سعيد الشهابي يكتب: صراع المصالح والمبادئ يهدد الأمن والسلم الدوليين

profile
  • clock 24 يوليو 2023, 2:32:56 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

في ظل هيمنة مقولة «المصالح» بكافة مجالاتها السياسية والاقتصادية على مقولة «المبادئ» تتلاشى فضاءات العمل الهادف لإقامة منظومات مؤسسة على الحرية الحقيقية والعدالة وحق تقرير المصير.
فليس هناك قوى تمتلك آليات عملية تستطيع ضبط مسار العلاقات بين الدول وضمان انسجامها مع المبادئ والقيم. ولذلك كثيرا ما قيل إن السياسة «قذرة» وكثيرا ما اكتشف البشر عمق الفساد المستشري في أوساط السياسيين، حتى في بلدان «العالم الحر». والحديث عن هذا العالم يتضمن اعتبار «الديمقراطية» أساس الحكم فيه. وهنا يطرح التساؤل عما إذا كانت الديمقراطية مهيّأة لتحدي الفساد بأشكاله، أو إقامة حكم القانون، أو الانتصار للمظلوم، أو حتى توزيع الثروة بشكل عادل. هذه هموم البشر ماضيا وحاضرا، ولن يمكن تجاوز ذلك بسهولة. فما أوسع دوائر الفساد ومستوياته وأشكاله في البلدان «الديمقراطية» وهو فساد يتصل بالنخب الحاكمة والمؤسسات الرسمية على نطاق واسع.
جوهر المشكلة أن ما يطرح من قيم نبيلة ليس مطلقا، وأنه كثيرا ما يكون للاستهلاك والدعاية والمغالبة الأيديولوجية أو السياسية. وفي ظل تغوّل المال ودوره في صناعة السياسيين حتى في دول «العالم الحر» يصعب إصلاح النظام السياسي في بلدان العالم خصوصا في ظل غياب قيم أخلاقية تتسم بالإلزام والثبات. ومع تقدم العمر وتراكم الخبرة يزداد المؤمنون بشرع السماء بأنه الضمان الأقوى لاحتواء هذا الفساد، لأن رقابة الإله تفوق في قوتها وأثرها أية رقابة أخرى. وهذه الحقيقة لا تتناقض مع مقولة «إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن». فالقوة، ومن ضمنها قوة القانون، تردع الأفراد عن الفساد وتجاوز الحدود، بينما سلطة الله أخلاقية وضميرية لا تؤثر إلا في نفوس من تعمق الإيمان في قلبه وأصبح التقوى درعه الواقي من الانحراف. كما أن مبادئ دين الله ثابتة، وتطبيقها يحقق المصلحة، وليس العكس: حلال محمد حلال إلى يوم القيامة. ولكن في ظل تغييب الله والدين عن الحياة العامة يتلاشى الوازع الديني الذي يقلص مساحات الفساد ونوايا الشر. ولا شك أن للقانون سلطته وفاعليته، ولكنه لا يستطيع منع التلاعب والتحايل والتضليل، فما أكثر الثغرات القانونية التي تمنع اجتثاث الفساد بشكل كامل.
في ظل تغوّل البعد المصلحي خصوصا في عالم السياسة والعلاقات بين الدول كثيرا ما تم تجاوز الأخلاق والقيم والمبادئ، بشكل خفي أحيانا وعلني في أكثر الأحيان. ولكي تتضح الصورة يمكن إيراد عدد من الأمثلة التي حدثت مؤخرا.
المثال التالي يخص العلاقات بين الجزائر والمغرب حول قضية الصحراء الغربية. فالقضية ليست جديدة، بل قائمة منذ عقود، حيث يطالب الصحراويون باستقلال منطقتهم عن المملكة المغربية، ويحظون بدعم الجزائر. هذه المرة كانت هناك ثلاثة أطراف توافقت على موقف إزاء الأزمة. فقد طلبت الولايات المتحدة الأمريكية من المغرب التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي في مقابل اعتراف واشنطن وتل أبيب بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. وهذا ما حدث الأسبوع الماضي. فقد أعلن الديوان الملكي المغربي أن الملك محمد السادس تلقى رسالة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تتضمن قرار كيان الاحتلال الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية. ولم يكن ذلك مفاجئا.

في ظل هيمنة مقولة «المصالح» بكافة مجالاتها السياسية والاقتصادية على مقولة «المبادئ» تتلاشى فضاءات العمل الهادف لإقامة منظومات مؤسسة على الحرية الحقيقية والعدالة وحق تقرير المصير

ففي 2020 اعترفت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية في إطار اتفاق لتطبيع العلاقات بين المغرب و«إسرائيل». بينما انتقدت الجزائر بشدة لاحقا اعتراف إسرائيل بسيادة المغرب على الصحراء الغربية واعتبرت القرار «خرقا» للقانون الدولي و«صفقة مفضوحة لا يمكنها بأي حال من الأحوال إضفاء الشرعية على احتلال الأراضي الصحراوية». وقطعت الجزائر العلاقات الدبلوماسية مع المغرب عام 2021، متهمة الرباط بـ«أعمال عدائية» بحقها. هنا تبدو المساومات السياسية أساسا للعلاقات وليس المبادئ. فلكي تحصل المغرب اعترافا من كل من امريكا و«إسرائيل» بالسيادة على الصحراء، كان عليها الإقدام على «التطبيع» مع الاحتلال الإسرائيلي. وثمة فرق كبير بين الوضعين المغربي والإسرائيلي. فالمغرب يطالب بالسيادة على الصحراء الغربية التي تعتبر امتدادا له، والسيادة هنا ليست الاحتلال الذي يؤدي لإخراج سكان الأرض منها. وسواء كان المطلب المغربي مشروعا أم توسعيا، فإنه لن يؤدي لطرد السكان الأصليين من أرضهم. بينما التطبيع مع «إسرائيل» يتضمن الاعتراف بسيادة الاحتلال على أرض فلسطين. هذه السيادة لم تكن سياسية فحسب، بل شملت طرد السكان الأصليين من أرضهم وتحويلهم إلى لاجئين في الأصقاع. وهي جريمة ضد الإنسانية برغم الصمت الدولي عليها.
وما أكثر الأمثلة التي تؤكد ضعف التمسك بالمبادئ ومقايضتها بالمصالح. فهناك الآن قضية تكرار جريمة حرق المصحف الشريف في السويد التي لا يمكن اعتبارها إلا اعتداء لا يقل عن إعلان الحرب على القرآن الكريم وأتباعه الذين يمثلون أكثر من ربع سكان الأرض.
هذه القضية تكشف أمورا عديدة في مقدمتها صراع المبادئ والمصالح في العالمين العربي والإسلامي. فالمبدأ يفترض أن يكون هناك رد رادع للسويد خصوصا أنها المرة الثانية هذا العام التي يحرق القرآن الكريم علنا في شوارعها، فهو اعتداء على أعظم مقدسات المسلمين عموما واستضعاف لهم من قبل السويديين. وحتى الآن لم تحدث ردة فعل من قبل دول المسلمين على هذه الجريمة الشنيعة. بينما تحرك الاتحاد الأوروبي فورا عندما استهدف المتظاهرون سفارة السويد في العاصمة العراقية، واعتبر ذلك عملا مرفوضا جملة وتفصيلا. وهنا لا بد من التأكيد على ضرورة احترام التشريعات الدولية التي تنظم العلاقات بين الدول وتمنح حصانة للمباني الدبلوماسية. ولكن المشهد يتشوش حين يُستهدف ربع سكان العالم بما يمكن اعتباره إعلان حرب عليهم. الأمر المؤكد أن حكومة السويد لم تلتزم بالتزاماتها الدولية التي من أهمها الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، وذلك يقتضي عدم الاعتداء على أي طرف أو استفزازه أو استهداف مقدساته. ولن يكون العالم مكانا آمنا ما دام هناك تردد في استهداف أسباب التوتر والاستفزاز.
ومن الخطأ الكبير اعتبار ما جرى في السويد من حرق نسخ من المصحف الشريف أو في الدنمارك من نشر رسومات كارتونية تمس قداسة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام ضمن مقولة «حرية التعبير». فليس هناك اختلاف بين البشر على تحديد تلك الحرية بحماية حقوق الآخرين. وقد تم تأطير حرية التعبير بشكل بليغ في التراث الإسلامي.
وتنقل كتب السيرة أن علي بن أبي طالب كان يخطب في مسجد الكوفة، فوقف شخص من الخوارج وقال: «يا علي إني لا أثق بك ولا بعدالتك، ولا أصلي خلفك، وليس لك بيعة في عنقي». فما كان من علي إلا أن قال: لك كل ذلك، إلا أن تعتدي على أحد. فهل هناك حرية تعبير أوسع من هذه؟ وهل هناك حرص على حماية الآخرين وحقوقهم أبلغ مما قيل؟
إنه لأمر واضح أن الاتحاد الأوروبي بمواقفه يقدّم المصالح على المبادئ، فيدافع عن السويد من أجل الحفاظ على وحدة الاتحاد، ولا يتصدى لسياسات الاستفزاز والعداء، وكان بإمكانه القياد بدور مزدوج يمازج بين الموقفين، فينتقد استهداف سفارة السويد وينتقد سياسة حرق القرآن والاعتداء على مقدسات المسلمين. إن أمن العالم واستقراره وعلاقات دوله من أهم ضحايا هذا التناقض بين المبادئ والمصالح الذي طغى على علاقات الدول ومواقفها وسياساتها. ولا شك أن غياب مرجعية روحية فاعلة توجّه ضمائر الساسة وتغرس خوف الله لديهم، من أهم عناصر ازدواجية السياسة الدولية وفسادها، بالإضافة لغياب الشعور بالأمن والسلم الدوليين.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)