- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
عبد الحميد صيام يكتب: مذبحة الطنطورة وأهمية التأريخ الشفوي الفلسطيني
عبد الحميد صيام يكتب: مذبحة الطنطورة وأهمية التأريخ الشفوي الفلسطيني
- 23 يونيو 2023, 12:04:40 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
أطلق «مركز التاريخ الشفوي والتراث الفلسطيني» في الجامعة الإسلامية بغزة مشروعا مهما وتاريخيا لتوثيق أحداث النكبة الفلسطينية، والمجازر وعمليات التطهير العرقي التي جرت بين عامي 1947 و1951 من خلال تسجيل روايات شفوية من الذين عايشوا هذه الأحداث. ويستعد المركز لعقد مؤتمر علمي أكاديمي في شهر أكتوبر المقبل في مقر الجامعة بغزة. وقد دعيت لتقديم ورقة في الندوة العلمية التي أقيمت يوم الاثنين 12 من الشهر الحالي حول أهمية التاريخ الشفوي، ومدى أهمية الشهادات التي تجمع عن طريق هذا الأسلوب وآراء المؤرخين في هذا الأسلوب.
أهمية التأريخ الشفوي
التأريخ الشفوي أمر مهم في الحضارة العربية، فقد تناقل العرب شفويا عيون القصائد والمعلقات وأخبار القبائل والوقائع والغزوات، وكذلك القرآن الكريم الذي حفظته الصدور قبل الألواح، والأحاديث النبوية التي جمعها الرواة بعد نحو 200 سنة من وفاة الرسول عليه السلام. لكن التأريخ الشفوي كأسلوب بحثي ليس خاضعا لمقاييس علمية تجريبية دقيقة، ازدهر كثيرا في القرن الماضي خاصة في فترة السبعينيات حيث أنشئ العديد من مراكز البحث المختصة بالتاريخ الشفوي أهمها، في جامعة كولمبيا وجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس وجامعة أيسكس في بريطانيا وغيرها الكثير. كما عقد العديد من المؤتمرات لتقنين هذا العلم. ويعرّف العالم رونالد غريلي المدير السابق لمركز دراسات التاريخ الشفوي في جامعة كولمبيا، التأريخ الشفوي بأنه: «إجراء مقابلات مع شهود عيان لأحداث ماضية، من أجل إعادة تركيب التاريخ الصحيح، إنه طريقة بحثية مهمة ومقنعة استخدمت كثيرا في القرن العشرين- وهي تزود المؤرخين بفرصة للاطلاع على تجارب غير موثقة بما في ذلك حياة قادة المجتمع المدني، الذين لم يكتبوا مذكراتهم، والاطلاع على القصص المخفية من الناس المهمشين مثل، العمال والنساء والسكان الأصليين والأقليات العرقية والفئات المضطهدة والمهمشة الأخرى. وقد وجهت السهام لمؤرخي التاريخ الشفوي وتعرض هذ العلم لانتقادات لاذعة نذكر منها:
الطنطورة الحالة الوحيدة في تاريخ إسرائيل الذي نوقشت فيها النكبة الفلسطينية في المحكمة.. ومنع القاضي الناجين الفلسطينيين من دخول المحكمة ليدلوا برواياتهم
– تآكل الذاكرة مع تقدم العمر؛
– الحنين إلى الماضي قد يؤثر في سردية الرواية وتحويرها لتناسب الصور العالقة؛
– الانحياز الشخصي والابتعادعن الموضوعية للشخص الذي يجري المقابلة والشخص الذي تجرى معه المقابلة؛
– تأثير الرواية الجماعية والصورة النمطية التي يتم تعميمها عن الحادث.
لكن المؤمنين بهذا الأسلوب يرفضون هذه الاتهامات ويؤكدون: «ليس عيبا ولا منقصة إذا الذاكرة اختارت جزءا من الوقائع وليس كلها، أو أخطأت في التواريخ والتفاصيل» فالذاكرة ليست مستودعا للمعلومات، بل هي جهاز خلاق ومبدع في إضفاء المعاني للأحداث، كما قال العالم الإيطالي أليساندرو بورتيللي. إن دعوى نفي حجّية التاريخ الشفوي بالكليّة، هي دعوى أقرب للسطحية منها للدراسة الموضوعية. ورغم أن التلاعب وارد في كتابة التاريخ كما هو وارد في الأنشطة الإنسانية كافة، إلّا أن ذلك لا يلغي الذاكرة جملة واحدة، وإنما يعزز من الجهود للحفاظ عليها من الضياع والتلف. ويلفت الباحث وجيه كوثراني في كتابه (تأريخ التاريخ) النظر إلى أن هناك شعوبا وجماعات بأكملها لا تعتمد إلّا على التاريخ المروي شفهيا مثل ذاكرة المناضلين والمقاومين، والمعذبين في حروب أهلية والمضطهدين في حملات استعمارية، ناهيك عن شعوب بأكملها ليس لديها تاريخ مكتوب، وإلغاء حجيّة التأريخ الشفوي يعني إزالة الوجود الإنساني لهذه الجماعات من ذاكرة البشرية، وهو أمر لا يستقيم لا عقلاً ولا موضوعاً.
الأمم المتحدة والتأريخ الشفوي
لقد استخدمت الأمم المتحدة آلية التأريخ الشفوي لجمع المعلومات حول أحداث معينة عاشها أناس أحياء يخشى رحيلهم، وبالتالي أوجدت أرشيفا واسعا تحت عنوان «التاريخ الشفوي للأمم المتحدة»، ثم لجأت إلى المقابلات الشفوية في عمليات التحقيق حيث تستند لجان التحقيق في الأحداث الكبرى لجمع المعلومات وتوثيقها إلى آلية التأريخ الشفوي، ضمن مجموعة وسائل أخرى من بينها: المعلومات الشبكية، وسائل التواصل الاجتماعي، العينات المأخوذة من المكان ومن الضحايا، صور الأقمار الصناعية، الدراسات المخبرية، الحفريات، أجهزة التنصت والاستماع للمحادثات. وكي تدخل أي معلومة في التقرير النهائي، يجب أن يكون هناك أكثر من مصدر واحد يؤكد المعلومة نفسها إضافة للمصدر الشفوي.
التأريخ الشفوي في فلسطين
إن أول من دعا إلى تشكيل عمل مؤسسي لجمع التاريخ الشفوي للفلسطينيين وتأطيره هو الراحل البروفيسور إدوارد سعيد عام 1988 عندما كان يدير اجتماعا في باريس بين مؤرخين فلسطينيين وإسرائيليين، حين دعا إلى إعادة بناء الماضي، خاصة الأحداث المريعة التي واكبت النكبة الفلسطينية، وعشرات المذابح التي رافقت عملية التطهير العرقي للفلسطينيين وتفاصيل عملية التهجير القسري، وتوثيق وجهات نظر هؤلاء المبعدين وهذا لا يتم إلا عبر موقف قوي من مسألة علم التأريخ الشفوي. بدأ بمثل هذا المشروع الاستاذان كمال عبد الفتاح وشريف كناعنة عام 1985 في جامعة بير زيت، ثم توقف المشروع أثناء الانتفاضة الأولى واستؤنف عام 1993. والآن هناك عشرات المواقع والمبادرات التي توثق التاريخ الشفوي بالصوت والصورة. وقد أنجز مركز التاريخ الشفوي في الجامعة الإسلامية منذ إنشائه عام 1998 ما مجموعه 1820 رواية شفوية مدونة.
مذبحة الطنطورة ودور التأريخ الشفوي
جاء أول ذكر لمجزرة الطنطورة على لسان الحاج محمد نمر الخطيب، وهو رجل دين وإمام وكان عضوا نشيطا في اللجنة الوطنية العربية في حيفا (أعلى هيئة سياسية محلية) قبل الاستيلاء عليها من قبل الهاغاناه بين 23 و25 أبريل 1948. ففي عام 1950، نشر محمد الخطيب في دمشق مقالا بعنوان «من آثار النكبة» نقل في المقال رواية عقاب اليحيى وابنه مروان من الطنطورة تفاصيل المذبحة. ترجم المقال للعبرية عام 1954. وهذا المقال ذكر اغتصاب فتاة من بلدة الطنطورة، وعولجت في مستشفيات نابلس. وأشار وليد الخالدي إلى «منهجية إطلاق النار والدفن في مقبرة جماعية لنحو أربعين شابا في قرية طنطورة ونشره عام 1961؛ ثم أعيد نشر المقال عام 1988 في مجلة دراسات فلسطينية. بقيت قضية المذبحة أمرا مخفيا إلى أن قام الطالب تيدي كاتس ببحث لنيل درجة الماجستير من جامعة حيفا عام 1998. وقد أشرف على رسالته ألان بابيه المؤرخ المعروف، وحصلت الرسالة على امتياز وعلامة 97/100. وقام كاتس بنشر مقال عن المذبحة عام 2000 أحدث هزة كبرى في المجتمع الإسرائيلي، وتقدم بعض الجنود والضباط من المتقاعدين من لواء الأسكندروني بشكوى للمحكمة، وطالبوا كاتس بالاعتذار ودفع غرامة مالية بقيمة مليون شيكل، ما أربك كاتس وأجبره على التراجع ثم أصيب بعدها بشلل. أهمية المقابلات الشفوية التي سردها كاتس، كونها آتية من الناجين وشهود العيان من أفراد لواء الأسكندروني. تم اختيار الشهادات من عشرات المقابلات التي تم جمعها خلال صيف 2000 مصطفى الوالي الباحث الفلسطيني المقيم في دمشق، ثم نشرت الدراسة عام 2000 في مجلة «الدراسات الفلسطينية». ألون شوارتز، مستندا إلى تلك الوثائق، حولها إلى فيلم وثائقي مؤثر عام 2022. وعرضه في مهرجان صندانس، ولقي الفيلم الشهرة والانتشار، وبدأت تحاك المؤامرات لتجريد الفيلم من أهميته الأكاديمية. فوجه للفيلم العديد من الانتقادات، خاصة فكرة اعتماد الفيلم على الرواية الشفهية، لكن الفيلم، رغم كل القيود انتشر بشكل واسع ما أثار حفيظة الحكومات الإسرائيلية وقرروا التشهير به. وتكمن أهمية قضية طنطورة أنها الحالة الوحيدة حتى الآن في تاريخ إسرائيل الذي نوقشت فيها النكبة الفلسطينية في المحكمة. لقد منع القاضي الناجين الفلسطينيين من دخول المحكمة ليدلوا برواياتهم. كما أن هذا المسلك من المحكمة سيعيق أي بحث مستقبلي في نكبة 1948 بشكل غير مباشر على الذي لا يؤيد الأيديولوجية الصهيونية، بإعطاء باحثي المستقبل سببا للقلق بشأن العواقب القانونية لفتح ملف الصراع الماضي. تكمن قوة الفيلم الوثائقي حول مجزرة «الطنطورة» فطالما أن الجناة يرفضون الاعتراف بمسؤوليتهم عما حدث، فلا يمكن أن يبدأ التعافي، لكنْ لا الجنود المخضرمون ولا الحكومة الإسرائيلية سيعترفون بهذا التاريخ الملطخ بالدم والعار، لأن الاعتراف بالمجزرة من شأنه أن يتحدى شرعية الدولة ككل. إنها فرصة أمام القوى الفلسطينية الحية، سواء رسمية أو خارج أطر الرسميات، للقيام بواجب الدفاع عن الرواية الفلسطينية لماذا ننتظر حتى يأتي يوم يقوم فيه باحث إسرائيلي ويميط اللثام عن مذبحة بحجم الطنطورة؟ لماذا لا يكون هناك توثيق لكل المجازر وكل المواقع وكل التطورات.
من حقنا جميعا أن نتابع الدرب ونقوم بتسجيل شفوي مع من عاصَرَ النكبة، رغم قلتهم، للانطلاق نحو قيام الدولة الديمقراطية على كل تراب وفلسطين. من حقنا أن نسمع شهاداتهم والتصريحات المتعلقة بجيل عاصر النكبة لكنه على وشك الانقراض.
محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي