- ℃ 11 تركيا
- 24 نوفمبر 2024
سامح المحاريق يكتب: الضفة الغربية… بؤرة العنف والخوف في العقيدة الإسرائيلية الجديدة
سامح المحاريق يكتب: الضفة الغربية… بؤرة العنف والخوف في العقيدة الإسرائيلية الجديدة
- 23 يونيو 2023, 3:34:43 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
قامت الهندسة الصهيونية منذ اللحظة الأولى على تناقض يثير الانتباه، فالوجود الذي استندت إليه محاولات إعادة إنتاج الشعب اليهودي القديم في شعب جديد مخترع، تجاهلت وقائع العواصم التاريخية للوجود اليهودي في فلسطين، القدس ونابلس والخليل، وقامت بتسكين معظم المهاجرين على ساحل المتوسط، فهو المنطقة الأكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية، والمشروع الصهيوني لا يمكن فصله عن المصالح الاستعمارية التي قدمت له الدعم والرعاية، كما أن تحقيق الأمن للكتلة المهاجرة يبقى أكثر واقعية من خلال وجودهم في المنطقة الساحلية المفتوحة، وبذلك أتى قرار التقسيم الأول ليعكس هذه الوقائع على الأرض، وتمكنت العصابات الصهيونية من تحقيق ما يتجاوز المشروع، فسيطرت على المدخل البحري الشمالي، الذي كان يضع عكا في الحصة العربية من مشروع التقسيم، وجرى اختزال الوجود الفلسطيني في منطقتين، تمثلت الأولى في مساحة أقل من ستة آلاف كيلومتر، يشكل غور نهر الأردن والمناطق الجبلية غير الزراعية جانباً كبيراً منها، بالإضافة إلى قطاع غزة.
الضفة الغربية تعتبر تسمية سياسية بالدرجة الأولى، وظهرت بدايةً في الوثائق الحكومية الأردنية لتوصيف الأراضي التي دخلت رسمياً للمملكة الأردنية الهاشمية سنة 1950، وهي القصة التي بدأت بعملية انضمام معقدة واجهتها معارضة واسعة من جامعة الدول العربية، وانتهت بفك الارتباط، الذي ما زال يشكل في المقابل مشكلة قانونية متشعبة، خاصة أنها مرتبطة بمجموعة من القرارات الأممية، التي كان الأردن طرفاً أصيلاً في استصدارها وفي متونها وهوامشها، وأهمها القرار 242، ولكن ذلك كله يصبح هامشياً أمام واقع الضفة الغربية المعيشي، الذي أخذ يتحول إلى معاناة متواصلة بعد بناء الجدار العازل والتوسع في الاستيطان، والسعي للاستحواذ على الأرض في رقعة جغرافية تجد صعوبات طبوغرافية، وأخرى اقتصادية في تحقيق وجود مستقل لا يعتمد تبادلياً على محيطها الجغرافي.
اعتبرت الضفة الغربية هادئة نسبياً مقارنة بقطاع غزة، فالجنود الإسرائيليون كانوا ينظرون إلى تكليفهم بالخدمة في غزة كرحلة للجحيم، ولكن الأمور تغيرت بصورة جوهرية بعد التوحش الاستيط،اني الذي يمكن رصد قفزته الكبيرة بعد الاستحواذ الكبير لليمين الإسرائيلي على القرار السياسي بعد تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية بفترة وجيزة، ولإشكاليات التوسع الاستيطاني في غزة، والتكلفة العالية لإدارة الكثافة السكانية مع محدودية القطاع في المساحة والموارد.
ما يدركه الإسرائيليون، أن الفلسطينيين، أعادوا تعريف أفكار جوهرية في وجودهم الإنساني، وبدأت حرب الاستهانة بين الطرفين، فالفلسطينيون يواجهون استهانة المعتدي بحياتهم، باستهانة مقابلة بالموت نفسه
تركزت المشروعات الاستيطانية في الضفة لتنبني على أساسها مجموعة معقدة من خطوط الاحتكاك اليومية بين الفلسطينيين والمستوطنين الإسرائيليين، ولكن ذلك لا يفسر التغول الإسرائيلي الواسع على الضفة الغربية في الأشهر الأخيرة الذي وصل إلى اشتباكات شرسة أظهرت مدى المشكلات التي أصبحت تنضح بها الضفة الغربية، وتصدرها إلى الداخل (الإسرائيلي)، ولكن ذلك لا يفسر الصورة الكاملة، لذا يجب ألا تتغيب حقيقة عدم قدرة إسرائيل، الدولة والمجتمع، على المحافظة على الزخم من غير وجود العدو، بوصفه واقعاً قائماً أو فكرة محتملة. حملة التطبيع العربية جعلت الفكرة القائمة حول الصراع العربي والخوف من مئات الملايين تتراجع في المخيلة الإسرائيلية، فالتطبيع لم يكن على أساس تدريجي، ولم يشتمل على تنازلات إسرائيلية تحفز تغيرات اجتماعية، فكل ما حدث هو اختراق مفاجئ أظهر أن الكتلة العربية أصبحت أضعف في المواجهة أو غير معنية بها والبحث عن عدو وجودي قريب، كان يضع الضفة الغربية بإمكانياتها المحدودة المرشح الوحيد تقريباً لأداء الدور الإلزامي، وبدت إسرائيل على ذلك الأساس غير مهتمة بتقديم ما يمكن أن يؤسس لحالة من المهادنة تكون مدخلاً لتحقيق السلام من خلال الانسحاب ما وراء الاحتكاك اليومي. حاولت اسرائيل، وما زالت، أن تضع الضفة الغربية، بإمكانياتها المحدودة ومشكلاتها المتراكمة وأزماتها الضاغطة في صورة الخطر الذي يحمل التهديد الإرهابي داخله، وهو خطر سائل بصورة مستمرة، ومن أجل ذلك، بدأت عملياتها التي لا تسعى إلى تحقيق تقدم استراتيجي معين، فالهدف هو تحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم متواصل، وبناء ذاكرة من الخوف أمام الأجيال الجديدة، تدفعهم للبحث عن الرحيل، ووقتها يمكن البحث عن عدو آخر. ما يدركه الإسرائيليون، أن الفلسطينيين بشكل عام، أعادوا تعريف أفكار جوهرية في وجودهم الإنساني، وبدأت حرب الاستهانة بين الطرفين، فالفلسطينيون يواجهون استهانة المعتدي بحياتهم، باستهانة مقابلة بالموت نفسه، والفرق بين مشاهد التشييع الفلسطينية والإسرائيلية يظهر هذه الفوارق بصورة هائلة، الأمهات الفلسطينيات المتماسكات والممتلئات بالفخر، مقابل الأم الإسرائيلية غير المصدقة والذاهلة، وحين يتعلق الأمر بالمشاعر الأمومية، فلا يمكن التوقف عند نظريات اعتيادية حول بنية المجتمع، ويجب أن يتم تجاوزها بصورة كبيرة لفهم طبيعة المقاومة الفلسطينية التي تجعل فكرة التصدي والخروج هي المكانة الاجتماعية الرفيعة، في المقابل، تتأتى المظاهر الفجائعية في الجنازات الإسرائيلية لتظهر هشاشة الإيمان بما يقف وراء هذه الحرب المستمرة من قيم، وأن الخوف الحقيقي يتأسس في الجانب الآخر المدجج بالسلاح، وهو المطلوب تحقيقه إلى حد ما من أجل خلق الرغبة في تحقيق الأمن من خلال التقدم في العنف والمزيد من الرهان عليه.
الجوهر الاستعماري للوجود الإسرائيلي، والتحول إلى حائط ديني في المرحلة الراهنة، والحاجة إلى وجود ما يتجاوز الحياة اليومية المستقرة لتحقيق التماسك في مجتمع متباين عرقياً وطبقياً وثقافياً، ولا تجمعه سوى تصورات قديمة تخالطت فيها الأسطورة بالوقائع التاريخية، جميعها عوامل تعطي اليد العليا في المنطق التاريخي للفلسطينيين، ومع ذلك، فالطبيعة الانتحارية للكيان الصهيوني القائم على استغلال الأسطورة نفسها، ستدفعه إلى التمادي في هذه الحرب التدميرية التي تبدو حصيلتها النفسية لمصلحة الفلسطينيين، والتصاعد الميداني الراهن يتعزز مع وجود فراغ في فكرة العداء والتهديد أحدثه التطبيع العربي الذي أتى من غير تحقيق عوائد ما للفلسطينيين، وكأنهم ليسوا طرفاً في القضية من الأساس.
كاتب أردني