- ℃ 11 تركيا
- 18 نوفمبر 2024
ثقافة الاستبداد النمطي
ثقافة الاستبداد النمطي
- 27 مارس 2021, 12:45:58 ص
- 1218
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تُعد الأفكار النمطية أفكارًا مسبقة، وهى أفكار يفرضها المجتمع على الفرد، بحيث تبدو في نهاية الأمر وكأنها فطرية، وينسبها المجتمع غريزيًا للأفراد باعتبارها اعتقادًا جماعيًا، تنميط الفكر هو بمثابة أداة استبدادية تنتهك ذهينة الفرد وتقيد حريته وحركته ونشاطه. إن الأفكار النمطية لا تختلف كثيرًا عن المفاهيم الأخرى كالعنصرية والتعصب والتحيز، ولكن المفاهيم النمطية لها أسبقية زمنية عن تلك المفاهيم الأخرى؛ إذ إن المفهوم النمطي لا يتجسد فى فعل مادى مباشر؛ بل يدخل في تشكيل تصوراتنا الذهنية، وصياغة مفاهيمنا الثقافية. فالفرد النمطي يتأثر تأثرًا جوهريًا بالمعتقدات التى يُرسخها المجتمع فى أعماق وجدانه، دون أن يشعر بأن عقله مقيد أو محدود في نطاق تلك المعتقدات، ويظن أنه يفكر تفكيرًا حرًا. لذلك تضطرب الهوية الإنسانية ما بين الهوية الدينية والنزعات العرقية والدوافع الجنسية.
واللافت للنظر إن الأفكار النمطية تتحكم فى الفرد منذ ولادته، وذلك عن طريق فرض تصورات الآباء ومعتقداتهم على الابناء، وتنميط رؤيتهم للأشياء والأشخاص والأحداث، واخضاعهم للعادات والتقاليد السائدة. إنه تنميط يتم تدجينه من قبل الأسرة والمؤسسات التعليمية والمجتمع، على نحو يصادر حرية التفكير لدى الفرد، ويسعى إلى خلق البعد الإنساني الآحادي. يقول دوركايم «عندما يتكلم الضمير فينا فليس نحن من نتكلم بل المجتمع»، وبذلك يكون العقل البشري هو نتاج اجتماعي، وإن الحقائق التي يملكها هذا العقل ويدافع عنها هي ليست حقائق مطلقة وإنما هي من نتائج قولبة فكر الانسان. مما أسهم فى هشاشة هذا العقل وضعف قدراته على التحليل والفحص والتمحيص؛ وهذه الحالة تسمى «العبودية الطوعية». وإذا حاول الفرد التمرد على تلك الموروثات التلقينية والتفكير بعيدًا عن عادات المجتمع وتقاليده يصبح منبوذًا. إن الأساس الذي تبنى عليه العلاقة بين الفرد في ظل ثقافة الاستبداد النمطي هى ثقافة تفتقر إلى أبسط مبادئ الحرية.
ويُعَد من أخطر أشكال العقل المنمط هو التدجين الدينى، فهو لا يقوم على أساس الدين فى جوهره، بل يقوم على أساس من التعصب والتطرف. فهو نمط يعتمد على إلغاء الآخر وتكوين صورة سلبية عنه بإعتبار أن المعتقد الديني هو الحقيقة المطلقة، و يصلح لكل زمان ومكان، ولا مجال للنقاش فيه ولا البحث عن أدلة تؤكده أو تنفيه، وإدانة وتكفير كل مختلف عن هذا الشكل الدوجماطيقي المنغلق فى التفكير، لقد إنصاع العقل الجمعي للأساطير الخرافية بوصفها معتقدًا دينيًا، مثل تفسير وتأويل بعض النصوص الدينية التى تتحدث عن السحر والحسد وغيرهما لكى تتماشى مع مصالح رجال الدين، زاعمين - كذبًا وبهتانًا - أن تلك التفسيرات هي من صميم الدين.
لاشك أننا سنكون أيضًا في مواجهة مجتمع ذكوري محض، الهيمنة فيه ليس الرجال فقط، بل الموروث الفكرى الذكوري بشكل عام حتى بين غالبية النساء. إن فكرة الإيمان بتفوق أصيل لجنس "الرجل" على الآخر"المرأة"، ومن ثم حقه في السيادة، فهي فكرة مترسخة فى عقول مجتمعاتنا الشرقية. سنجد مثلًا مقولة شعبية عبثية «ست بـ 100 راجل» من أكثر المقولات الشائعة فى مجتمعنا التى تبدو فى ظاهرها وصف المرأة بالمروءة والشجاعة والنخوة، في حين أن جوهرها ينطوي على إهانة كبيرة للمرأة باعتبار الرجل هنا رمز للقوة ومكارم الأخلاق. وكثير من الاعتقادات والمقولات التى يروجها المجتمع؛ إنما يفعل ذلك من أجل تعزيز الذات الذكورية وتضخيمها، وإعطائها شكل من أشكال القداسة.
لم يتوقف الاستبداد النمطي على ذوبان الفرد فى الكيان الاجتماعى الخامل الذى يسوده التخلف والخرافة وتشويه القيم والأخلاق، بل تمكن من اختزال المجتمع في الدولة، واختزال الدولة في شخص الحاكم. لقد ارتبط مفهوم الاستبداد السياسى بشعب غير واعي خانع للطاغية وخاضع له، ويساعد الحاكم للبقاء في الحكم، وبرضى أن يساق أمام الحاكم كالقطيع. لذلك تُعد المجتمعات الهشة المنمطة فريسة سهلًا للوقوع في شباك التبعية، الحاكم يأمر بما يشاء، وليس على الشعب إلا السمع والطاعة؛ لكونه فاقدًا للوعي، وغير محصن ثقافيًا وفكريًا، وغير مؤهل للتحاور والتشاور. لذلك تقوم السلطة بتزييف وعى الجماهير بما يتلائم مع مصالحها، وتوهم الشعب بأن ما تفعله هو فى صالحها باستخدام قواها الناعمة لإقناع الجماهير. وفى حالة التنميط السياسي توجه الجميع ضمن نفس النمط بواسطة التحريض والاستهواء للعواطف ولأفكار السلطة السائدة، والميل إلى تحويل الأفكار النمطية المرتبطة بظواهر مدمرة للإنسانية إلى فعل وممارسة مباشرة، وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه، وإنما يصبح كائن فاقد الأهلية لا إرادة له، ومغيب الوعي.
لا ريب إن الأفكار المسبقة المغروسة قسرًا فى أذهاننا هي أشد القيود الفكرية سجنًا للوعي والمعرفة والأرتقاء الحضاري الجمعي. لذلك لابد من مراجعة التصورات العامة في ثقافة المجتمع التي يتم فرضها على كل فرد من أفراد المجتمع، وتلقينهم إياها منذ الصغر، فلابد من مراجعتها بممارسة النقد لأنفسنا ولجميع أفكارنا السابقة وقناعاتنا المختلفة، وتوسيع مدارك الأفق بالإنفتاح على الآخر وكل الأفكار المختلفة، وطرح أفكار جديدة مما يساهم في تعزيز القدرة على الإبداع والابتكار، وعودة السلطة لأصحابها الحقيقيين فى تقرير مصيرهم.