- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
ربيع الحافظ يكتب: تداعيات "الإبراهيمية" على سلامة المجتمعات
ربيع الحافظ يكتب: تداعيات "الإبراهيمية" على سلامة المجتمعات
- 6 أبريل 2023, 3:54:59 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بيّن أهل العلم أن الإبراهيمية -أو ما يسمى بوحدة الأديان- هرطقة يرفضها الإسلام، لكنّ للإسلام الذي هو النسخة الاجتماعية السماوية الأخيرة لأهل الأرض موقفًا موازيًا يخص نظامه الاجتماعي وأيقونة حضارته وهي المظلة التي يعيش تحتها أو يأوي إليها أصناف البشر وكانت منعطفًا في حياة الإنسانية تزامن مع إتمام الدين "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي" واقتبسته المدنيات المعاصرة وسمته "التعددية الثقافية" (Multiculturalism).
هذا النظام مفتوح الصلاحية لاعتبارين: الأول -وهذا للمسلمين- أنه رسالة سماوية تامة، والثاني -وهو للمسلمين ولسائر البشرية معًا- أنه أوجد -وبالضد من نظريات الاجتماع- حضارة هي من أخصب ما مر على البشرية وأقام مدنيات صالحة لكل زمان ومكان، وعليه فإن دمج عنصر شديد الفاعلية الاجتماعية في سبيكة "الإبراهيمية" مع عناصر أخرى (شرائع مرحلية لا تشتمل على نظم اجتماعية: اليهودية والمسيحية) يخضعه لسلوك السبيكة ويهدد الصرح الاجتماعي الذي أبدعه وفي ذلك خسارة للبشرية جمعاء. ولكن لا بد أولا من معرفة أي سلامة تلك التي تهددها الإبراهيمية.
مواصفات محلية وعالمية
يتشكل نظام العلاقات الاجتماعية في الإسلام من تطبيق محلي مكانه الرقعة السيادية للمجتمع -الدولة- وآخر عالمي، ينفذ الأول تحت ضابط "لا إكراه في الدين"، يتمتع فيه غير المسلم بحق البقاء على معتقده وبحرية إدارة أحواله المدنية بقوانين يستمدها من دينه وبالتوازي مع القوانين العامة للدولة، أي إنه في حالة حكم ذاتي مدني، بينما ينفذ الثاني تحت ضابط "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" وهو التعارف والتعاون الإنساني، ومن الأمثلة عليه نظام اللجوء السياسي في النظام الإسلامي الممنوح لأتباع الأديان الأخرى مع حقهم ومنذ اليوم الأول بالعيش وفق أنظمة أحوالهم المدنية كما حدث ليهود الأندلس الذين طردتهم أوروبا واستقبلتهم الدولة العثمانية.
معالم فريدة
من مميزات هذا النظام استمرار معالم الكيانات الدينية -المسيحية واليهودية- والأكثر من ذلك أنه المرجعية الاجتماعية التي تعود إليها طوائفها في فض خلافاتها وظهيرها الأمني في كل أرض جديدة يدخلها الإسلام كما حدث في بلاد الشام ومصر والأندلس والأناضول حين حمى نصارى تلك البلدان من ظلم ذوي القربى، وقد مرت أزمنة خلت من الدولة والحكومة والقضاء والشرطة لم يمس فيها كنيس أو كنيسة بخدش والسبب أنها محمية بالمجتمع وليس بالنظام السياسي أو الأمني وتلك هي صورة اجتماعية أقرب إلى الطوباوية منها إلى الحقيقة لكنها الحقيقة بعينها.
بعض الأزمنة خلت من الدولة والحكومة والقضاء والشرطة لم يمس فيها كنيس أو كنيسة بخدش (غيتي)
مواطنة بألوان المجتمع
إذا توغلنا بشكل أعمق في هذا النظام ستبرز مساحة اجتماعية ومفهوم دقيق لا يزال خارج تغطية علم الاجتماع؛ يقول الموسوعي الفلسطيني المسيحي الراحل نيقولا زيادة "أشعر بالاطمئنان على كنيستي تحت الدولة الأموية وتحت الدولة العباسية لكني أخشى عليها تحت الدولة الصفوية". وما عناه زيادة هو النظام الاجتماعي عند أهل السنة الذي أحس أنه جزء من نسيجه، وذلك يجعل مفهوم "السنّة" مرادفًا "للمواطنة" لدى كل من اطمأن على نفسه في هذا الكيان الاجتماعي. كثير من المسيحيين الذين يهاجرون بعد 14 قرنا قلقًا من المليشيات الطائفية لا يعبّرون عن أحاسيسهم بكلمات زيادة لكن سلوكهم دال عليها.
بيت زجاجي
تلك أمثلة سامقة لأزمنة وأمكنة وظروف سياسية شتى لم تقتض تحقيق وحدة الأديان بل دلت على وجود بديل ناضج يسمح ببقاء الاختلاف ويحقق التعايش، وقد أسس الإسلام المجتمع منذ البداية على أساس بقاء الاختلاف وإبقائه فوق سطح الأرض "لكم دينكم ولي دين" "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين"، ولو دمجهم لتكونت حركات دينية معارضة تحت الأرض وهددت استقرار المجتمع كما في مفهوم الإرهاب المعاصر، وبذلك حصرت المعارضة الدينية السرية بالنفاق الذي موضعه القلب وليس له فكر معلن ويتسربل بالإسلام فهو غير قابل للانتشار والمجتمع في مأمن منه.
النظام الذي أبقى الأديان الأخرى بتراثها الملموس الذي يتجلى في دور العبادة وتراثها غير الملموس الماثل في قوانينها وثقافتها هو بمنزلة "البيت الزجاجي" الذي يوفر لكل غرس اجتماعي ما يحتاجه من عناصر البقاء الخاصة به ويحميه من عناصر الفناء -تهديد قوى المجتمع الكبرى له- ويسمح بنمو غلات الفصول الأربعة في فصل واحد، لذا جاء هذا النظام بكامل ألوان الطيف الاجتماعي ولم يأتِ أحادي اللون كمجتمعات أوروبا قبل أن تستنسخ نظام "مللي" في المجتمع العثماني، وهذا هو جوهر الخلاف بين فكرة صراع الحضارات التي تؤمن بها الحضارة الغربية والتي يخرج فيها أحد الطرفين منكسرًا عسكريا أو اقتصاديا أو ثقافيا وبين تعارفها كما في الحضارة الإسلامية. هذا النظام الدقيق مهدد بالتفكك حين يترجل مهندسه من موقع الريادة إلى موقع الشراكة في ائتلاف ينكر رسالته بالأساس.
التسلل من الشقوق
أمام الأسوار الثقافية العالية التي تحيط بالنظام الاجتماعي يلجأ رسل الإبراهيمية إلى التسلل من الشقوق في تيارات فكرية متمردة على المجتمع والدولة. في عام 2021 زار بابا الفاتيكان العراق ودعا إلى "الديانة الإبراهيمية" في تجاوز صارخ للأعراف الاجتماعية، فلا توجد في العراق اليوم دولة أو مؤسسات ثقافية أو مختصون يأمنون على أنفسهم في مواجهة فكرته الغريبة. والملاحظ أن العناصر التي التقاها البابا أسهمت في هدم الدولة، فقد التقى المرجعية الشيعية التي يعترف أتباعها أنها قوّضت دولة عمرها 90 عامًا في بضعة أعوام والتقى القيادة السياسية الكردية، وكلاهما كانا شقوقًا في جدار الدولة دخل منها المحتل الأميركي والإيراني في حين تجاهل البابا علماء أهل السنة الذين هم سواد المجتمع.
الطريق نحو اللااستقرار
المسار السياسي
لجوء الإبراهيمية إلى الشقوق سيستفز أطياف المجتمع الكبرى: من إسلاميين ومحافظين ووطنيين وهي تشهد تناغمًا متزايدًا في المواقف التي تمس سلامة الدولة والمجتمع. في عام 1999 طلب بابا الفاتيكان زيارة العراق بقصد زيارة مدينة أور بزعم أنها مكان ولادة إبراهيم عليه السلام، حينئذ نصح خبير الآثار البروفيسور الراحل بهنام أبو الصوف (مسيحي) الحكومة العراقية بمنع الزيارة لأنها ليس لها أساس علمي وتعطي الحق لليهود فيما يدّعوه أن أور هي أرضهم وقد تبنّت الحكومة العراقية النصيحة.
ستحصل "الإبراهيمية" على تأشيرة دخول (من الشقوق) تصدرها لها الأنظمة السياسية العربية التي ليست على مودة مع الأطياف الكبرى، وتصبح الإبراهيمية "مغناطيسًا" يلتصق به كل من على خصومة مع الإسلام والوطنية والمحافظة؛ وهي الخصومة الثلاثية التي تتكون منها الليبرالية العربية. هذا الاستقطاب الفكري الحاد يشي بتصادم "تكتوني" بين صفيحتين: صفيحة المجتمع وصفيحة الأنظمة السياسية يهتز له المجتمع المنهك أصلًا منذ 4 عقود، ويوفر التصادم فرصة ثمينة لجهات عدة داخلية وخارجية لإشعال جولة جديدة من التطرف الذي تنزلق فيه فئات شبابية لا تمتلك أدوات الحكمة.
المسار الديني
تصادم الإبراهيمية مع المجتمع أشد أثرًا من تصادم الشيوعية في القرن الماضي التي حاولت إقصاء الإسلام بطريقة الاحتكاك الخارجي فشتمت الجامع ولم تدخله وسخِرت من المنبر ولم تحتله، في المقابل ستكون للإبراهيمية حصتها من الجوامع (التي تشيدها في مجمعات البيت الإبراهيمي بجوار الكنيس والكنيسة) ومن المنابر، ولن تأتي الإبراهيمية بالضرورة على هيئة طقوس تعبدية فذلك استفزازي جدا، وإنما على هيئة أفكار لحوار بين الأديان الثلاثة يقود إلى تماهيها في أكثر المواضع حساسية وهو دور الدين في توجيه المجتمع، والخاسر الوحيد هو الإسلام لأنه الشريعة السماوية التي تشتمل على نظام لشؤون الحياة ﴿قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين﴾، وقد يحدث الحوار بعد خطبة الجمعة بحضور ضيوف من المعابد المجاورة. سيشكل كل ذلك أول اختراق حقيقي للجامع منذ مجيء الإسلام، فما سبقه كان نفاقًا سياسيا يؤديه أجراء، وسيكون تعطيلًا للمكان الذي ينطلق منه الإصلاح كل مرة: الجامع.
ماذا تريد "الإبراهيمية"؟
ستصطدم سفينة الإبراهيمية بصخرة المجتمع ممثلة بمؤسساته الثقافية وناشطيه الذين سيصبون حمم مدافعهم عليها ويهشمونها (وقد فعلوا)، القبطان على علم بوجود الصخرة في مسار الإبحار وبحجمها لكنهم يستمرون بالإبحار نحوها. ماذا تريد "الابراهيمية"؟ خط سير السفينة يشي بمعالم الإجابة: يتكون مسار الإبراهيمية من محطتين رئيسيتين: فكرية وتعبوية، الأولى هي صهر "الكتب المقدسة" معًا واحدة والخروج بديانة لا تمت للأصل بصلة، والثانية هي جمهور يتقبل الفكرة الغريبة.
ليس في سجلات التاريخ ما يطمئن "الإبراهيميين" أن سوء الطالع لن يكون حليفهم في المحطة الأولى، لكن ثمة انسجاما بين ذهنية رفع الحدود بين الأديان وإفراغها من التكاليف العامة وجعلها ممارسة روحية شخصية تبدأ من الصفر البداية التي تبشر بها الإبراهيمية وبين ذهنية رفع الحدود بين المجتمعات والحياة الاجتماعية التي بلا معالم خاصة بها والتمرد على القدوة والانطلاق في الحياة من الصفر التي يرسخها العالم الافتراضي في شبكات التواصل الاجتماعي، هذه الذهنية "الافتراضية" بلغت مراحل متقدمة فالشاب العربي يعيش نمط الحياة الاجتماعية لمدينة لوس أنجلوس من غرفة نومه، سجله في قاعدة المعلومات التي تعتمد عليها الدولة في الأمن القومي يشير إلى هويته العربية المسلمة لكن سلوكه يسير في طريق مختلف، هو فاقد للمناعة الاجتماعية التي كنظيراتها الاقتصادية والسياسية تمثل سوقًا واعدة للسلع الأجنبية وهي جديرة بتحمل خسائر أولية عسكرية أو مالية أو اجتماعية للوصول إليها.
هذا الجيل الافتراضي يقضم المجتمع عدديًّا اليوم وبفاعلية وعندما يحمّل بالإبراهيمية سيقضمه عدديا وفكريا معًا، وبرحيل جيل الآباء (الصخرة) يتوقف السند الاجتماعي وتنقطع السلسلة بين النسخة الاجتماعية السماوية الأخيرة والمجتمع ويصبح لحمًا على وضم (الوضم: الخشبة التي يضع الجزار عليها اللحم ويقطعها كيفما يشاء) وهذا ما تريد الإبراهيمية الوصول إليه. هذا النوع من التغيرات ليس له سابقة في تاريخنا ويحدث عطبًا مخلّا في عمل المجتمع تتولد عنه تيارات فكرية (وأخرى مضادة) كبيرة لا يتسع لخلافها سوى ميدان الحرب الثقافية الأهلية.
الهجوم المضاد في خطوط عريضة
لا تزال الإبراهيمية لم تتعدّ مرحلة جيل الآباء، ومقتلها هو في إطالتها برفدها بجيل من الشباب يستنزفها ويحرمها من الانتقال المريح إلى المحطة التالية، ومن المهم أن تنزف الإبراهيمية من جميع أذرعها (وليس فقط الدينية) وبالأخص ذراعها الاجتماعية كي يعرف الناس أثرها في سلامة مجتمعهم وتتحول المعركة من فكرية نخبوية إلى اجتماعية جماهيرية وهي نقطة الحسم في كل صراع، ومن عوامل الحسم طول خطوط إمدادات الإبراهيمية في مقابل إمدادات المجتمع التي يجدها على أرضه.
ما يتميز به المجتمع الإسلامي هو أنه يستعيد نفسه بعد كل كبوة وأنه يعود كما كان، فمجتمع القرن الأول الهجري (بتفاصيله) لا يزال هو مرجع المجتمع في القرن الـ15 وليس لهذه الظاهرة الاجتماعية نظير في التاريخ، لذا كان هو الأطول بين الحضارات ومن غير الممكن صرف الظاهرة إلى المصادفة؛ فكما أن هذا المجتمع نشأ رغمًا عن نظريات الاجتماع فإنه يعود رغمًا عنها لأنه غير قابل للإطفاء ﴿يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره﴾.