كان هذا المعنى مرميا على أية ناصية في أي شارع؟

-  وعندما قال أحمد بخيت في الألفية الجديدة: (الشعر يشبه أن تعيش بغزة ** لا طفل يرجع مرتين لأمه) أين كان هذا المعنى مرميا على أية ناصية في أي شارع؟ وهل كانت غزة وقضيتها موجودة أيام الجاحظ ليوجد هذا المعنى؟

-  وعندما قال محمد ملوك في أيامنا هذه: (فرصي المضاعة أدمنت تكراراها ** كاللافتات على طريق خاوي) أين كان هذا المعنى مرميًّا على أية ناصية في أي شارع؟ وهل كانت هناك لافتات إعلانات على طرق الجاحظ؟

كل هذه معان حديثة لا يلتقطها إلا الشعراء المبدعون، وأمثلة ذلك كثيرة. ينبغي أن نقرأ عبارة الجاحظ في زمانها، فالجاحظ مثلا لم يقرأ بيتا للمتنبي، وهو الشاعر الأهم في تاريخنا، لأن المتنبي بعد الجاحظ بمئة سنة. 

12- عندما يكون الشاعر وجها لوجه مع الشعر والإبداع ومطالبا بأن يكون مفهوما، سيضطر للبحث عن الجديد، وسيضطر لأن يقول شيئا مؤثرا بالفعل، وأن يقول شيئا جميلا جمالا حقيقيا، لأنه لا يوجد جدر من الغموض يتوارى خلفها، فالوضوح لا بد أن يكون جميلا، عندما يظهر الإنسان أمامنا بجسمه عاريا إن لم يكن هذا الجسم مثاليا ورائعا فسوف يكون تعريه قبيحا، ولذلك لا يقف أمامنا عاريا إلا من يتسمون بكمال الأجسام. وكذلك لا تعري جسدها إلا الجميلات. 

ليس لدينا ترف الوقت لحل ألغاز الشعراء، والبحث عن أي معنى لكلامهم، ولا أقول إن كل الغامضين شعراء ضعفاء يوارون ضعفهم بالغموض، ولكن أقول سيظلون محجوبين عن التأثير في المجتمع بقدر ما يحتاج غموضهم إلى جهد لكشفه.

13- أستطيع أن أضرب مثلا للغموض والوضوح بشاعرين كبيرين متزامنين كلاهما شاعر كبير، ولديه من القدرة الإبداعية والطاقة الشعرية ما يضعه في مصاف الكبار، ولكن أحدهما آثر الوضوح والآخر آثر الغموض، فالواضح يشبه البحر العميق الرائق فإذا نظرت إليه رأيت قاعه، والغامض هو بحر عميق أيضا، ولكن ماءه عكر فإذا نظرت لم تر شيئا، عليك أن تغوص لترى ما في الأعماق، أنا أفضل البحر الرائق ولا أفضل العكر، فالرائق سيطيل الناظرون إلى صفحته التأمل والاستمتاع برؤية لآلئه، أما العكر فسرعان ما ينصرف من أمامه الناس. ولن يرتاده إلا الغواصون الذين يتكلفون لاكتشاف ما في قاعه. وما أقل الغواصين. وقد لا يكون في قاعه شيء من الأصل. هذان الشاعران هما أمل دنقل وعبد الوهاب البياتي.

14- أدرك البياتي جيل الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وأصدر حوالي 28 ديوانا، ولم يبق منها سطر واحد ولا بيت واحد يُذكر، لأنه غامض، لأن شعره مليء بالرموز من ثقافات متعددة، فيذكر أسماء لا تتماس مع ثقافتنا ووجداننا، حتى لو قرأنا قصتها سننساها، لأنها لا تمثل تاريخنا ولا واقعنا ولا تؤثر في وجداننا، تجد اسما غريبا .. تبحث عنه فتجد مثلا أنه لشاب في أسطورة يونانية أو رومانية تقول إنه فتح أزرار قميص حبيبته فاحترق... فما شأننا نحن..؟ هناك فرق بين المعلومة الذهنية والمعلومة الوجدانية، وليس كل ذهني وجدانيا.

أنا لا أقدح في البياتي، وإنما أضرب مثالا للغموض في مقابل الوضوح عند أمل وكلاهما شاعر كبير. ظل البياتي –رحمه الله- يكتب الشعر وينشره من الخمسينيات إلى التسعينيات، لم ينقطع. حتى العام الذي مات فيه 1999 أصدر فيه ديوانا، لم يكتب فترة وانقطع أخرى كبعض الشعراء، ولكنه ظل متدفقا له حضور شعري فاعل ومع ذلك لم تبق بعده كلمة نذكرها عنه لأنفسنا.

15- أعتقد أن قصيدة مثل (لا تصالح)، حسمت خيارات الصراع العربي الإسرائيلي، بما لم تحسمه دواوين أو كتب لمفكرين كثيرين، لأن خطاب هذه القصيدة واضح ومبرر وشعري ومؤثر، ولا يزال إلى الآن ملء الأسماع والقلوب، وكذلك ما عرَّته قصيدة مثل (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) من الصعب أن يتم ستره ما دام عاريا.

وأنا من الذين يؤمنون بأدب الالتزام الذي تكلم عنه سارتر، وهو أن يلتزم الأدب بقضايا المجتمع ويؤثر فيها ويتفاعل معها. وإن كان سارتر أخرج الشعر من قضية الالتزام فإن محمد غنيمي هلال قصره على الشعر، وهلال وغيره من نقادنا أدرى من سارتر بشعرنا وواقعنا وحالنا.

16- وضوح + عمق + تأثير + غزارة = شاعر كبير 

17- للوضوح ضريبة كبيرة، ومشكلة بعض الواضحين أنهم يستسهلون ولا يدفعون هذه الضريبة، فيكتبون على المنوال كلاما مكررا سطحيا وضعيفا وغير مقبول، أما الذين لا يكتبون على المنوال فإنهم يقدمون نصا جديرا بالاهتمام، فالمنوال (أنا معلق على المشانق) غير المنوال (معلق أنا على مشانق الصباح) لا يقتصر كسر المنوال على ترتيب الجملة، ولكنه مثال من الأمثلة، وقد يكون كسر المنوال بأنماط ليس لها حصر يفاجئنا بها الشعراء، ما أريد أن أبينه في هذ النقطة أن الوضوح لا يعني أن يكون كلامك على منوال النمط السائر على الألسنة ليل نهار، وإنما تستطيع أن تخرج عن ذلك المنوال وتظل واضحا تقدم معنى مفهومًا.

18- مشكلة الغموض أنه قسيم الوضوح، وعندما تتخلى القصيدة عن غموضها فإنها تكون واضحة، والوضوح متهم بالسطحية والبساطة والمباشرة والاقتراب من لغة النثر، ولا يجرؤ شاعر على أن يتسم شعره بالوضوح إلا إذا كان شعرا حقيقيا خالصا، لا يخشى من مغبة الوضوح، الذي قد يجعله مغسولا من كل المساحيق التي قد تضفي غموضا جميلا عليه، كالذهب الخالص الحقيقي، فهو لايحتاج إلى غطاء أو طلاء أو إطراء، لأنه ذهب خالص، أما إذا كان الذهب مزيفا، فإنه يحتاج إلى طلاء يخفيه.

19- الموضوع بكل بساطة يجب أن يضع الشاعر أمامه سؤالين حال الإبداع (ماذا يقول؟ وكيف يقول؟) ولا يغني أحدهما عن الآخر، والذين لديهم معنى جيد ستجدهم حريصين على أن يصل المتلقي دون أي غموض أو إبهام، أما الفارغون فيلجأون إلى التعمية والغموض لإيهام القارئ أن وراء غموضهم شيئا ذا قيمة، وقد يكتنف شعرهم من الغموض بحيث يتطلب الكشف عنه جهدًا يفوق كثيرا ما له من قدر.

20- من المفترض أن الأدب في صوره المختلفة بما في ذلك الشعر، عبارة عن معنى وتعبير عن هذا المعنى، وتكون اللغة والتصوير والخيال والموسيقى أدوات خادمة للمعنى لتوضيحه وخادمة للفكرة لتوصيلها، أما أن تكون وسيلة لتعمية المعنى وإخفاء الفكرة فهذا أمر عجيب. إنها وسائل تخدم المعنى وتجعله أسهل وصولا وتأثيرا لا أن تتحول إلى وسائل غموض. وما قيمة الشعر إذا لم يتحول إلى رُقِيٍّ في سلوك، أو فهم أعمق للحياة، أو إضاءة لعتمة من عتمات النفس البشرية والحياة الدنيوية. وإلا فهو عبث.


التعليقات (0)