- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
عادل بن عبد الله يكتب: ماذا بعد إقالة رئيسة الحكومة التونسية؟
عادل بن عبد الله يكتب: ماذا بعد إقالة رئيسة الحكومة التونسية؟
- 4 أغسطس 2023, 12:44:57 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
منذ أن فقد الحزب البرلماني الأغلبي (حركة النهضة) حقه في اختيار رئيس الوزراء، انتقل هذا الحق دستوريا إلى رئيس الجمهورية السيد قيس سعيد، وقد عمل حاكم قرطاج منذ تلك الفترة على تعميق الهوة بينه وبين حركة النهضة، وجميع الأحزاب التي لم تكن في حزامه البرلماني "غير الرسمي" (أي كل الأحزاب الرافضة للحكم الرئاسي بحكم الأمر الواقع لا بحكم الدستور). وانطلاقا من رغبته في تهميش البرلمان، اختار الرئيس السيد إلياس الفخفاخ من خارج ترشيحات الأغلبية البرلمانية، ثم عوّضه عند سقوط حكومته بالسيد هشام المشيشي، الذي لم يكن موجودا ضمن أي ترشيح برلماني.
كان من الواضح قبل 25 تموز/يوليو 2021 أن الرئيس يسعى إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي وتوجيهه نحو نظام رئاسي في ظل ديمقراطية قاعدية تنفي الحاجة إلى الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة. وهو ما حصل بعد 25 تموز/يوليو حيث جمّد الرئيس البرلمان تمهيدا لحلّه، ثم طرح خارطة طريق ثلاثية (استشارة إلكترونية، استفتاء شعبي عام على الدستور، انتخابات برلمانية بنظام الاقتراع على الأفراد).
بحكم ضعف المعارضة الراديكالية وانتهازية ما يسمى بـ"المولاة النقدية"، وبحكم مساندة النواة الصلبة للحكم (الجيش، الأمن، كبار رجال الأعمال) وعدم جدّية "المخاوف" و"الاحترازات" الدولية من الانحراف عن الديمقراطية ومن تهديد الحريات الفردية والجماعية، نجح الرئيس التونسي في تمرير خارطة طريقه، رغم نسب المشاركة الشعبية الضعيفة باعتراف الجهات الرسمية ذاتها.
وفي ظل استمرار العمل بالمراسيم وبمرجعية دستور جديد ينص في الفصل 100 على أن رئيس الجمهورية، هو من يضبط السياسة العامة للدولة ويحدد اختياراتها الأساسية، وبحكم الفصل 87 الذي ينص هو الآخر على أن الرئيس هو المسؤول عن السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس الحكومة، لم يكن تعيين السيدة نجلاء بودن يتجاوز المسألة الرمزية (هي أول رئيسة حكومة في تونس والوطن العربي). أما من جهة الصلاحيات، فيكفي أن نتذكر تصريحات بعض قيادات اتحاد الشغل ـ وهم من أنصار الرئيس و"تصحيح المسار" ـ عن انعدام أي سلطة تقريرية لرئيسة الوزراء، وعجزها عن اتخاذ أي قرار قبل الرجوع إلى قصر قرطاج.
يعلم كل التونسيين أن السلطة الحقيقية قد عادت منذ "تصحيح المسار" إلى قصر قرطاج، ولكن القليل منهم فقط يعلمون أن الرئيس ليس إلا واجهة ـ وفي أحسن الأحوال "شريك أقلى" ـ في صناعة القرار الذي تتحكم فيه النواة الصلبة للمنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين والدوليين. فرئيس الدولة لا يتمتع بقوة حزبية أو بلوبي جهوي أو بشرعية نضالية أو بغير ذلك من عوامل القوة. إن قوته قابلة للاختزال في الالتقاء الموضوعي بين مشروعه السياسي (القائم على معاداة الديمقراطية التمثيلية وأجسامها الوسيطة، معاداة الإسلام السياسي والسعي إلى مركزة القرار كما كان الشأن زمن المخلوع)، وبين حاجة المنظومة القديمة وحلفائها في الخارج إلى واجهة سياسية جديدة، تستطيع عبرها إنهاء "الربيع العربي ١" في مهده.
يعلم كل التونسيين أن السلطة الحقيقية قد عادت منذ "تصحيح المسار" إلى قصر قرطاج، ولكن القليل منهم فقط يعلمون أن الرئيس ليس إلا واجهة ـ وفي أحسن الأحوال "شريك أقلى" ـ في صناعة القرار الذي تتحكم فيه النواة الصلبة للمنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين والدوليين.
وقد يبدو القول بتحالف الرئيس مع المنظومة القديمة (أو توظيف تلك المنظومة للرئيس ومشروعه) ضربا من التجني عندما نستحضر خطاب الرئيس عن محاربة الفساد وعن "اللاعودة إلى الوراء" و"مشروع التحرر الوطني". ولكن تكفي نظرة واحدة لمكوّنات منظومة الحكم بمختلف وظائفها ـ ونظرة ثانية في تاريخ المدافعين عن "تصحيح المسار" ـ لنقف على سيطرة المنظومة القديمة، وورثة التجمع واليسار الثقافي على مفاصل الدولة وأجهزتها الإيديولوجية، وغياب شبه تام لأي شخصية محسوبة على النضال ضد المخلوع أو ذات دور مذكور في ثورة 17/14. وهي ملاحظة وصفية تنطبق على الرئيس ذاته بحكم تطبيعه المعروف مع نظام المخلوع، وعدم مشاركته في أحداث الثورة ولو بنص يتيم يعبر عن مساندته لمطالبها.
ظاهريا، لا يملك الرئيس حزبا ويرفض تكوين أي حزب حتى بعد إجراءات 25 تموز/يوليو. ولكنّ الواقع يقول إن الرئيس لا يحتاج إلى أي حزب سياسي بحكم تمتعه بدعم الحزب الأقوى في تونس، ألا وهو "حزب النواة الصلبة لمنظومة الحكم" بمختلف مكوناته وأذرعه السياسية والمدنية والنقابية وغيرها. وهو "الحزب" الذي يختار منه مختلف المسؤولين بعد تراجعه عن مفهومي "النخب البديلة" و"الكتلة التاريخية". فهذا التراجع كان يعني واقعيا التماهي مع النواة الصلبة للمنظومة القديمة، وتصعيد "كفاءاتها" التي لا علاقة لها بالثورة ولا بـ"القضايا الكبرى"، ولا يمكن أن تمثل أي تهديد للرئيس ولمن يقف خلفه.
ولم تكن السيدة بودن إلا تجسيدا لهذا المبدأ، فهي مجرد جامعية دفعت بها الصدفة إلى منصب رئيسة الوزراء، وكانت تعلم جيدا محدودية صلاحياتها، بل كانت تعلم أن المنظومة "الحداثية" التي أوصلتها إلى قصر قرطاج للتباهي بمكاسب المرأة التونسية ستفرض عليها وضعية التبعية للذكر "المهيمن"، بل ستفرض عليها "الصمت" حتى كاد صوتها يتحول إلى "عورة"، بحكم ندرة كلامها أو انعدامه في لقاءاتها العديدة مع الرئيس.
بعد "التضحية" بالسيدة بودن دون باقي أعضاء حكومتها (وهو أمر متوقع لم تستبقه رئيسة الحكومة بتقديم "الاستقالة")، عيّن الرئيس قيس سعيد السيد أحمد الحشاني خلفا لها. وليس يعنينا في هذا الموضع الحديث عن "صلاحيات" مجلس نواب الشعب، الذي سمع أعضاؤه بالخبر مثل سائر المواطنين بعد أن كان النواب في "العشرية السوداء" هم من يتحكمون ولو جزئيا في التعيين والعزل ـ من باب توازي الإجراءات ـ.، فكل ما يعنينا هو أن عزل السيدة بودن قد أكد للمرة الثالثة سوء اختيار الرئيس، وأكد أيضا عدم اعترافه بأي مسؤولية سياسية. فالرئيس فوق المساءلة والمحاسبة، ولا يمكن أن يكون هو المسؤول عن الخطأ أو التقصير وغياب الإنجازات، رغم احتكاره لكل الصلاحيات ورغم تحول رئيس الوزراء إلى وزير أول، كما كان الأمر زمن المخلوع ومن قبله المرحوم بورقيبة. وقد حرص الرئيس على أن يكون "الوزير الأول" الجديد "تكنوقراطا" من خارج عالم السياسة، ولكنّ عدم التحزب لا يعني عدم التأدلج (فهناك أخبار تؤكد عداء السيد الحشاني للإسلام السياسي ومناصرته لمشروع الرئيس)، ولا يعني عدم التحزب أيضا وجود مسافة نقدية بين السيد الحشاني ومكونات المنظومة القديمة وحلفائها الإقليميين والدوليين.
لا يخرج اختيار السيد أحمد الحشاني عن هذا الحكم، فهو "تقني معرفي" مطبّع مع المنظومة القديمة ومع خياراتها الكبرى الاقتصادية والثقافية، وهو نبت تلك المنظومة وآلياتها في الترقية المهنية والتدرج الاجتماعي.
رغم تأكيد الرئيس خلال كلمة تنصيب رئيس الحكومة الجديد على رفض إملاءات صندوق النقد لتهديدها للسلم الاجتماعية، فإن تعيين أحد رجالات البنك المركزي "المؤدلجين" هو رسالة مزدوجة للداخل والخارج. ففيما يخص الداخل، يبعث الرئيس برسالة لحلفائه في المركب المالي ـ الجهوي ـ الأمني بأنه سيواصل سياسة "التطهير" (التثبت من التعيينات القائمة على الولاءات، وتلك التي كانت بشهائد علمية مدلّسة خلال "العشرية السوداء" لا قبلها)، كما سيواصل محاربة "المحتكرين" والفاسدين، وهو خطاب شعبوي محصوله أن الرئيس لن يهدد مصالح الكارتيلات المالية والجهوية الحقيقية، ولن يمس بالنصوص المقننة للاحتكارات التي تجعل بعض العائلات تتحكم في مختلف القطاعات، وتمنع أي منافسة حقيقية داخلها.
ولو افترضنا أن الحكومة ستطبق "توجيهات الرئيس" بصورة جدية ودون تمييز، فإن المتضرر الحقيقي سيكون ـ على عكس ما تروج له وسائل الإعلام ـ هو اتحاد الشغل ومكونات المنظومة القديمة. أما الرسالة التي يبعث بها الرئيس إلى الخارج، فهي أن محاوِرَهم الأساسي سيكون رجل اقتصاد، ولكنه سيكون رجل اقتصاد مكلف بتنفيذ خيارات الرئيس السياسية في علاقتها بالمعارضة –خاصة حركة النهضة-، ولذلك فإن على صندوق النقد وغيره أن يفهم بأن تنفيذ الإملاءات الاقتصادية لن يعطيهم الحق في أي شروط سياسية؛ لأن النظام سيعتبرها تدخلا في الشأن الداخلي.
في ظل الدستور الجديد، قد يسارع المراقب للشأن التونسي بالقول بأن الحديث عن إيديولوجيا رئيس الحكومة هو ضرب من العبث. ولكنّ هذا الحكم يحتاج إلى تعديل، فرغم هيمنة الرئيس على القرار السيادي، فإن فلسفة اختيار الوزراء تدخل على التوجهات الكبرى للنظام. فأن يضع الرئيس شخصية يسارية على رأس وزارة الداخلية، أو يضع شخصيات محسوبة على النظام القديم-ومعروفة بعدائها للإسلام السياسي- على رأس أغلب الوزارات، هو أمر مقصود وليس عبثيا.
ولا يخرج اختيار السيد أحمد الحشاني عن هذا الحكم، فهو "تقني معرفي" مطبّع مع المنظومة القديمة ومع خياراتها الكبرى الاقتصادية والثقافية، وهو نبت تلك المنظومة وآلياتها في الترقية المهنية والتدرج الاجتماعي، وهو أيضا مناصر شرس لتصحيح المسار، أي للنظام الرئاسوي ولضرب الديمقراطية التمثيلية. ولذلك، قد لا يكون مناسبا فقط للملفات الاقتصادية، بل قد يكون هو الرجل المناسب للملفات السياسية أيضا (مثل حل حركة النهضة وتصنيفها تنظيما إرهابيا كما هو مطروح عند بعض النواب، وكذلك الإشراف على الانتخابات الرئاسية القادمة).
وبحكم خلفيته الإدارية القائمة على احترام التراتبية والهرمية، لا شك عندنا في أنّ السيد الحشاني سيكون منفذا أمينا لـ "توجيهات الرئيس"، سواء أكانت متعلقة بالملفات الداخلية أم الخارجية، كما لا شك عندنا في أن رئيس الحكومة الجديد سيحاول تأكيد جدارته بالمنصب، بطريقة قد تكسر أفق انتظار المستبشرين بتعيينه قبل غيرهم.