- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
سامح البلاح يكتب: سورة الكهف.. دخلت الأمة كهفها فلم تخرج بعد!
سامح البلاح يكتب: سورة الكهف.. دخلت الأمة كهفها فلم تخرج بعد!
- 7 يوليو 2023, 12:26:17 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في ليلة كل جمعة وعلى أثير ترتيل إذاعي سلس لسورة الكهف، أجدني مأخوذًا بقوة جذب ساحبة إلى بطن الكهف الذي انحشرت فيه الأمة منذ قرون..
لا أزعم أنني نجوت بهذا السماع وتلك السَّفْرة من زمن الغفلة الذي دهم الجميع- إلا من رحم ربي- حتى أُجبر البعض، كنوع من الهروب إلى الأمام، على أن يأوي إلى كهفه الخاص مشغولًا بنفسه، ومن بعده الطوفان يلاحقه بأشلاء الغافلين.. الذين حاربوا طواحين الهواء، بعدما حاصرتهم همومهم الخاصة وأزماتهم المعيشية.. فحمّلوا أثقالاً فوق أثقالهم.
ووسط انشغال المطحونين في الأرض- موظفين وطلبة ومدرسين وأنفاراً وحتى أهل الكيف والمزاج- باستقبال الخميس النفيس من أوله بـ"هلا بالخميس" ليهنأوا بسويعات من الراحة بعد أسبوع من اللهاث وراء لقمة العيش..
كلٌّ له كهفه الخاص الذي يقضي فيه خميسه وليله، أما أنا فعزمت أن أستكشف كهفاً آخر انحشرت فيه الأمة منذ قرون كما قلت ولم تخرج للنور بعد، هذا الكهف ليس مجرد بناء نقل لنا القرآن صورته وسورته بالتفصيل في 110 آيات هي سورة الكهف.. ولكنه حالة حضارية تجمدت الأمة عليها قرونا وموقف تاريخي تشبث بها أجيالاً، وفق سنن الله في الكون.
سورة الكهف.. لاتزال تبهرني أنا شخصيا، بأعاجيبها.. تلك الأعاجيب التي سماها أحد المتأملين المحدثين "الهندسة الإلهية في سورة الكهف"، وهو عنوان كتاب مطبوع للأستاذ محمد عادل القلقيلي، أنصح بقراءته.
السورة تلخص لنا كيف تهوي أي أمة من فوق سلم الحضارة فريسة سهلة يتخطفها الضعف والنسيان..
ففي استعراض ملحمي قصصي، عرضت السورة للفتن المتداخلة التي تنسج حبالها على مهل لاصطياد الأمم الغافلة لتسقطها من عُلُوٍّ فتنكسر حينا من الدهر.. فتبدأ بالدين.. العقيدة.. الروح التي تعطي للجسد معنى، الشعلة التي تضيء ظلام النفوس قبل الحياة، وتبنى في نورها قواعد الحضارة على أطلال الأمم السابقة.
ولا شعلةَ دون حامل مؤتمَن عليها ومطارِد يريد أن يطفئها.. وطريق وعر للنجاة يهلك فيه المطارِد حتماً.. فالحامل: فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدىً.. والمطارد: "قومنا اتخذوا من دونه آلهة".. وطريق النجاة: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
هذا الركن الأول للكهف: الدين والفتنة فيه.
ثم تثني السورة بفتنة أشد كقطع الليل المظلم وهي فتنة المال.. فتأخذنا في جولة بين جنتين من أعناب، صاحبهما لم يعرف حقيقة المال، ولا ماهيته، فلم يحسن توظيفه، وانشغل به عن المهمة الكبرى: عمارة الأرض بما ينفع.
والمال مظهر خدّاع، يميل بصاحبه يمنة ويسرة، فتهتز في عينه موازين الحقيقة، حقيقة الدنيا الفانية: "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدراً- "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير".
وهذا هو الركن الثاني للكهف: المال وفتنته
تخيل هذا الوضع.. لدينا أمة ذات عقيدة راسخة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، لكن.. تهاوت في البذخ والإسراف وغدت سوقا مستهلكة كالنار تأكل ولا تشبع.. حتى تاهت عن هويتها في مظاهر خادعة وتقليد أعمى لكل جديد يتسلل من الشرق والغرب، لقلة العلم وسوء التقدير.
وهنا بات الدين والمال في غير مأمن.. أين الحارس الأمين للاثنين؟ إنه العلم..
تأتي قصة موسى والخضر، لتغرس في أرض ثابتة ثالث أعمدة الحضارة وهو العلم.. الذي يحتاج من الأمة أن تجعله أولوية قبل أكلها وشربها، فتوفر الأجواء المناسبة لنشره.. من منهج قويم وصحبة صالحة وبيئة طيبة تحتضن البذرة حتى تصير شجرة تسر الناظرين..
وهذا هو الركن الثالث للكهف: فتنة العلم
بالثلاثية المتناغمة: العقيدة الصادقة والمال الوفير والعلم النافع تنتج الأمة غذاءها وتركّب دواءها وتصنع سلاحها، ومن هنا تأتي الاستقلالية وحرية القرار..
غير أن الخلطة الحضارية لا يزال ينقصها شيء هو كلمة السر في نجاحها ومن دونه تفقد قيمتها.
إنه السلطة الراشدة التي تحسن إدارة الثلاثية السابقة، فتسير وسط الأمواج على حبل ترخيه وتشده وقت الحاجة وفي يدها ميزان العدل والرحمة وعينها عليه ألا يختل أو يضطرب، ومن هنا يعمُّ مناخ الحرية للجميع؛ المؤتمن على الدين فيقول الحق بلا خوف، وصاحب المال فيستثمر فيما ينفع فيفيد ويستفيد، وصاحب العلم فيخترع ويبدع..
وفي هذا الجانب تأتي قصة ذي القرنين لتعطي النموذج المثالي للوصفة السابقة.. ومفتاح النجاة من الوقوع في الفخ: فتنة السلطة.. "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا"..
إن أرادت الأمة أن تخرج سالمة من كهفها فعليها أن تعيد نظرتها من جديد للأعمدة الأربعة السابقة: الدين – المال – العلم – السلطة، لترى موطن الخلل فتعالجه، وتبصر من أين فسد الأمر فتصلحه..