- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
د. سعيد الشهابي يكتب: الأمة مجتمعةً ترفض «إسرائيل» ومتفرقةً تطبّع معها
د. سعيد الشهابي يكتب: الأمة مجتمعةً ترفض «إسرائيل» ومتفرقةً تطبّع معها
- 28 مارس 2022, 5:31:16 ص
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
شهد ربع القرن الماضي تراجعا واضحا للعمل المشترك على كافة المستويات السياسية، وتصاعدا مضطردا للعمل الأحادي من جانب الدول الطامحة لتوسعة نفوذها. فعلى المستوى الدولي اختفى تقريبا عمل الأمم المتحدة بعد أن تم تهميشها، فلم يعد لها حضور ميداني في مناطق الصراع، ولم تستطع احتواء التوترات السياسية أو العسكرية، ولم يعد الأمين العام للأمم المتحدة سوى موظف دولي كبير يصدر البيانات في المناسبات الدولية مثل اليوم العالمي للمرأة واليوم العالمي لحقوق الإنسان وسواهما. ومع تعمق الاستقطاب في مجلس الأمن الدولي، أصبح هو الآخر عاجزا عن التأثير على السياسة الدولية وقضايا الحرب والسلام. فالأزمة الأوكرانية تتصاعد بينما فشلت محاولات استصدار قرار من مجلس الأمن بشأنها نتيجة الاستقطابات ونظام الفيتو. وحتى حلف الناتو لا يبدو قادرا على اتخاذ قراراته وفق القواعد التي تأسس عليها، بل أصبحت التصريحات الأمريكية هي التي تحدد مواقفه، فما يقوله الرئيس جو بايدن أصبح بمثابة القرار الرسمي للحلف.
اما على المستوى الإقليمي فقد تراجع دور التجمعات الإقليمية ومنها الاتحاد الاوروبي الذي أصبح مستهدفا في وجوده من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا على وجه الخصوص. ولم يُخف الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب عداءه للاتحاد الأوروبي والدعوة لحله. واتخذت بريطانيا خطوة الانسحاب من الاتحاد تحت ذرائع شتى منها استعادة السيادة البريطانية والتحرر من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، والتخلص من أعباء البرلمان الأوروبي المالية والسياسية. وحتى بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية يمكن ملاحظة التباين في أنماط التعاطي مع هذه الأزمة، وغياب الموقف الأوروبي الواضح إزاء الحرب أو التعامل مع روسيا خصوصا حول النفط والغاز. وحتى في قضية العقوبات ثمة تباين واضح في مدى حماس دول الاتحاد إزاءها، فضلا عن مسألة التدخل العسكري المباشر. واكتفت كافة الأطراف خارج الصراع بتقديم دعم إنساني لأوكرانيا، واختلفت حول القضايا الأخرى كالتدخل العسكري او العقوبات على روسيا، بل حتى عضويتها في مجموعة الـ 20 التي يطالب بعض الدول بإخراجها منها، مع تحفظ البعض الآخر. كما تباينت مواقف دوله إزاء قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان في العالم. وشيئا فشيئا يتضح أن الاتحاد يخطو نحو التراجع في الدور والأهمية، لأسباب عديدة منها النزعة لحماية حدود الدولة القُطْرية.
وعلى الصعد الإقليمية الأخرى يمكن ملاحظة تراجع العمل المشترك أيضا واستبداله بتمدد نفوذ بعض الدول القوية. فالجامعة العربية لم يعد لها وجود حقيقي على صعيد العمل العربي المشترك، بل أصبح لكل دولة سياساتها وعلاقاتها الخارجية. وليس أوضح من ذلك تباين سياسات الدول العربية إزاء الاحتلال الإسرائيلي، وغياب الموقف العربي المشترك إزاء ما تمثله إسرائيل من تحديات للشرق الاوسط. فلم تعد هناك غضاضة من الحديث عن اجتماع بين دول عربية و”إسرائيل” لمناقشة “النفوذ الإيراني” في المنطقة وكيفية التصدي له. وكان آخرها الاجتماع الذي عقد الثلاثاء الماضي في شرخ الشيخ وضم كلا من مصر والإمارات و”إسرائيل” والذي امتدحه البيت الأبيض. كما وقّعت المغرب و “إسرائيل” يوم الأربعاء الماضي اتفاقا للتعاون في مشروعات الطيران. ويقوم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن هذا الاسبوع بزيارة “إسرائيل” والمغرب والجزائر في ما يعتقد انه سيضغط على الأخيرة للالتحاق بقافلة المطبّعين. وبالغ الإسرائيليون في تظاهرهم بانعدام الحواجز مع دول الشرق الاوسط، بعقد اجتماع شارك فيه حكام البحرين والإمارات والمغرب.
ويلاحظ هنا طبيعة العمل الدبلوماسي العربي الذي تغير كثيرا في السنوات الأخيرة بعد إضعاف روح العمل المشترك وهيمنة مقولات “السيادة الوطنية” على نفسيات الحكام ضمن سياسة تضخيم “الهوية الوطنية” المحصورة بالحدود الضيقة لكل من هذه الدول. ومن المؤكد ان سياسة تفريق الآمة قطعت أشواطا كبيرة حتى تلاشت دوائر التعاون في ما بينها. مع ذلك فهناك دوائر وهموم مشتركة ما تزال موضع اهتمام الحكومات العربية: أولها رفض التحول الديمقراطي والتصدي لمن يسعى للتغيير، ثانيها: الرضوخ للهيمنة الأمريكية التي تزداد اتساعا مع تراجع العمل العربي المشترك، ثالثها: تراجع دور الدول العربية الكبرى التي كانت تمارس أدوارا قيادية على صعيد العمل المشترك ومنها مصر وسوريا والعراق. رابعها: ضرب التوجهات ذات النزعة نحو توحيد الأمة وترويج العمل المشترك خصوصا الإسلاميين الذين يتعرضون لأبشع أصناف التنكيل تحت مقولة زائفة حول مكافحة الإرهاب.
استطاع الضغط الانجلو أمريكي على المنطقة تكريس فكرة أن “التطبيع وجهة نظر” بعد أن تم الفصل بين مقولتي التطبيع والخيانة
وربما الإنجاز الأمريكي الأهم على صعيد الشرق الأوسط إبعاد القضية الفلسطينية عن موقعها التقليدي كعنوان للعمل المشترك ضمن أطر جامعة كمنظمة المؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية. ولترويج ذلك تم التأثير على ثقافة الأمة وأولوياتها وتصوراتها. هذه الأمة التي كانت تعتبر الاعتراف بالاحتلال الإسرائيلي “خيانة” تعرضت لعملية تغيير نفسي ومعنوي وأيديولوجي جعلتها مستعدة لتغيير ذلك المنطق. واستطاع الضغط الانجلو أمريكي على المنطقة تكريس فكرة أن “التطبيع وجهة نظر” بعد أن تم الفصل بين مقولتي التطبيع والخيانة. وقبل هذا التحول كان التواصل مع الكيان الإسرائيلي مرفوضا تماما. وعندما وقّع أنور السادات اتفاقات كامب ديفيد مع قوات الاحتلال كان ثمة إجماع عربي وإسلامي على اعتبار ذلك “خيانة”. لكن لم يعد الأمر كذلك بعد أن ساهمت الجهود الأنجلو – أمريكية في العقد الأخير في إعادة صياغة أولويات الأمة بعد ضرب الربيع العربي والسعي لمنع تكرار حدوثه. وفجأة تمت إعادة هندسة مشاريع العمل العربي المشترك وفق تصورات جديدة تحول دون التحول الديمقراطي وتحاصر الحريات وتضع التطبيع مع قوات الاحتلال في جوهر الواقع العربي. وتطلب ذلك جهودا مضنية على مدى عشرة أعوام، وفي مقدمتها تهميش المنطلقات الفكرية والايديولوجية التي أسست لمحورية القضية الفلسطينية في الوجدان العربي والإسلامي كقضية جامعة للأمة ودافعة نحو التحرر والاستقلال. وما كانت تلك الجهود الأنجلو – أمريكية لتتواصل بدون توفر الدعم المالي، وهنا دخل الدولار النفطي على الخط ليوفر ما تحتاجه تلك الجهود. وهكذا تم التخطيط لإعادة صياغة العمل العربي المشترك بإزالة قضية فلسطين من أولوياته. وقد تطلب ذلك حملات إعلامية مكثفة لتمزيق الأمة وكسر شوكتها وأنَفتها، فكان التطرف والعنف والإرهاب والطائفية من أهم تجليات الحقبة الأخيرة من تاريخ الأمة، وبذلك أحكمت قوى الثورة المضادة قبضتها على المنطقة، فتلاشى العمل المشترك واستبدل بالعلاقات الثنائية مع الكيان الإسرائيلي. وقد أدرك بعض الدول العربية حالة التصدع الدولي هذه، فبدأ يتظاهر بالتمرد على التحالف الغربي، وجنح بعضها للتقارب من روسيا. وحتى الأزمة الأوكرانية ليس هناك موقف عربي أو إسلامي موحد، بل قررت كل دولة سياستها الخاصة وحددت موقفها من روسيا حتى أصبح هناك استقطاب واضح بين داعم لروسيا ومعارض. هذا الأمر أزعج واشنطن كثيرا ولكنها لم تستطع فعل شيء لأنها، في نظر الآخرين، من أهم أسباب تصدع الموقف الغربي من جهة وهشاشة الموقف الدولي وتهميش المؤسسات الدولية من جهة أخرى.
وتعرض العمل المشترك على مستوى العالم هو الآخر للتهميش كذلك، وبشكل تدريجي أبعدت المنظمة الدولية عن دورها العالمي واهتمامها بقضايا الحرب والسلام. ولم تعد الأمم المتحدة كيانا جامعا، بل تحولت تدريجيا إلى منبر للخطابة يتناوب زعماء العالم عليه في كل دورة بدون أن تستطيع اتخاذ القرارات، وحتى لو توافقت أغلبية الأعضاء في الجمعية العمومية على قرار فإنها غير قادرة على تنفيذه بسبب غياب الآليات لذلك. وفي غياب العمل الدولي المشترك أصبحت الدول القوية تتسابق لإثبات الوجود، تارة بانتهاج سياسات تنطوي على التنمر والغرور، وأخرى باستعراض العضلات العسكرية ونشر حاملات الطائرات في المناطق الساخنة مثل الخليج والبحر المتوسط وبحر الصين الجنوبي وجنوب شرق آسيا، وثالثة بإجبار الحلفاء سرا أو علنا على تنفيد المطالب الأمريكية وفي مقدمتها التطبيع مع “إسرائيل”. فأمريكا التي تبدو تارة منكفئة على الذات ومتجهة نحو العمل الأحادي، هي نفسها التي تسعى لمد ذراعها العسكري والاقتصادي، واستخدام الآليات الاقتصادية الدولية كسلاح في مواجهة معارضيها سواء في روسيا أم كوريا الشمالية أم إيران أم الحركات الإسلامية التي تعرض أغلبها لأبشع حملات الاضطهاد والقمع.
والسؤال هنا: هل يستطيع العالم الاستمرار في مساره الحالي في غياب مرجعية سياسية أو قانونية تضبط هذا المسار؟ هل يمكن الاعتماد على الدول الكبرى كأمريكا وروسيا مثلا لإقامة حكم القانون على المستوى الدولي والاقليمي؟ وفي ظل ازدواجية المعايير أصبح الغربيون غير قادرين على ممارسة دورهم بحياد أو رغبة في التوافق والسلام. لذلك أصبح العالم عرضة للابتزاز والتصدع والحرب، وربما انتشار الأوبئة والفقر. أما العرب والمسلمون فسيظلون تحت حكم الاستبداد والتمزق ما لم يستجمعوا قواهم مجددا ويخططوا لتكرار ربيع عربي ثانٍ لكسر ظاهرة احتكار السلطة. مطلوب من الناشطين والمفكرين والعلماء إعادة خريطة فلسطين عنوانا لوحدة الأمة ونهجا لمقاومة الاحتلال والتطبيع والاستبداد، وكذلك العمل للحد من الانتشار الإسرائيلي في المنطقة سياسيا واقتصاديا وثقافيا. فبدون ذلك سيتجلى العصر الإسرائيلي على أشده ليستهدف طلاب الحق ويسلب الأمة ما بقي من سيادتها ويحول بينها وبين توجهات العمل المشترك. مطلوب كذلك العودة إلى حقب النفوذ العربي والإسلامي، التي حالت دون التطبيع مع الاحتلال، وأبقت قضية فلسطين على طاولة النقاش في المجامع الدولية. وما لم يحدث ذلك فسيتواصل تهميش القضية الأساس ومعها قضايا الصحوة والنهضة والوعي والثورة الهادفة للتغيير.
٭ كاتب بحريني