- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
سامح المحاريق يكتب: غادة والي… كيف وصلنا إلى هنا؟
سامح المحاريق يكتب: غادة والي… كيف وصلنا إلى هنا؟
- 26 مايو 2023, 12:36:32 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
بالتجاوز عن قصة اللواء إبراهيم عبد العاطي الشهير بعبد العاطي كفتة، نسبةً إلى وعده بتحويل فيروس الإيدز إلى كفتة يتغذى بها المريض، واعتبارها مع كل تفاصيلها وهوامشها فاصلا من الكوميديا السوداء، فإن الوصول إلى محطة فضائح السرقات الفنية لمصممة الجرافيك الشابة غادة والي يوقظ قلقا حقيقيا ويعلن فشلا جليا لما يمكن تسميته بمسيرة التنمية في مصر، فغادة تنتمي إلى فئة المرأة والشباب، والفئتان يحتلان مكانة مهمة في تصورات التنمية في الدول العربية، ومصر ليست استثناء.
خرجت والي ليعرفها المصريون في أحد مؤتمرات الشباب، تتحدث بلغة عربية ضعيفة، وبثقة لا تتأتى إلا لأبناء طبقات اجتماعية معينة، تلك الثقة التي تتحدث أروى صالح عن استراتيجيات تأسيسها لدى أبناء البرجوازية الكبيرة، فينشأون قادرين على التحديق في العالم ومتحررين من الأوهام الأخلاقية، ويتعلمون منذ البدء أن العالم مخلوق للأقوى، أي لهم، وللقادرين على أخذه بدون أوهام أيديولوجية وأخلاقية ومثل عليا وبتلك الثقة، وقفت غادة والي في حضرة الرئيس المصري قبل فترة غير بعيدة، وتمكنت من تأميم هوية مصر لرؤيتها الخاصة، لتحصل على دعم رئاسي بتكليفها من أجل تبني هذه المسألة، ومن يمكنه أن يقف أمامها في هذه اللحظة، فهي تعلن نفسها ابنة للنظام، بمعناه الواسع الذي يفوق التجلي السياسي مع الرئيس، ولكن بمعناه الاجتماعي الشامل، النظام الطبقي الخانق والمسيطر، والنظام في المقابل يفتح ذراعيه لاستقبالها، فهي ممثلة جيدة له، وهي بكل مقاييسه لائقة اجتماعيا.
اللياقة الاجتماعية ستأخذنا إلى ليلة من صيف 2003، عندما وجدت جثة الشاب عبد الحميد شتا طافية على سطح النيل، لتعلن نهاية حياته القصيرة منتحرا بهدوء بعد رفض تعيينه ملحقا تجاريا في وزارة الخارجية، مع أنه يمتلك جميع المسوغات التي تعزز وضعه بوصفه طالبا متفوقا في الاقتصاد والعلوم السياسية في مرحلتي البكالوريوس والماجستير، ولكن الرفض أتى في كشف علقته وزارة الخارجية العتيدة بأنه غير لائق اجتماعيا.
ثغرة صغيرة في اللياقة الاجتماعية ومفهومها مكّنت جيلا من المصريين من الالتحاق بالكلية العسكرية والحصول على مواقع الضباط في مرحلة تاريخية كانت تستلزم توسعة الجيش المصري
فشلت مصر في تجاوز اللياقة الاجتماعية، وخرج وزير العدل بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 ليؤكد أنه «ابن الزبال» لا يمكن أن يلتحق بسلك القضاء، وأنها يجب أن تنحصر في أبناء أوساط اجتماعية معينة، ولأن الوزير كان صريحا في إعلانه، فذلك لا يعني أن الأمر نفسه لا يعبر عن آراء الكثيرين في مواقع المسؤولية الذين يرون اللياقة الاجتماعية مؤشرا أساسيا يمكن من خلاله قبول فلان أو علان في وظيفة أو أخرى تؤهله ليكون في النخبة، وأن يبقى وفيا للياقته الاجتماعية التي يورثها لأبنائه، وبالتالي يضمن أن يحتكر المنصب لأبنائه، ولم تعد هذه الظاهرة مقتصرة على السياسيين وأصحاب رؤوس الأموال، لتتمدد في كليات الطب والهندسة، ومؤخرا في الأوساط الفنية والرياضية.
المسألة بتمددها في مصر التي مهدت لصعود صاروخي لغادة والي، تضرب في الجانبين، الدولة بمعناها الذي يتجاوز النظام، والمجتمع بأكمله الذي يتحول إلى كتلة من الهائمين على وجوههم غير القادرين على الإيمان بالتغيير، وبينما تفقد الدولة حيويتها بالمناصب المحجوزة لفئات معينة تتواصل رغبتها في الاستحواذ والتوسع، فتنضاف قرية سياحية بعد الأخرى على سواحل البحرين الأحمر والمتوسط، لتستوعب الأنجال والأحفاد، يبقى الشعب متزاحما في مواقعه الشعبية التي أصبحت هي الأخرى هدفا من أجل الاستيلاء عليها في مشروعات مولدة للنقد الريعي في الإسكندرية متنفس الفقراء، ولا يتواجد حافز التنافس. ولذلك لم تكلف والي نفسها بمحاولة أن تقدم شيئا، فهي حصلت على الاعتراف قبل أن تعمل أصلا، ولذلك تتضاءل قيمة العمل، وتصبح السرقة والسطو على أعمال الآخرين أثرا جانبيا، فالأساس هو عمليات سرقة متواصلة لجهود الآخرين من غير اللائقين اجتماعيا بالدرجة الكافية ممن استغلتهم والي في مسيرتها.
أما في المجتمع، فالسلبية تصبح هي الواقع السائد، لا شيء سيتغير والجميع في مكانه، وابن الباشا باشا، وابن الخفير خفير، وحدود الإفلات ضيقة للغاية، محمد صلاح ومحمد رمضان يمكن أن يفلتا، ولكن لنفترض أن واحدا منهما لم يكن موهوبا في كرة القدم أو التمثيل، ما هي حدود قدرته على احتلال مكانة ما في المجتمع المصري، وانتزاع بعض الاعتراف حتى في أوساطه الاجتماعية، وليس من رئيس الجمهورية نفسه وتحت أضواء الإعلام المتهافتة والمتواطئة.
ثغرة صغيرة في اللياقة الاجتماعية ومفهومها، مكّنت جيلا من المصريين من الالتحاق بالكلية العسكرية والحصول على مواقع الضباط في مرحلة تاريخية كانت تستلزم توسعة الجيش المصري، وكان بينهم جمال عبد الناصر وأنور السادات، ولكن النفس المملوكي سيطر على الأجواء، وأغلق تلك الثغرة وراءه، وهذه كانت المشكلة، فالرجال الذين صعدوا وأسسوا لمجتمع جديد بعد يوليو/تموز 1952 فعلوا كما كثيرين في الدول ركلوا السلّم الذي صعدوا عليه بعيدا، على حد وصف المفكر الكوري الجنوبي ها-جوون تشانج.
الوسية، أي الأرض التي يحكمها المالك بقانون الخاص ويهيمن على حياة الفلاحين، تخلصت من سيدها القديم، ولكن وفي تعبير بليغ للشاعر سيد حجاب: ورجعنا تاني نعاني نفس القسية… هياها ما فرقتش في أي حاجة… وكأني بهرب من وسية لوسية… بس الخواجة هنا ما هواش خواجة…
والمفارقة أن الخواجة الروسي الذي قامت والي بالسطو المنهجي على أعماله وجهوده هو الآخر ضحية في وسط إعلامي لم يعد يرى سوى نفسه، ولا ينظر في غير مرآته، ولا يقبل إلا بشروطه، وكأن هتاف الثورة في كانون الثاني/يناير: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، يتضاءل ليصبح لا شيء سوى بقايا حفيف نبتة صحراوية في يوم قائظ.
كاتب أردني