- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
السفير معصوم مرزوق يكتب : إهدار دم عام
السفير معصوم مرزوق يكتب : إهدار دم عام
- 20 ديسمبر 2021, 8:20:03 م
- 933
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
هناك أحداث تاريخية هامة تبدو وكأنها سقطت في ثقب الوعي الأسود ، عمدا أو إهمالا ، رغم أنها كانت في زمانها حدثا ضخما يحبس الأنفاس ، وعلامة علي تطور المجتمع ، وشاهد علي عصر مضي ، وبوصلة لأزمنة آتية .
كان ذلك في بدايات صيف 1950، وكان الصيف كل عام هو موسم الهجرة السنوية إلي الشمال ، فقد كان أغلب وزراء وأعيان مصر يهربون من قيظ الصيف في القاهرة ، فينتقل الملك إلي قصوره الغناء في الأسكندرية ، وينتقل مجلس الوزراء كله إلي مقره الصيفي في بولكلي .
علي أن هجرة أغلب أغنياء مصر لم تكن تقتصر علي " الساحل الشمالي " المصري فقط ، بل كانوا يزحفون مع عائلاتهم إلي العواصم الأوروبية ، وخاصة روما وباريس ولندن وفيينا ، وامتلأت مذكراتهم بتفسير تلك الهجرة الموسمية ، فقيل مثلا أنهم يفعلون ذلك إستجابة لنصائح الأطباء ، كي يتخففوا من أعباء الحكم وضغوطه ، حتي يعودوا مع مطلع الخريف كي يواصلوا خدمة شعب مصر الذي كان يحتشد في الموانئ ومحطات القطار كي يهتف بأسمائهم مرصعة بكل ألقاب الإكبار والوطنية ، خاصة عندما يتعمد بعض هؤلاء تسريب جهودهم من أجل القضية المصرية في المصيف الأوروبي ، للمطالبة بالجلاء ووحدة مصر والسودان .
وقد حملت مذكرات الزعماء وما كتب عنهم الكثير مما سبق ، ولكن ما ورد في الوثائق الدولية ( وخاصة البريطانية ) حمل أكثر ، ومن ذلك مثلا أن الزعيم سعد زغلول أخذ راحته من المفاوضات المرهقة في مدينة " فيشي " للإستشفاء بناء علي نصيحة الأطباء ، بينما تروي الوثائق البريطانية عن ترتيباته لعرقلة منافسيه وخاصة عدلي يكن ، وهكذا ..
إلا أن صيف عام 1950 كان مختلفا ، حيث شهدت مصر حدثا حبس أنفاسها ، وحبس الحكومة في القاهرة .. فقد تقدم النائب مصطفي مرعي باستجواب للحكومة حول استقالة رئيس ديوان المحاسبة ( المعادل التاريخي للجهاز المركزي للمحاسبات ) ، وعلي مدار أيام ساخنة من شهر مايو شهدت قاعة البرلمان مبارزة رفيعة المستوي بين أبرز رجالات مصر ٱنذاك ، والشعب المصري يتابع المبارزة محبوس الأنفاس .
وتولي الرد علي الإستجواب وزير الداخلية فؤاد باشا سراج الدين . ومن حسن الحظ أن مضابط هذه الجلسات التاريخية لم تتعرض لأي إتلاف ، بل أنها كاملة متكاملة تشهد بآداء رفيع المستوي ، يتبادل فيه المتحدثون الحجج القانونية والسياسية والتاريخية ، بل وبعض الغمز واللمز ، وإن كان كل ذلك في لغة عربية بليغة ، دون ألفاظ نابية أو خروج علي قواعد التخاطب الراقي ، وكأنك تشاهد مناظرات مجلس العموم البريطاني !.
تضمن الإستجواب تفاصيل بعض تقارير ديوان المحاسبة ، والتي تتهم الحكومة باتهامات خطيرة ، والتي أدي استهانة الحكومة بها إلي تقدم رئيس ديوان المحاسبة محمود محمد محمود بك بإستقالته .
ويركز الإستجواب علي موضوعين ، الأول هو حصول كريم باشا ثابت مستشار الملك الصحفي علي عمولة مقدارها خمسة آلاف جنيها من جمعية المواساة الخيرية ، والثاني والأكثر أهمية هو موضوع الأسلحة الفاسدة التي تم شراؤها وتوريدها للقوات المصرية أثناء عملياتها في فلسطين ، رغم العلم اليقيني أنها غير صالحة ، بل وتنفجر في مستخدمها .
قال النائب مصطفي مرعي في الموضوع الأول بعد شرح تفاصيله من واقع تقرير ديوان المحاسبة :" .. هذا الشخص يعمل في مؤسسة ، ويشغل وظيفة كبري .. وأنه ممن تشرفوا بالإلتحاق بخدمة ديوان جلالة الملك ، رغم وجود شبهة علي من حظي بهذا الشرف ، وقد كان يجب علي الحكومة بحكم الولاء للجالس علي العرش ألا تسكت "..
ورد وزير الداخلية عليه مؤكدا أن ما حدث يسبق إلتحاق المذكور بخدمة العرش ، أي أن ذلك يخرج عن موضوع الإستجواب ..
ثم يحتدم نقاش حاد يتداخل فيه عدد من النواب بعضهم يناصر الحكومة وبعضهم يعارضها ..
وعندما انتقل المستجوب إلي موضوع حملة فلسطين ، كانت التفاصيل مذهلة ومخجلة ، فقد استغلت قيادات الجيش والبحرية الرخصة التي منحت لها بسبب الحرب ، بإطلاق يدها في مشتروات السلاح والذخيرة ، كي تتعامل مع شخص مشبوه ( رودي رجيلة) كي يقوم كمتعهد بإبرام صفقات سلاح وذخيرة في إيطاليا ، بمبالغ طائلة أسهب تقرير ديوان المحاسبة في توضيحها ، رغم أن التفتيش الفني أثبت أن أغلب هذه الذخائر من مخلفات الحرب العالمية الثانية ، وكانت تنفجر في صدور جنودنا .
ويصرخ رئيس ديوان المحاسبة ألما ، ويرسل تقريره المفصل للحكومة مشتملا علي تلك المخالفات الصارخة التي لا تمثل فقط جرائم إهدار مال عام ، بل أنها إهدار لدماء آلاف الجنود المصريين .. أو إهدار دم عام !!.
وتقدم رئيس الديوان بتقارير مفصلة إلي وزير الحربية والبحرية في ٢٣ مارس 1950 ، وعندما لا يجد الإستجابة أو الإهتمام الكافي يستقيل من منصبه في 20 إبريل 1950.
اختتم النائب مصطفي مرعي استجوابه قائلا :" إذا أردتم أن يكون ديوان المحاسبة عينكم الساهرة علي ميزانية الدولة دخلا وصرفا ، فظاهروه وعضدوه واسندوه ، ولا تتركوا رؤساء هذا الديوان يتساقطون كما تتساقط أوراق الخريف واحدة تلو الأخري " .
وفي أثناء ذلك ، وبينما تزكم الأنوف رائحة دخان الفساد الكريهة المتسربة من البرلمان ، استيقظ المصريون ذات ليلة علي دخان آخر خانق ينبعث من حرائق ضخمة اشتعلت في مخازن ذخيرة الجيش في القلعة .
انتهي الإستجواب ، وسارع كبراء الوطن يعدون حقائبهم ويهرولون إلي هجرتهم الموسمية في الشمال ...
بقي أن نذكر أن رئيس ديوان المحاسبة المستقيل ، هو نجل محمد محمود باشا أحد أبرز زعماء ثورة 1919 الذي تولي أيضا منصب رئيس وزراء مصر ..
التعليقات (0)
إقرأ أيضا
أحدث الموضوعات
خميس, 21 نوفمبر 2024
60 شهيداً حتى الآن.. تفاصيل مجزرة الاحتلال قرب مستشفى كمال عدوان خميس, 21 نوفمبر 2024
د.سنية الحسيني تكتب:وقف الحرب في لبنان أكثر احتمالاً من غزة خميس, 21 نوفمبر 2024
بلجيكا تدعو لتنفيذ قرار الجنائية الدولية وتعليق الشراكة مع الكيان الأكثر قراءة
جمعة, 08 أكتوبر 2021
مصادر: إبراهيم منير يتخذ قرار بإيقاف ٦ من الشورى العام اثنين, 21 يونيو 2021
كيف تحول نشطاء وسياسو الربيع العربي إلى موظفين بإسطنبول سبت, 18 سبتمبر 2021
د. أيمن منصور ندا يكتب : عندما تلقيت اتصالاً من الرئيس السيسي خميس, 30 سبتمبر 2021
طارق مهني يكتب : بزنس المعارضة - سبوبة الزنازين اثنين, 01 نوفمبر 2021
تقرير : كيف ساهم " أبو دية " عبر أذرعه المالية في تدجين المعارضة المصرية بالخارج وثائق وحكايات
اثنين, 04 نوفمبر 2024
في ذكرى مقتل إرهابي الهاجاناه.. من هو إسحق رابين صاحب نظرية تكسير العظام؟ سبت, 26 أكتوبر 2024
29 عاما على اغتياله.. الشهيد فتحي الشقاقي: أمة في رجل أحد, 06 أكتوبر 2024
بالفيديو.. لقطات جديدة من القتال في ٧ اكتوبر الماضي