- ℃ 11 تركيا
- 18 نوفمبر 2024
صباح الخير
كل شعوب الأرض العريقة، صاحبة الميراث الحضاري الكبير، يكون لديها خصوصية متميزة في التعبير عن نفسها وأفكارها وتقاليدها بألفاظ وعبارات خاصة، تنفرد بها دون غيرها من الشعوب التي تتحدث اللغة نفسها، ولا شك أن الشعب المصري من أوائل هذه الشعوب في امتلاك قدرات خاصة في التعبير عن إرثه الحضاري، من خلال بعض المسكوكات اللغوية التي ينفرد بها، خذ عندك مثلا لفظة الجدعنة، فهي لفظة مصرية خالصة معناها الشهامة والرجولة والمروءة ونصرة المظلوم ومساندة الضعيف، وعبارة أولاد البلد بكل ما تحمله من دلالة على الأصالة والاعتداد بالنفس والجذور والجدود، وكلمة " عيش" للدلالة على الخبز، وكأنه -أي الخبز - هو الحياة نفسها لذا أطلقوا عليه عيش، وكلمة نفسنة وهي موضوعنا الرئيس في هذه المقالة، فالنفسنة وفق تصور المصريين لها هي طاقة سلبية، يحملها شخص ما بداخله تجاه شخص آخر، وهي خليط أو مزيج من الحسد والغيرة والحقد، باختلاف النسب حسب طبيعة الشخص المنفسن وطبيعة شعوره تجاه الآخر، فالمنفسن ليس بالضرورة أن يكون كارها للمنفسن عليه، بل ربما يكون محبا له، لكن هذه المحبة لا تقف حائلا أو مانعا من النفسنة عليه أحيانا، لذا نرى حالات كثيرة من النفسنة بين الأصدقاء والإخوة رغم قوة هذه الروابط بينهم.
والنفسنة غالبا تصدر من الشخص الضعيف الذي لا يستطيع مواجهة نفسه بأوجه القصور في تركيبته النفسية، أو إدراك واقعه الاجتماعي، أو يعاني نقصا بينا في الموهبة أو الكفاءة في العمل، وفي الوقت نفسه يمنعه هذا الضعف من إظهار مشاعره الحقيقية تجاه الآخر، فيخفي حسده أو غيرته أو حتى حقده بكل ما يستطيع، لكن لأن هذه المشاعر طاقة سلبية قوية جدا وضاغطة على أعصابه بصورة لا تتحملها، تصدر عنه بعض السلوكيات غير المقبولة والتي غالبا تكون مسيئة وفيها تجريح متعمد للآخر، والذي في أغلب الأحيان يكون شخصا قريبا منه، صديق أو أخ أو جار أو زميل عمل، فالمنفسن لا يصدر هذه الطاقة السلبية لمن هم بعيدون عنه، أو بتعبير أدق النفسنة دوما تكون في الدوائر القريبة، ولا تحدث أبدا في الدوائر البعيدة.
في النهاية النفسنة تعبير مصري، خاص جدا ومعبر بصورة مذهلة على هذه الحالة، ووصف صاحبها بالمنفسن أفضل وأدق من وصفه بالحاسد أو الحاقد، لأنه في الحقيقة لم يصل بعد إلى هذه الدرجة، فالمنفسن لا يكره كما ذكرنا آنفا من ينفسن عليه، إلا إذا تطور الأمر لديه وصارت النفسنة حقدا وحسدا آنذاك يتحول المنفسن إلى حاقد يكره نفسه قبل أن يكره الآخر.
لاحظ العقل الجمعي للمصريين هذه الظاهرة من السلوك المعيب لدى البعض وأطلقوا عليها ببراعة كلمة النفسنة وعلى صاحبها وصف المنفسن.
و للأسف كل يوم نتقابل مع منفسنيين كثر، في العمل وفي الجامعة والمدرسة والنادي والشارع، وأفضل علاج لذلك هو الاستعانة بالله عليهم والاستعاذة منهم وتجاهل مشاعرهم السلبية هذه وكأنها غير موجودة، مع الوعي بها وعدم تأجيجها داخلهم، ومحاولة التلطف معهم.
اللهم إنا نعوذ بك من النفسنة، فلا تصبنا بها، واحفظنا من شرها وشر من أصابتهم، إنك على كل شي قدير.