- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
السفير معصوم يكتب : رحلة في جبل الجلالة
السفير معصوم يكتب : رحلة في جبل الجلالة
- 27 مايو 2021, 4:03:05 ص
- 1884
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
يمثل علم " الطبوغرافيا" أهمية خاصة لضابط الصاعقة الذي تفرض عليه طبيعة المهام التي يكلف بها أن يجيد قراءة الخرائط ، ويحسن التعامل مع البوصلة التي قد تكون غير دقيقة ، ويتعلم كيف يحول كونتورات وخطوط الهيئات والوديان في الخريطة إلي صورة ذهنية يقارن عليها الهيئات في الطبيعة ، عليه ان يدرس بعناية قبل المهمة أماكن الكهوف ومخرات السيول والمواقع التي قد يجد فيها مياه ، وان يتعلم قراءة النجوم كي تساعده في الملاحة الليلية .. وكنت اهوي هذا العلم وأجيد تطبيقاته في الواقع إلي حد كبير .
كنت قائد ثان داورية الصاعقة التي تسلقت جبل الجلالة بعد تسلل طويل في اليوم السابق عبر سهوب وعرة، وكان قائد الداورية هو النقيب "ب" الذي يتميز بالثقة الزائدة التي تلامس الغرور ، كان يؤكد أننا سنصل إلي قاعدة الداوريات المحددة في الجبل قبل الموعد المحدد ، وطوي الخريطة ورفض ان أناقشه في خطة السير مفضلا أن ينام حتي نبدأ الوثبة قبل الفجر .
كنت كالعادة قد أعددت نفسي جيدا وحفظت كل التضاريس علي الخريطة حتي تكونت لدي صورة ذهنية معقولة عما سوف يقابلنا في اليوم التالي .
بدأنا في السير الحذر مع إشعاعات الفجر الأولي يتقدمنا القائد وقد رفض ان يعين دليلا بالبوصلة أو عدادا تكون مهمته حساب المسافة التي نقطعها بشكل تقريبي .. وقررت ان اقوم بمهمة العداد بشكل سري ، لأنه من المهم مقارنة الهيئات بالمسافات علي الخريطة للتأكد من سلامة خط السير .
لاحظت بعد مرور ساعتين تقريبا أن الداورية تنحرف عن مسارها بشكل خطير ( كل درجة إنحراف تمثل ابتعاد بمسافة كيلومترات علي مدي الداورية ) ، اقتربت من القائد وهمست في أذنه بملاحظتي ، لكنه تبسم ساخرا من قلقي ، واستمر مندفعا وهو يتمتم بعض أدعية صوفية .
كنت اعرف إهتماماته الصوفية ، وكان يحكي لي عن الطريقة التي يتبعها ، وكيف انه يري في منامه رؤي تساعده في إنجاز مهامه .
مرت أربعة ساعات أخري ، وبدأ الإرهاق يؤثر علي أفراد الداورية مع إتقاد حرارة الشمس ، وعندما طلبت منه إعطاء الجنود راحة ، ابدي غضبه وأعلن أننا علي وشك الوصول ، قلت له حائرا اننا ابتعدنا جدا عن الهدف ، وأشرت إلي هيئة جبل في الخريطة كان من المفروض أننا مررنا عليه قبل ساعتين ، فنظر في عيني بحدة وهو يقول بالإنجليزية انه يأخذ طريقا مختصرا ( short cut ) ، وعبثا حاولت إقناعه بأننا نبتعد بشكل فادح عن الهدف ، وان المساء يقترب ولن نستطيع مواصلة التسلق في ظروف الليل .
أطبق الليل علينا ، وكان من المستحيل ان نتقدم خطوة واحدة دون مخاطرة كبيرة ، فوافق أخيرا علي التوقف وتوزيع الخدمات الليلية والراحة حتي الفجر وهو يؤكد أنه في الصباح لن يستغرق الأمر نصف ساعة ونكون في قاعدة الداوريات .
كنت أعلم من قراءتي المتقنة للخريطة أننا قريبون جدا من حافة مجري سيل قد يكون صالحا للنزول الآمن إلي ساحل خليج السويس ، وانتظرت إلي أن نام القائد ، وطلبت من الجندي حماد ان يصحبني وتحركنا في الإتجاه الذي ظننت انه مجري السيل ، ورغم خطورة التحرك ليلا في المناطق الجبلية الوعرة ، إلا أنني كنت اريد استكشاف طريق ينقذنا من تيه مؤكد فوق سلسلة جبل الجلالة ، وقد نفذت المؤن والمياه في اليوم السابق نتيجة ثقتنا ان تلك الوثبة لن تستغرق إلا نصف يوم ، ولم تكن اجهزة اللاسلكي تتواصل في تلك المنطقة الجبلية الوعرة .
وصلت بالفعل إلي مجري السيل ، وأمكن بإضاءة بطارية صغيرة أن أتبين عمقه المتدرج ، واعطيت البطارية لحماد وبدأت أنزل بحذر بينما الصخور تنزلق تحت بيادتي .. اختفي ضوء البطارية ، وكان صوت حماد يناديني وكأنه علي مسافة أميال حين شعرت فجأة بدفقة من الرياح تصفعني بما يعني أنني أصبحت علي حافة جرف بلا قرار ، حاولت ان أتماسك ، وبصعوبة بدأت أتسلق صاعدا كي أعود وانا أشعر في كل لحظة أنني سأسقط .
عدنا لمكان مبيت الداورية ، اخرجت بطانيتي من الشدة الميدانية ورقدت منتهي الإنهاك .
استيقظت علي صوت النقيب (ب) وهو يطالب الجميع بالإستعداد للتحرك ، وكان ندي الفجر يرطب وجوهنا وملابسنا ، توجهت إليه عندما وجدته بتخذ مكانه في مقدمة الداورية ، كانت ذراعي وساقي قد جرحت من محاولة ليلة أمس ، وكنت غاضبا عندما وجدته يشير إلي الإتجاه الذي سنسير فيه ، فقلت له بصوت عال ان ذلك استمرار في التوهان ، وأشرت إلي الإتجاه الذي ظننت وقتها انه الإتجاه الصحيح ، ويبدو انه لاحظ تصميمي ، او انه شعر ان باقي أفراد الداورية بدأوا يتمتمون بغضب ، فإذا به يأخذني من ذراعي بعيدا عن الداورية ليقول لي مندهشا انه رأي مناما ليلة أمس قال فيه شيخه ان الطريق الصحيح ينام علي يمينك .. وحيث أنني كنت انام علي يمينه ، فأنه سيترك لي قيادة الداورية ..
ولأنني كنت أثناء التيه أحسب نسبة الإنحراف ، وأعد المسافات التي ابتعدناها ، تمكنت بفضل الله من تصحيح المسار ، ووصلنا بالفعل في النهاية إلي قاعدة الداوريات حيث كان زملاء لنا هناك ينتظرون وقد ملأهم القلق ، واتصلوا بالقيادة العليا لإرسال هليكوبتر للتفتيش فوق جبل الجلالة البحرية عن داورية تائهة .
رفضت في اليوم التالي ان اوقع علي تقرير الداورية الذي كتبه النقيب (ب) ، وأشار فيه ان العريف حماد الذي كانت معه البوصلة تسبب في تضليلنا ..وتسبب ذلك في مشاكل لي فيما بعد ليس هذا محلها .