- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
سامح المحاريق يكتب: الحصاد المر للحكم العسكري في السودان
سامح المحاريق يكتب: الحصاد المر للحكم العسكري في السودان
- 21 أبريل 2023, 1:58:05 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ورث السودان مع الاستقلال إرث ما عرف بالسودان الإنكليزي المصري، وهو ما كان يعبر عنه لقب الملك فاروق، ملك مصر والسودان وسيد النوبة وكردفان ودارفور، وكان على جيل الاستقلال أن يحمل هذه المسؤولية على أرض شاسعة وثرية، فالسودانيون من أوائل من عرفوا التعليم النظامي الحديث في المنطقة مع مصر ولبنان، والمخيلة السياسية السودانية تشكلت في مرحلة مبكرة مع الثورة المهدية في القرن التاسع عشر، ومع ذلك، مضى التاريخ بالسودان من كارثة إلى أخرى، وكان الحكم العسكري حلاً يهبط ثقيلاً بين وقت وآخر، ويستهدف القوى المكونة للحراك الوطني السوداني، ويقوم بعملية تجريف واسعة تمثلت في شتات سوداني واسع يتألف من طاقات وخبرات كبيرة لا يستفيد منها مشروع الدولة في السودان.
كانت مناطق مثل النوبة وكردفان ودارفور تتمتع بأشكال من السيادة في تاريخها ليست بقوة واستقرار السودان النيلي، الذي يتحلق حول الخرطوم ونخبتها، ولكنها أصبحت جزءاً أصيلاً من الدولة الناشئة، ووجد السودان نفسه مع الاستقلال عام 1956 أمام مسؤولية هائلة في تنمية المناطق البعيدة واستيعابها في مشروع الدولة، ووجد نفسه أمام واقع طائفي (الشمال المسلم والجنوب المسيحي)، وآخر عرقي (عرب وأفارقة)، وكان ذلك تهديداً مستمراً للنخبة السودانية، التي لم تتحصل على الوقت الكافي من أجل تشكيل تمثيل مناسب للسودانيين بعد الاستقلال، ما دفع لأول انقلاب عسكري مع الجنرال إبراهيم عبود، وبقية الفصول في التاريخ السوداني من جعفر النميري إلى حسن البشير.
شهد السودان ثورة طلاب جامعة الخرطوم التي تحولت إلى ثورة شعبية سنة 1964، بعد منع سلطات انقلاب عبود العسكري لندوات طلابية كان من ضمنها مناقشة مسألة جنوب السودان، التي أخذت الطابع الدولي في تلك المرحلة، وتمكن السودانيون من الإطاحة بالجنرال عبود ونظامه، ولكن هذه النخبة لم تجد مكانها مع النميري، الذي أسس لنظام قمعي يقوم على فكر الرجل الواحد، وأخذ يرفع مستوى القمع والبطش إلى مستويات غير مسبوقة وغير مقبولة لدى السودانيين، فمقتل طالب واحد كان كافياً لإشعال السودان في 1964، إلا أن مجزرة الجزيرة أبا 1970 وعشرات أو مئات القتلى أعلنت عصراً جديداً للخوف في السودان.
حميدتي هو الثمرة المرة لسودان البشير الذي دفعت الدولة السودانية ومواطنيها ثمن بقائه، واستعان بالقوى الخارجية من أجل الحصول على سنوات إضافية في الحكم
بعد استقلال الجنوب الذي قضم مساحات هائلة من السودان، كانت دارفور تمثل السؤال الإجباري التالي للحكم في الخرطوم، وسؤالاً يقوم على أرضية عرقية، وبدلاً من تفهم المشكلة الدارفورية، وهي مشكلة تنموية في جذورها وجزء من مشكلة التنمية في السودان، التي يفترض أن تضع شعبه في المكانة الطبيعية أمام خريطة ثرواته وخبراته التاريخية، لجأ الرئيس حسن البشير، وهو الانقلابي الثالث في تاريخ السودان إلى تغذية العامل العرقي وتأجيجه من خلال قوات الجنجويد العربية، التي خرجت من الصراع لتكون أكثر قوة، ولتحصل على اعتراف رسمي من البشير، ومن بينها كان محمد حمدان دقلو أو حميدتي الذي أصبح الرجل القوي الذي يمكن أن يوجهه البشير إلى الخرطوم في الوقت الذي يراه مناسباً. كان حميدتي أكثر ذكاءً من الاقتراب من الخرطوم الصعبة والمستعصية على الأطراف الذين يجب أن يتعمدوا أولاً بلعبتها السياسية وتفاصيلها المعقدة، ولذلك ترك البشير يواجه الثورة الشعبية، ويصبح حميدتي جزءاً من النظام ولاعباً رئيسياً فيه، تتحلق حوله القوى التي تستهدف ثروات السودان الطبيعية والاستراتيجية، والشهية الأولى لحميدتي تمثلت في المحافظة على ولاء ورضا قواته، بما يعني حاجته المستمرة للمال، فعندما تتغيب العقيدة التي توفرها مقولات الدولة أو أكاذيبها، فالمال والسلطة التي تحمل وعوداً بمزيد من المال، تصبح له الكلمة العليا. أمام حميدتي كانت قيادات الجيش السوداني، وبيوتها الزجاجية التي جعلتها تتمهل في أن ترمي حميدتي بالحجر مبكراً، خاصة أنها تواطأت في تقليد سوداني على إجهاض القوى المدنية مرة أخرى، وخرجت بالاسطوانة المشروخة نفسها التي أكدت على أنها قوى غير متآلفة ولا يمكن لها العمل في ظل خلافاتها، وبعد العمل المكثف على استبعاد المدنيين، أتت لحظة تصفية الحسابات بين الجيش وحميدتي، وكان على السودانيين أن يدفعوا الثمن مجدداً، ولكن هذه المرة لم يكن السودان القوي والمؤثر الذي يدخل لعبة الحرب الدموية، فسنوات حكم البشير تراجعت بدور السودان لتحوله من دولة صاحبة قرار وحيز استراتيجي في الدول العربية، من خلال وزن السودان في منظومة العمل السياسي، وافريقي من خلال ما يمثله السودان من دولة قوية بين دول مضطربة، إلى مجرد دولة تقوم بوظائف لمصلحة قوى أخرى، فتارة يجري الحديث عن قاعدة تركية على البحر الأحمر وأخرى روسية، الأمر الذي لم يكن متخيلاً في الستينيات والسودان يحتضن العرب المهزومين في 1967، أو في 1970 والسودان يتحرك ليحتوي تفاعلات أحداث أيلول/سبتمبر في الأردن.
حميدتي هو الثمرة المرة لسودان البشير الذي دفعت الدولة السودانية وملايين المواطنين ثمن بقائه طويلاً، واستعان بالقوى الخارجية من أجل الحصول على سنوات إضافية في الحكم، وفي الوقت الذي كان على جنرالات الجيش أن يتعلموا من دروس مشاركتهم التي أنتجت هذه الصورة المشوهة للسودان، عاودتهم شهوة الحكم من جديد، وما دامت المسألة كذلك، فحميدتي يرى أنه جدير باختطاف السودانيين هذه المرة، وما يعرفه كثير وخطير، على الأقل هو قادم من معادلة جرت واختمرت خارج الخرطوم، بينما عيون الانقلابيين بقيت على الدوام معلقة بالقصر الجمهوري ومحيطه.
للتعرف على أي سودان تركه البشير والحكم العسكري وراءه، يكفي التأمل أن فضيحة تهريب يهود الفلاشا من إثيوبيا إلى إسرائيل كانت القشة التي قصمت ظهر النميري، واليوم تطرح إسرائيل وسيطاً بين طرفي الصراع في السودان، فأي رحلة عبرها السودان وإلى أي مصير يتوجه في هذه اللحظة الكئيبة من تاريخه، هل يبقى سودان الاستقلال أم نعود إلى سودان دارفور وكردفان والنوبة.