السفير معصوم مرزوق يكتب : إهدار دم عام

profile
السفير معصوم مرزوق دبلوماسي وسياسي مصري
  • clock 20 ديسمبر 2021, 8:20:03 م
  • eye 933
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

هناك أحداث تاريخية هامة تبدو وكأنها سقطت في ثقب الوعي الأسود ، عمدا أو إهمالا ، رغم أنها كانت في زمانها حدثا ضخما يحبس الأنفاس ، وعلامة علي تطور المجتمع ، وشاهد علي عصر مضي ، وبوصلة لأزمنة آتية .


كان ذلك في بدايات صيف 1950، وكان الصيف كل عام هو موسم الهجرة السنوية إلي الشمال ، فقد كان أغلب وزراء وأعيان مصر يهربون من قيظ الصيف في القاهرة ، فينتقل الملك  إلي قصوره الغناء في الأسكندرية ، وينتقل مجلس الوزراء كله إلي مقره الصيفي في بولكلي . 
علي أن هجرة أغلب أغنياء مصر لم تكن تقتصر علي " الساحل الشمالي " المصري فقط ، بل كانوا يزحفون مع عائلاتهم إلي العواصم الأوروبية ، وخاصة روما وباريس ولندن وفيينا ، وامتلأت مذكراتهم بتفسير تلك الهجرة الموسمية ، فقيل مثلا أنهم يفعلون ذلك إستجابة لنصائح الأطباء ، كي يتخففوا من أعباء الحكم وضغوطه ، حتي يعودوا مع مطلع الخريف كي يواصلوا خدمة شعب مصر الذي كان يحتشد في الموانئ ومحطات القطار كي يهتف بأسمائهم مرصعة بكل ألقاب الإكبار والوطنية ، خاصة عندما يتعمد بعض هؤلاء تسريب جهودهم من أجل القضية المصرية في المصيف الأوروبي ، للمطالبة بالجلاء ووحدة مصر والسودان .


وقد حملت مذكرات الزعماء وما كتب عنهم الكثير مما سبق ، ولكن ما ورد في الوثائق الدولية ( وخاصة البريطانية ) حمل أكثر ، ومن ذلك مثلا أن الزعيم سعد زغلول أخذ راحته من المفاوضات المرهقة في مدينة " فيشي " للإستشفاء بناء علي نصيحة الأطباء ، بينما تروي الوثائق البريطانية عن ترتيباته لعرقلة منافسيه وخاصة عدلي يكن ، وهكذا ..
إلا أن صيف عام 1950 كان مختلفا ، حيث شهدت مصر حدثا حبس أنفاسها ، وحبس الحكومة في القاهرة .. فقد تقدم النائب مصطفي مرعي باستجواب للحكومة حول استقالة رئيس ديوان المحاسبة ( المعادل التاريخي للجهاز المركزي للمحاسبات ) ، وعلي مدار أيام ساخنة من شهر مايو شهدت قاعة البرلمان مبارزة رفيعة المستوي بين أبرز رجالات مصر ٱنذاك ، والشعب المصري يتابع المبارزة محبوس الأنفاس .


وتولي الرد علي الإستجواب وزير الداخلية فؤاد باشا سراج الدين . ومن حسن الحظ أن مضابط هذه الجلسات التاريخية لم تتعرض لأي إتلاف ، بل أنها كاملة متكاملة تشهد بآداء رفيع المستوي ، يتبادل فيه المتحدثون الحجج القانونية والسياسية والتاريخية ، بل وبعض الغمز واللمز ، وإن كان كل ذلك في لغة عربية بليغة ، دون ألفاظ نابية أو خروج علي قواعد التخاطب الراقي ، وكأنك تشاهد مناظرات مجلس العموم البريطاني !.


تضمن الإستجواب تفاصيل بعض تقارير ديوان المحاسبة ، والتي تتهم الحكومة باتهامات خطيرة ، والتي أدي استهانة الحكومة بها إلي تقدم رئيس ديوان المحاسبة محمود محمد محمود بك بإستقالته .
ويركز الإستجواب علي موضوعين ، الأول هو حصول كريم باشا ثابت مستشار الملك الصحفي علي عمولة مقدارها خمسة آلاف جنيها من جمعية المواساة الخيرية ، والثاني والأكثر أهمية هو موضوع الأسلحة الفاسدة التي تم شراؤها وتوريدها للقوات المصرية أثناء عملياتها في فلسطين ، رغم العلم اليقيني أنها غير صالحة ، بل وتنفجر في مستخدمها .


قال النائب مصطفي مرعي في الموضوع الأول بعد شرح تفاصيله من واقع تقرير ديوان المحاسبة :" .. هذا الشخص يعمل في مؤسسة ، ويشغل وظيفة كبري .. وأنه ممن تشرفوا بالإلتحاق بخدمة ديوان جلالة الملك ، رغم وجود شبهة علي من حظي بهذا الشرف ، وقد كان يجب علي الحكومة بحكم الولاء للجالس علي العرش ألا تسكت "..


ورد وزير الداخلية عليه مؤكدا أن ما حدث يسبق إلتحاق المذكور بخدمة العرش ، أي أن ذلك يخرج عن موضوع الإستجواب .. 
ثم يحتدم نقاش حاد يتداخل فيه عدد من النواب بعضهم يناصر الحكومة وبعضهم يعارضها ..


وعندما انتقل المستجوب إلي موضوع حملة فلسطين ، كانت التفاصيل مذهلة ومخجلة ، فقد استغلت قيادات الجيش والبحرية الرخصة التي منحت لها بسبب الحرب ، بإطلاق يدها في مشتروات السلاح والذخيرة ، كي تتعامل مع شخص مشبوه ( رودي رجيلة) كي يقوم كمتعهد بإبرام صفقات سلاح وذخيرة في إيطاليا ، بمبالغ طائلة أسهب تقرير ديوان المحاسبة في توضيحها ، رغم أن التفتيش الفني أثبت أن أغلب هذه الذخائر من مخلفات الحرب العالمية الثانية ، وكانت تنفجر في صدور جنودنا .


ويصرخ رئيس ديوان المحاسبة ألما ، ويرسل تقريره المفصل للحكومة مشتملا علي تلك المخالفات الصارخة التي لا تمثل فقط جرائم إهدار مال عام ، بل أنها إهدار لدماء آلاف الجنود المصريين .. أو إهدار دم عام !!.
وتقدم رئيس الديوان بتقارير مفصلة إلي وزير الحربية والبحرية في ٢٣ مارس 1950 ، وعندما لا يجد الإستجابة أو الإهتمام الكافي يستقيل من منصبه في 20 إبريل 1950.
اختتم النائب مصطفي مرعي استجوابه قائلا :" إذا أردتم أن يكون ديوان المحاسبة عينكم الساهرة علي ميزانية الدولة دخلا وصرفا ، فظاهروه وعضدوه واسندوه ، ولا تتركوا رؤساء هذا الديوان يتساقطون كما تتساقط أوراق الخريف واحدة تلو الأخري " .
وفي أثناء ذلك ، وبينما تزكم الأنوف رائحة دخان الفساد الكريهة المتسربة من البرلمان ، استيقظ المصريون ذات ليلة علي دخان آخر خانق ينبعث من حرائق ضخمة اشتعلت في مخازن ذخيرة الجيش في القلعة .
انتهي الإستجواب ، وسارع كبراء الوطن يعدون حقائبهم ويهرولون إلي هجرتهم الموسمية في الشمال ...
بقي أن نذكر أن رئيس ديوان المحاسبة المستقيل ، هو نجل محمد محمود باشا أحد أبرز زعماء ثورة 1919 الذي تولي أيضا منصب رئيس وزراء مصر ..

كلمات دليلية
التعليقات (0)