- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
د. مدى الفاتح يكتب: أفغانستان هل قضية المرأة أولوية؟
د. مدى الفاتح يكتب: أفغانستان هل قضية المرأة أولوية؟
- 30 أغسطس 2022, 12:10:52 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
«حينما جئت إلى أفغانستان أول مرة كنت أعتبر كل ملتحٍ يرتدي الزي، الذي كنت أراه خاصا بتنظيم «القاعدة»، وكل امرأة ترتدي ما يغطي الوجه وعموم الجسد من الإرهابيين». هكذا قال أحد الجنود الأمريكيين، الذين عملوا في أفغانستان، في ذكرياته عن تلك الفترة. كان الأمر يستغرق شهورا طويلة حتى يدرك القادمون أن اللحية مظهر شائع وأن هذا الزي هو مجرد ملابس شعبية يرتديها «الباشتون» وغيرهم من المجموعات العرقية في المنطقة. هذا ينطبق أيضا على «الشادري» وهو أقرب للنقاب، أو البرقع الذي ترتديه بعض النساء في أنحاء كثيرة من العالم الإسلامي، والفارق أنه شائع جدا في المجتمع الأفغاني.
ما زلت أذكر هذه الشهادة، التي استمعت إليها قبل سنوات طويلة وجعلتني أتساءل كيف يمكن أن تقوم الدولة الأكبر بإرسال جنود إلى منطقة من دون أن يكونوا ملمين بتفاصيلها الثقافية؟ الإجابة الوحيدة، التي أمكنني التفكير فيها، هي أن صانع قرار الحرب لم يكن يرغب في أن يتعامل الجندي مع من يقابله كإنسان عادي، فهذه النظرة ستجعله يتردد في إطلاق النار، أو في استخدام العنف المفرط، في حين أن الوضع يختلف حين يتم إيهامه بأن جميع من هم حوله، إرهابيون وأشرار.
هذا يفسر استسهال عمليات القتل الجماعي، وعشرات الضربات الخاطئة التي أنتجت عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين تحت مسوغ «الحرب على الإرهاب»، كما يفسر كيف كان من السهل قبول أوامر مثل إطلاق النار على أي شي يتحرك، أو استخدام القوة الغاشمة لمجرد الإحساس بتهديد. الاختلاف بين الواقع والصورة المتخيلة قاد لإحساس كثير من الجنود بصدمات نفسية تسبب فيها إدراكهم أن هؤلاء الناس، الذين كانوا يشيطنونهم، لم يكونوا سوى أناس عاديين، صحيح أن ثقافتهم مختلفة، ولكنهم في الأخير مجرد عائلات لا تحلم سوى بالخير لأطفالها. هذا الأمر يتكرر اليوم على نحو آخر، فبعد خروج الأمريكيين من البلاد واستيلاء «طالبان» على السلطة، برز إلى الساحة الإعلامية الموضوع الاجتماعي، واعتبر كثير من وسائل الإعلام العالمية، أن طالبان تقود المجتمع الأفغاني إلى البؤس، حيث عادت من جديد لتطبيق سياستها التي تفرض تغطية الوجه، وتمنع الاختلاط، وتحد من تعليم الفتيات. هناك ضغوط كثيرة على طالبان في هذا المنحى، ففي اللقاءات السياسية والاجتماعات والتغطيات الإعلامية كثيرا ما تتم الإشارة إلى الأوضاع التي تعيش فيها المرأة الأفغانية. مقال جيني فينك الذي نشر في عدد الأسبوع الماضي من مجلة «نيوزويك إنترناشيونال» تحت عنوان «مسجونات في وطنهن» يصب في الاتجاه ذاته، حيث يحكي بشكل درامي عن فقد الأفغانيات لحقوقهن التي اكتسبنها على مدى العشرين عاما الماضية، أي في عهد الأمريكيين والحكومات الموالية لهم، كما يصور مرور عام على خروج الجنود الأجانب الذين كانوا مسيطرين أمنيا على البلاد، كحدث حزين في تاريخ النضال الاجتماعي الأفغاني. عنوان المقال ليس دراميا فقط، لكنه أيضا لا يخلو من لمسة استشراقية، فهو يتبنى التصورات ذاتها التي تنطلق منها الدول الأوروبية، التي تحظر النقاب أو الحجاب، بحجة أن ارتداءهما يتناقض مع حرية المرأة. مشكلة هذا التصور هو أنه يتعمد التبسيط في نظرته، لدرجة اعتبار أن كل امرأة محجبة أو منقبة هي بالضرورة مجبرة على ذلك من قبل الزوج أو العائلة. لا مكان في هذا التصور لافتراض أن الاحتجاب أو الانتقاب، ربما يكون اختيارا شخصيا يجب احترامه.
التغيير المفروض بشكل علوي الذي يتبنى أجندات خارجية وغريبة عن السياق الاجتماعي، هو تغيير سطحي ووقتي وينتهي غالبا بالفشل
الجملة التي لفتتني في صدر المقال هي التي اعتبرت أن الدولة الأفغانية غرقت في الفقر والقمع والعزلة الدولية، مع خروج الأمريكيين، لم أملك إلا أن أقارن هذا بما يقال في الأدبيات الإعلامية العالمية عن الوضع في السودان، فكثيرا ما يتردد التوصيف ذاته عن الحالة السودانية بعد قرارات تشرين/أكتوبر الماضي، التي تم بموجبها حل حكومة «الحرية والتغيير».
على الرغم من البعد الجغرافي، إلا أن الواقع متشابه، فلا المواطن الأفغاني كان يعيش في حالة رفاه وأمن في ظل الانفتاح على «المجتمع الدولي»، الذي دعم، نظريا، حكومات ما قبل طالبان، ولا وضع السودانيين كان جيدا في ظل تبني الحكومة المنحلة لسياسة عنوانها فعل كل ما يقرب إلى قلوب الغربيين. إن إزاحة النظام الذي حكم أفغانستان مستقويا بالبندقية الغربية، هو حدث درامي بالتأكيد، ليس لأنه مؤثر في عامة الشعب الأفغاني، فحتى في ظل الدعم المتدفق كانت أفغانستان تعاني من الفقر والبؤس، الذي كان يدفع كثيرا من شبابها للبحث عن طرق للهجرة والهرب، وإنما لأن هذا التغيير المفاجئ، الذي لم يكن يتوقعه كثير من المتابعين، قطع الطريق على المشروع الليبرالي الأمريكي، لتعود البلاد، التي ظن كثيرون أنها ستتغير بعد عقدين من البقاء تحت المظلة الأمريكية، إلى عاداتها وتقاليدها القديمة المحافظة.
ليس في كل ما سبق محاولة للدفاع عن نظام الحكم المتشدد الذي تتبعه طالبان، فأمور مثل منع الفتيات من التعليم لا يمكن تبريرها تحت أي مسوغ، لكن من المهم تثبيت أمرين: الأول هو أن الوضع الاقتصادي والمعيشي لم يتدهور فجأة خلال العام الأخير، بل كان هذا العام امتدادا لسنوات طويلة من الفشل في رسم سياسة رشيدة قادرة على انتشال الناس من دوائر البؤس والفقر وانعدام الأمل. صحيح أن هناك مأساة حالية في البلاد، ولكن لوم الحكومة الحالية وحدها، واتهامها بالتسبب فيها ليس كافيا، فهذه الحكومة تتعرض لحصار محكم لم يكتف بتقليص المساعدات والمنح، ولكنه تجاوز ذلك لمنع الأفغان من الوصول إلى أموالهم المجمدة في الخارج. هذه السياسات العقابية، ومثل أي سياسة شبيهة، لا تضر النظام الحاكم إلا قليلا، في حين يتحمل الشعب المغلوب على أمره ثقلها. أما الأمر الآخر، فهو أن أي تغيير سياسي أو ثقافي يجب أن ينبع من الداخل، بعد حوارات مجتمعية ونقاشات، أو عن طريق ديمقراطية حقيقية غير متلاعب بها، أما التغيير المفروض بشكل علوي والذي يتبنى أجندات خارجية وغريبة عن السياق الاجتماعي، فهو تغيير سطحي ووقتي وينتهي غالبا بالفشل، كما فشلت دول الاستعمار في السابق في تغيير البنى الثقافية والاجتماعية للمجتمعات المستعمَرة. لم ينس المقال، كعادة الكتابات الغربية في هذه الأيام، أن يذكّر بمقتل الظواهري خليفة أسامة بن لادن، في كابول للتدليل على أن طالبان ما تزال حاضنة للإرهاب، وهو تذكير حتى، إن نجح، في سحب التعاطف مع الحكام الجدد، فهو لن ينجح في القفز على السؤال الأهم الذي يعرف الجميع إجابته: كيف ولدت «القاعدة» ومن الذي هيأ لها الدعم العسكري واللوجستي؟ الشعب الأفغاني، الذي ساءت أوضاعه المعيشية يبدو ساخطا اليوم، لكن من الخطأ القول، إن هذا السخط سببه الحنين للحقبة الماضية، هناك بالطبع من استفاد من النظام الهجين السابق، أو من تماهى مع البرنامج الأمريكي ورأى أنه يمثله، لكن على الرغم من صوت هؤلاء العالي، فإن هذه الأصوات تظل أقلية.
بالعودة إلى قضية المرأة الأفغانية، نقول إنه حين يتعلق الأمر ببلد يعاني من أزمة اقتصادية طاحنة ويتعرض فيه الآلاف للموت بسبب الجوع، يكون من الحماقة أن تكون الأولوية في النقاش للباس المرأة أو خياراتها الجنسية والعملية.
كاتب سوداني