- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
جعفر عباس يكتب: حرب السودان وارتجال في الأقوال والأفعال
جعفر عباس يكتب: حرب السودان وارتجال في الأقوال والأفعال
- 20 مايو 2023, 3:33:59 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
نتيجة الحرب الجارية الآن في العاصمة السودانية: خسائر بشرية بالجملة، انهيار تام للخدمات الشحيحة أصلا، ودمار هائل في كل مكان، بعد أن صارت الأحياء السكنية والمناطق الصناعية والأسواق أرض معارك، دون أن يلوح في الأفق اقتراب أحد طرفي الحرب (القوات المسلحة وقوات الدعم السريع) من النصر ولو جزئيا، وفي الأيام الأخيرة اختفى المتحدثون باسم الجيش الرسمي من الأثير والأسافير، ربما لأنه ليس لديهم جديد يقولونه للناس، بينما الدعم السريع الذي يسيطر على محطات الإذاعة والتلفزة الرسمية عاجز عن تشغيلها، وترك الحبل على الغارب لكل مجموعة من الجنود تبث ما تشاء من حيث ما تشاء، عبر ما يتيسَّر من أدوات تواصل جماهيري.
وقد يجد الإنسان العذر لقوات الدعم السريع وقيادتها في انعدام سياسة إعلامية منهجية، لأن غالبية عناصرها أمية، ولكن ما بال الجيش الوطني الذي به إدارة للإعلام والتوجيه المعنوي وصحيفة وأدوات بث إذاعي وتلفزيوني؟ بل ما بال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة (رئاسة الدولة) والقائد العام للجيش الذي لم يصدر بيانا عاما يشرح فيه للشعب ما آلت اليه الأوضاع، واكتفى قبل يومين بالظهور العارض بين نفر من الجند وهو يحمل بندقية على ظهره ويعتمر قبعة رعاة البقر الأمريكان (كاوبوي)؟
تؤكد الوقائع المحسوسة والظرفية أن البرهان يعمل بعقلية رزق اليوم باليوم، ولكل حادث حديث، أي أنه يعمل بدون خطة أو منهجية منذ أن انقلب على الحكم المدني في تشرين أول (أكتوبر) من عام 2021، وعجز منذ وقتها عن تشكيل حكومة، ومنح نفسه سلطات تشريعية وتنفيذية مطلقة دون أن ينجز شيئا ملموسا على أي صعيد، ثم صدرت عنه في الأيام الأخيرة مجموعة من القرارات، تؤكد أنه يسير ويقوم بتسيير الأمور بدون بوصلة.
خذ مثلا توقيع ممثلي الجيش في مفاوضات جدة في السعودية، على اتفاق مبدئي مع الدعم السريع على وقف العدائيات، بما يكفل تيسير الخدمات الضرورية للمواطنين في مواقع الاشتباك، وبهذا مسح البرهان قراره بـ "حل الدعم السريع"، لأنه قبِل أن يكون التفاوض بين جيشين ثم قبِل بأن يمهر الطرف الثاني توقيعه باسم الدعم السريع، ثم وبعد إشهار ذلك الاتفاق بعدة أيام تذكر البرهان أن من قام بالتوقيع عن الدعم السريع ضابط برتبة عميد في القوات المسلحة، انتُدِب للدعم السريع ورفض العودة إلى عمله الرسمي بعد نشوب الحرب، فما كان من البرهان إلا أن اصدر قرارا بإحالته إلى التقاعد، ومعه ثلاثة ضباط آخرون من ذوي الرتب العالية، رفضوا العودة إلى وظائفهم في الجيش الرسمي (أحدهم وهو برتبة لواء ركن، هو قائد العمليات في الدعم السريع).
ثم توالت القرارات المرتجلة بما يستدعي المثل المصري الشعبي "بعد سنة وثلات أشهر جات المعزيِّة تشخر"، وهكذا جاء إعفاء وزير الداخلية ومدير الشرطة الذي منحه البرهان قبل نحو ثلاثة أشهر نجمة الإنجاز، ثم إنهاء خدمات مدير البنك المركزي ومدير جهاز المخابرات، ثم جاء إعفاء سفير من الخدمة قمة في الهزل، لأن شاغل المنصب هجر وزارة الخارجية فور انقلاب البرهان في 2021، رافضا للانقلاب وهاجر إلى أمريكا، وكل ما هناك أنه كتب مقالا ناريا قبل "الإعفاء" بيومين، يحض فيه وزير الخارجية المكلف بترك منصبه "كي لا يلوث سيرته بالانتماء لحكومة يقودها البرهان".
وانتقلت عدوى الارتجال إلى معاوني البرهان فخرج الفريق ياسر العطا على وسائل الإعلام قائلا إن قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو حميدتي يقوم بتخزين 63 طنا من الذهب في روسيا و22 طنا أخرى في دولة أخرى (لم يجد في نفسه الشجاعة ليقول ما هي) ولم يقل الفريق العطا لماذا وهو عضو مجلس السيادة لم يمنع حدوث هذه السرقات الكبيرة، في وقت لا توجد فيه في خزائن بنك السودان المركزي أكثر من بضعة كيلوغرامات من الذهب، ثم أصدرت وزارة الخارجية بيانا تناشد فيه المجتمع الدولي تقديم العون الإنساني للمواطنين السودانيين، الذين يعانون من ويلات حرب أشعلتها "مليشيا متمردة انقلبت على السلطة الشرعية"، ولكن النسخة الإنجليزية من ذلك البيان لم تصم تلك المليشيا بالتمرد، ولم تأت على ذكر "السلطة الشرعية".
عمليات النهب والاعتداء على الممتلكات في العاصمة السودانية يشارك في معظمها مواطنون عاديون، وإن كان من المؤكد أن قوات الدعم السريع هي من يقوم بنهب البنوك، وحسب مصادر غرفة التجارة والصناعة السودانية فإن خسائر قطاعات الصناعة وتجارة التجزئة والجملة منذ بداية الحرب تناهز 11 مليار دولار، أما الخسائر في البينة التحتية والدمار الذي لحق بالمركبات والمعدات المدنية والعسكرية فتستعصي على الحصر.
خلال الأسابيع الثلاثة الماضية تعرضت جميع أسواق العاصمة السودانية للنهب ثم الحرق، بل إن النهب طال الجامعات والمستشفيات وآلاف المساكن، وذلك مصداقا لنظرية "النوافذ المحطمة"، التي تتناول تأثير الفوضى والتخريب على المناطق الحضرية، والمتمثلة بالجرائم والسلوكيات المعادية للمجتمع. وهي باختصار أن الكبائر تبدأ بالصغائر، وأن الجريمة هي نتاج الفوضى وعدم الالتزام بالنظام في المجتمعات البشرية. فإذا حطم أحدهم نافذة زجاجية في الطريق العام، وتُركت هذه النافذة دون إصلاح، يبدأ المارة في الظن بأنه لا أحد يهتم بها، فتتعرض نوافذ أخرى للكسر، وتعمّ البيت المقابل لهذا النافذة، ومنه إلى الشارع، ومنه إلى المجتمع كله.
عمليات النهب والاعتداء على الممتلكات في العاصمة السودانية يشارك في معظمها مواطنون عاديون، وإن كان من المؤكد أن قوات الدعم السريع هي من يقوم بنهب البنوك، وحسب مصادر غرفة التجارة والصناعة السودانية فإن خسائر قطاعات الصناعة وتجارة التجزئة والجملة منذ بداية الحرب تناهز 11 مليار دولار، أما الخسائر في البينة التحتية والدمار الذي لحق بالمركبات والمعدات المدنية والعسكرية فتستعصي على الحصر.
وهناك أدلة قطعية بأن بعض عناصر من الدعم السريع غير معنية بالقتال الدائر، وتفرغت كليا لنهب البيوت في الأحياء التي توصف ب"الرُّقي"، وبالمقابل فإن العناصر المقاتلة من تلك القوات ما زالت تمسك بمفاصل مهمة في العاصمة السودانية، وما زال الجيش يتصدى لها في غالب الأحوال بالقصف الجوي والأسلحة الثقيلة مما يفاقم خسائر المدنيين في الأرواح والممتلكات، ولهذا صارت دائرة رفض الحرب تتسع، لتضم كثيرين كانوا ينادون بالاستمرار في ضرب الدعم السريع حتى تدميره تماما، بعد ان بات التدمير المنشود بعيد المنال.
وكما قلت هنا في مقالي للأسبوع الماضي، فالبرهان يتحمل معظم أوزار هذه الحرب، فإذا كانت حكومة الرئيس المخلوع عمر البشير من أنجب الدعم السريع، فالبرهان هو من تولاه بالرعاية وعلمه الرماية، ولما اشتد ساعده رمى البرهان، ووضع البلاد في فوهة بركان.