- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
لطفي العبيدي يكتب: الدولة العربية ومشكلة تأسيس السلطة وتوحيد مؤسساتها
لطفي العبيدي يكتب: الدولة العربية ومشكلة تأسيس السلطة وتوحيد مؤسساتها
- 21 أبريل 2023, 2:11:22 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
حال السودان وغيره من البلدان العربية يعكس عدم قدرة الدولة على النهوض بدور وطني توحيدي. على نحو مرتبط بقدرتها على تجديد نفسها من الداخل، وبناء مؤسسات موحدة غير متفرقة أو منشطرة. وبالأساس تأمين شرعية الحكم وفق المداخل السياسية والمدنية الفعلية، التي تضمن النقاش في المجتمع السياسي المدني. هذا لم يحصل، وبالتالي لا نتفاجأ من انهيار السلم الأهلي في بلدان كهذه، عندما يكون الوضع بعد عقود طويلة من الاستقلال على هذه الشاكلة من الارتهان والتبعية والتخلف البنيوي، الذي يجعل تربية النظام الحليف والخاضع لمصالح الخارج على حساب المصالح الوطنية أفضل، وفق منطق الاستدامة والمراوحة في المكان والتمسك بالسلطة، من تربية الجميع على الحرية والتعايش السلمي عن طريق المناقشة، وتشريع قواعد قانونية ومؤسساتية حقيقية وفاعلة، تنهض بأوطانها، وتوفر الحياة الآمنة والعيش الكريم لشعوبها.
المشكلة الحقيقية بالنسبة لفكر سياسي مهزوم هو أنّه بلا رؤية أو استراتيجية وطنية جامعة. ما يشغله دائما هو السيطرة على المجال العام، وخنق التعدّدية السياسية، واستحداث أحكام تسلّطية، وتطويع القوانين لخدمة مصلحة النظام وتكريس ديمومته، وبالتالي مأسسة العقيدة السّلطوية. وأصبح من الصعب على بعض الأنظمة استعادة التوازن المجتمعي، وإدارة الاستحقاقات السياسية، واستيعاب الضغوط الاقتصادية، حتى إنّ الركائز المعيارية الساعية لتقديس سيادة الدولة وتعزيز هيبتها، فقدت كثيرا من صلابتها في ظل المتغيرات الدولية والأطماع الخارجية. وأصبح بيّنا أنّ «القيم الغربية» خارج حدود جغرافيتها، هي مجرد أدوات للتّطويع والتّبشير والإلهاء والخداع، وشقّ الصفّ الوطني، وشحذ نوازع الاقصاء المتبادل، والتدخل في شؤون الدول، ومنع تماسك نسيجها الاجتماعي. والأسباب واضحة: مقتضيات الاستقرار النفطي والتجاري، والمصالح الاستراتيجية والتنافس على الإقليم وثرواته.
المشاكل المجتمعية وتحديات الإصلاح السياسي والاقتصادي، واضمحلال دور الدولة ومؤسسات الحكم المركزي، معوقات تمنع تشكّل الدولة الوطنية الحديثة وفق مقومات سليمة
الشعوب العربية انكوت بنار النُّظم الشمولية، وبوصاية واملاءات الديكتاتوريات العسكرية وغير العسكرية، التي غيّبت الحقوق المدنية والسياسية. وما زالت تعامل شعوبها معاملة الأقنان والعبيد، وليس رعايا حتى. جمهور تراه وسائل الإعلام قطعانا يمكن استلابها بضجيج دائم. والسلطويون ما زالوا يتوارون خلف مصطلحات فضفاضة، من ذلك ادّعاء أنّ هناك نظاما ديمقراطيا، أو ديمقراطية رقابية. والحقيقة أنّ ذلك لا وجود له سوى في المنابر، وعلى ألسنة حاذقي الشعارات، بهدف صيانة الاستبداد وخداع الناس. في الأثناء، تغدو وسائل الإعلام منصّة تبرير للمراهقة السياسية، وتعتيما للفشل السياسي، وهي عبارة عن شبكة مسرح مليئة بالوعود الكاذبة تبحث عن تصدير الأزمات نحو الخارج. وظيفة أجهزة الإعلام الجماهيرية، هي تزييت المجتمعات بزيت مصالح الطبقة السياسية، كما يراها تشومسكي، وفي مجتمع مدهون بهذا الزيت جيّدا، لا تقول بما تعرفه من حقائق، بل تقول بما ينفع أرباب عملها في السلطة، كأنّ تشومسكي في ذلك يأخذ بقول جورج أورويل: «كلّما ابتعد مجتمع عن الحقائق، يكره الذين يقولون بها». لكن في نهاية المطاف، إن معظم الأباطرة لا مخالب لهم، فمخالبهم في عقول جنّدوا مثقّفيهم للتلاعب بجيناتها. تغييب مسؤولية السلطة والطبقة السياسية في ما تؤول إليه سياساتها وإدارة الشؤون العامة، هي واقع نعيشه عربيا، وتنضاف إلى استراتيجية افتعال الإشكالات ثم افتعال الحلول التي تحدّث عنها تشومسكي مع إدوارد هيرمان، في «صناعة الإذعان، الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام الجماهيرية»، فالطبقة السياسية تعمل على التسيّب الأمني على سبيل المثال، ثم توجّه الإعلام لصنع الحدث، حيث تأخذ بالدعوة إلى طلب الأمن، أو تترك أزمة اقتصادية تتفاعل حتى حافة الانفجار، ثم يتحرّك الإعلام من أجل التمهيد لحلول طارئة عادة ما تكون قاسية، ثم يصبح الطارئ دائما، ثم المؤقّت هو الأكثر ديمومة. خيبات الواقع السياسي العربي والفكر السياسي التابع والمهزوم، لا يمكن أن يكون نصيرا للقضية الفلسطينية، والأصفاد السلطوية العتيقة، الجاثمة على صدور الشعوب عاجزة عن الحفاظ حتى على السلم الأهلي. حكومات في مجملها فاسدة، غير قادرة على تغيير حال أوطانها نحو الأفضل، وبالتالي لا ترجى منها مواقف جادة تجاه القضايا الإقليمية، أو ما يسمى أولويات العمل العربي المشترك. فهي لم تستطع أن تحسّن من واقعها الداخلي بفعل الفساد والتسلط وخدمة المصالح الفئوية. لبنان والعراق وغيرهما من الدول دمّرها الفساد والتنازع الطائفي. والخلاف حول ترسيم الحدود البحرية اللبنانية الإسرائيلية، يمكن أن يتجدّد في أي لحظة، ويكون مصدرا آخر لتفجير الأوضاع إقليميا، نظرا إلى أنّه في ظل الموقف المعلن من قبل «حزب الله»، قد يؤدي إلى مواجهة عسكرية في حال ذهاب تل أبيب إلى أي استثمار في المنطقة المتنازع عليها، من دون اتفاق دائم بين الجانبين. دول في معظمها تعاني أزمات سياسية واقتصادية، تنعكس سلبا على الواقع الاجتماعي. وبشأن الاحتياطيات والاستكشافات الجديدة للثروات الباطنية في شرق المتوسط، هل ستتحوّل إلى مصدر مشكلات جديدة؟ أم على العكس ستكون خطوة نحو التعاون والسلام؟ لا يمكن الجزم بأي احتمال نظرا لسعي عدة دول أخرى إلى عقد تحالفات على عدة محاور لضمان مصالحها الاستراتيجية، كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وفرنسا، إضافة إلى تنافس الدول الواقعة على أطرافه، كمصر وتركيا واليونان وسوريا ولبنان وفلسطين وكيان الاحتلال الإسرائيلي. وهذه الثروات التي يتم استكشافها في المنطقة تكتسب أهمية كبيرة، خاصة بعد الأزمة الأوكرانية وانعكاساتها على صناعة الطاقة وأمنها، الذي يحتم ضرورة البحث عن مصادر جديدة، وهو مشغل أوروبا الآني في مساعيها لتأمين موارد آمنة ومستقرة للطاقة، كمحاولة للتخلص من تبعيتها للغاز الروسي. المهم في كل ذلك أن تستفيد دول المنطقة من ثرواتها لمصلحة أوطانها، لا أن يكون المتوسط الشريان الحيوي للاستعمار مرة أخرى، لأنّه الجسر الذي يصل الشرق بالغرب، والممرّ الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والافريقية، وملتقى طرق العالم بشكل عام.
المشاكل المجتمعية وتحديات الإصلاح السياسي والاقتصادي، واضمحلال دور الدولة ومؤسسات الحكم المركزي، معوقات تمنع تشكل الدولة الوطنية الحديثة وفق مقومات سليمة، من شأنها أن تخلّصها من مشكلة تدهور العلاقة بينها وبين مختلف فئات المجتمع، بسبب ارتكاز السلطة على قواعد ضيقة من الفئات القليلة المستفيد، إضافة إلى خضوع شعوبها للأنظمة العسكرية الشمولية، وما يجري في السودان يعكس أهمية تجانس مؤسسات الدولة والمجتمع داخل الوطن الواحد.