- ℃ 11 تركيا
- 15 نوفمبر 2024
عبدالرحمن كمال يكتب: جدري القرود.. عن الأمراض حيوانية المنشأ مرة أخرى
عبدالرحمن كمال يكتب: جدري القرود.. عن الأمراض حيوانية المنشأ مرة أخرى
- 16 أغسطس 2024, 11:36:23 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
مع تزايد الأخبار مؤخرا عن انتشار جدري القرود، والإعلان عن أول حالة خارج أفريقيا (في السويد)، يعود إلى الأذهان مرة أخرى الحديث عن الأمراض الحيوانية المشتركة (أو الأمراض حيوانية المنشأ) Zoonosis.
في كتابه «الفيض»، يتحدث الكاتب العلمي الشهير ديفيد كوامن، على مدار فصول الكتاب بجزأيه، عن المرض الحيواني المنشأ مبينا أنه عدوى عند الحيوان قابلة للانتقال إلى البشر. ويشير كوامن إلى أن عدد هذه الأمراض قد يفوق ما تتوقعه. الإيدز أحد هذه الأمراض، الإنفلونزا فئة كاملة أخرى من هذه الأمراض. التفكير في هذه الأمراض كمجموعة ينحو إلى تأكيد الحقيقة الداروينية القديمة (أشد حقائقها قتامة، حقيقة معروفة جيدا، وإن كانت تنسى دائما) وهي أن الإنسان هو بالفعل نوع من الحيوان، مرتبط على نحو لا ينفصم بالحيوانات الأخرى في الأصل، وفي نسل الذرية، وفي المرض والصحة. والنظر في الأمراض الحيوانية المشتركة على نحو فردي سيذكرنا بأن كل شيء، بما في ذلك الوباء يأتي ولا بد من مكان ما.
الأمراض المعدية تحيط بنا في كل مكان، ويصف كوامن المرض المعدي بأنه «نوع من ملاط تثبيت طبيعي يربط أحد الكائنات الحية بالآخر، داخل الصروح البيوفيزيائية الرائعة التي نسميها النظم الإيكولوجية».
إنها إحدى العمليات الأساسية التي يدرسها إخصائيو الإيكولوجيا (فرع من البيولوجيا يدرس العلاقة بين الكائنات الحية وبيئتها)، بما في ذلك أيضا الافتراس، والمنافسة، والتحلل، والتمثيل الضوئي. المفترسون وحوش كبيرة نسبيا تأكل فرائسها من الخارج. المُمرضات (عوامل تسبب المرض، مثل الفيروسات) وحوش صغيرة نسبيا تأكل فريستها من الداخل. على الرغم من أن الأمراض المعدية قد تبدو رهيبة مروعة، فإن أفعالها (Pathogens) في الظروف العادية تكون طبيعية، مثلما تفعل الأسود بالنو الأفريقي والحمير الوحشية، أو ما يفعله البوم بالفئران.
لكن الظروف لا تكون دائما طبيعية. كما أن للمفترسين فرائسهم المعتادة، وأهدافهم المفضلة، فإن الممرضات تستطيع أن تفعل هذا أيضا. وكما أن الأسد ربما يحدث أحيانا أن يخرج عن سلوكه الطبيعي - ليقتل بقرة بدلا من النو، أو إنسانا بدلا من الحمار الوحشي - فإن الممرضات تستطيع أن تتحول إلى هدف جديد. هناك حوادث تقع، وانحرافات تحدث الظروف تتغير، ومعها تتغير أيضا المطالب والفرص. عندما تثب جرثومة مرضية من حيوان غير بشري إلى أحد الأشخاص، وتنجح في إرساء نفسها فيه كوجود لكيان معد، وتسبب أحيانا المرض أو الموت، فإن نتيجة ذلك هي مرض حيواني مشترك.
إن مصطلح «المرض الحيواني المشترك» أو (المرض حيواني المنشأ) (Zoonosis) فني إلى حد ما، وغير مألوف لمعظم الناس، لكنه يساعد على توضيح التعقيدات البيولوجية وراء العناوين الشاملة حول إنفلونزا الخنازير، وإنفلونزا الطيور، والسارس، والأمراض المنبثقة عموما، والتهديد بجائحة وباء عالمي.
يساعدنا هذا المصطلح أيضا على أن نفهم السبب في أن علم الطب وحملات الصحة العامة قد تمكنت من فهم بعض الأمراض الرهيبة مثل الجدري وشلل الأطفال، لكنها لم تتمكن من قهر أمراض رهيبة أخرى مثل حمى الدنج والحمى الصفراء. ويخبرنا هذا المصطلح بشيء جوهري عن أصول الإيدز. إنه كلمة من المستقبل، مصيرها الاستعمال بكثافة في القرن الحادي والعشرين.
الإيبولا مرض حيواني مشترك، الطاعون الدبلي أيضا مرض حيواني مشترك. وهكذا كانت الإنفلونزا التي سميت بالإسبانية في العامين 1918 - 1919، التي تبين أن مصدرها الأصلي طير مائي بري، وبعد أن مرت الجرثومة خلال توليفة من الحيوانات الداجنة (بطة في جنوب الصين، خنزيرة في أيوا) ما لبثت أن انبثقت لتقتل ما يصل إلى 5 ملايين فرد قبل أن تتراجع إلى الخفاء. كل أنواع الإنفلونزا البشرية أمراض حيوانية مشتركة. وكذلك أيضا جدري القردة، والسل البقري، ومرض لايم، وحمى غرب النيل، ومرض فيروس ماربورغ، وداء الكلب، والمتلازمة الرئوية لفيروس هانتا، والأنثراكس، وحمى لاسا، وحمى الوادي المتصدع، وداء هجرة اليرقات العيني، وتيفوئيد الحكة، وحمى النزف البوليفية، ومرض غابة كيازانور، ومرض جديد غريب يسمى التهاب نيباه الدماغي، الذي أدى إلى قتل الخنازير ومربيها في ماليزيا. كل مرض من هذه الأمراض يعكس مفعول جرثومة مرضية تستطيع أن تمر إلى الإنسان من حيوانات أخرى. الإيدز مرض من أصل مشترك يسببه فيروس وصل إلى البشر عن طريق أحداث قليلة عارضة في غرب ووسط أفريقيا، وهو الآن يمر من إنسان إلى آخر بالملايين.
هذا الشكل من التواثب بين الأنواع شائع وليس نادرا. نحو 60 في المائة من كل الأمراض البشرية المعدية المعروفة حاليا إما أنها تمرر روتينيا، وإما أنها قد مرت حديثا بين حيوانات أخرى وبيننا. بعض هذه الأمراض مألوفة ومنتشرة - مثل داء الكلب - وهي لاتزال مميتة على نحو رهيب، وتقتل البشر بالآلاف، على الرغم من الجهود التي بذلت طوال قرون للتغلب على تأثيراتها، والمحاولات الدولية المنسقة لاستئصالها أو التحكم فيها، وعلى الرغم من وجود فهم علمي بدرجة واضحة نوعا لطريقة عملها.
بعض الأمراض الأخرى من هذا النوع جديدة، ومتناثرة على نحو لم يفسر، وتصيب عددا قليلا من الضحايا (كما يفعل فيروس هندرا «ظهر في أستراليا») أو مئات قليلة منهم (مثل إيبولا) في هذا المكان أو ذاك، ثم تختفي لسنوات.
دعنا نأخذ الجدري كمثل يضاد ذلك، فهو ليس مرضا حيوانيا مشتركا. الجدري يسببه فيروس فاريولا، وهو في الظروف الطبيعية يعدي البشر فقط (ظروف المعمل لها شأن آخر؛ جرى في بعض الأحيان نقل عدوى الفيروس تجريبيا إلى الرئيسيات غير البشرية أو حيوانات أخرى، وذلك عادة بغرض أبحاث لصنع لقاح ضد المرض).
يساعدنا هذا على فهم السبب في نجاح حملة عالمية قادتها منظمة الصحة العالمية لاستئصال الجدري في العام 1980. أمكن استئصال الجدري لأن فيروسه تنقصه القدرة على أن يقيم ويتكاثر في أي مكان غير الجسد البشري (أو في حيوان تجارب في المعمل تجري مراقبته بحرص)، فلا يستطيع أن يختبئ.
شلل الأطفال هو بالمثل مرض فيروسي أصاب البشر لآلاف السنين لكنه (لأسباب تتضمن تحسن الظروف الصحية وتأخر تعرض الأطفال للفيروس)، أصبح مصدر تهديد مخيف للوباء في أثناء النصف الأول من القرن العشرين خاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية. وصلت مشكلة شلل الأطفال إلى ذروتها في الولايات المتحدة في العام 1952 مع تفشي الوباء ليقتل أكثر من ثلاثة آلاف من الضحايا، الكثير منهم من الأطفال، وخلف الوباء واحدا وعشرين ألفا على الأقل في حالة شلل جزئي. سرعان ما حدث بعدها أن انتشر استخدام لقاحات اكتشفها جوناس سولك وألبرت سابين، وأخصائية فيروسات اسمها هيلاري كوبروسكي (تحدث الكاتب لاحقا عن مسارها المهني المثير للجدل) وأدى ذلك في النهاية إلى استئصال شلل الأطفال في معظم أنحاء العالم.
في العام 1988 انطلقت منظمة الصحة العالمية والعديد من المؤسسات المشاركة لها بمجهود دولي نحو استئصال المرض، وقد نجحت حتى الآن في تخفيض عدد حالات شلل الأطفال بنسبة 99 في المائة. أعلن أن الأمريكتين خاليتان من شلل الأطفال، وكذلك أوروبا وأستراليا.
ووفق آخر التقارير في 2011، لم يبق سوى وجود قليل مبعثر لشلل الأطفال في خمسة بلدان هي: نيجيريا والهند وباكستان وأفغانستان والصين. (بالأمس، أعلن عن ظهور أول حالة لفيروس شلل الأطفال في غزة، وهو ما يبيح حجم الجريمة التي يتركبها العدو الصهيوني وداعميه في سكان القطاع)
حملة استئصال شلل الأطفال، بخلاف مبادرات صحية أخرى عالمية بنوايا حسنة وباهظة التكلفة، هي حملة قد تنجح. لماذا؟
لأن تطعيم البشر بالملايين ليس غالي الثمن، وسهلا وفعالا بصفة دائمة، ولأن شلل الأطفال فيما عدا إصابة البشر بالعدوى، ليس لديه مكان يختبئ فيه إنه ليس مرضا حيوانيا مشتركا.
ممرضات الأمراض الحيوانية المشتركة بإمكانها الاختباء. هذا ما يجعلها مثيرة للاهتمام، ومعقدة، وملغزة.
جدري القرود مرض مماثل للجدري العادي يسببه فيروس وثيق القرابة بالفاريولا. وهو تهديد مستمر للناس في أفريقيا الوسطى والغربية.
يختلف جدري القرود عن الجدري العادي بطريقة واحدة حاسمة: قدرة فيروس المرض على أن يعدي الرئيسيات غير البشرية (ومن هنا جاء اسم المرض) وبعض الثدييات من صنوف أخرى، بما في ذلك الجرذان، والفئران والسناجب، والأرانب، وكلاب البراري الأمريكية.
الحمى الصفراء مرض يعدي أيضا القرود والبشر معا، وينتج عن فيروس يمر من ضحية إلى الأخرى، وأحيانا يمر من القرد للإنسان عن طريق لدغة بعوض معين. هذا موقف أكثر تعقيدا. إحدى نتائج هذا التعقيد هي أن الحمى الصفراء ربما ستستمر في الإصابة، إلا إذا قامت منظمة الصحة العالمية بقتل كل البعوض الناقل للمرض أو كل قرد معرض للمرض في أفريقيا الاستوائية وأمريكا الجنوبية.
العنصر الفعال في مرض لايم نوع من خلية بكتيرية تختبئ بفعالية في الفئران ذات الأقدام البيضاء وغيرها من الثدييات الصغيرة.
هذه الجراثيم المرضية هي بالطبع لا تختبئ عن وعي بذلك. إنها تقيم كامنة وتنقل المرض كما تفعل، لأن هذه الخيارات قد نجحت معها في الماضي، وأثمرت فرصا لبقائها موجودة ولتكاثرها. وفق المنطق الدارويني البارد للانتخاب الطبيعي، فإن التطور يقنن الصدفة في استراتيجية.
أقل الاستراتيجيات وضوحا هي الكمون داخل ما يسمى بالعائل الخازن. والعائل الخازن (ويفضل بعض العلماء تسميته بـ «العائل الطبيعي») كائن حي يحمل الجرثومة المرضية، ويؤويها على نحو مزمن، بينما لا يعاني هو أي مرض أو قليلا من المرض. عندما يبدو أن أحد الأمراض يختفي بين نوبات التفشي مرة أخرى (مثلما فعل فيروس هندرا في أستراليا عام 1994)، فإن العامل المسبب له لا بد أن يكون «في مكان ما»، أليس كذلك؟
حسنا، ربما يكون قد اختفى كليا من كوكب الأرض، لكن المرجح ألا يكون كذلك. ربما يكون قد هلك مختفيا من كل المنطقة وسيظهر فقط عندما تعود به الريح والمصائر من مكان آخر. أو ربما يكون لا يزال يتسكع عن قرب، هنا وهناك، داخل عائل خازن. أحد الجرذان؟ أحد الطيور ؟ إحدى الفراشات؟ أحد الخفافيش؟
الكمون من دون اكتشاف داخل عائل خازن هو الأسهل حيثما يكون التنوع البيولوجي مرتفعا والنظام الإيكولوجي غير مضطرب نسبيا. يصدق عكس ذلك أيضا الاضطراب الإيكولوجي يسبب انبثاق المرض. فعندما تهز الشجرة، تسقط أشياء.
كل الأمراض الحيوانية المشتركة تقريبا تنتج عن العدوى بواحد من ستة أنواع من الجراثيم المرضية الفيروسات، البكتيريا، الفطر، الفرطسيات (مجموعة من كائنات صغيرة معقدة مثل الأميبا، كانت تعرف فيما سبق على نحو فيه ما يضلل بأنها من البروتوزونات أو الأوالي)، والبريونات، والديدان.
الفيروسات هي الأكثر إشكالية. الفيروسات تتطور سريعا، ولا تتأثر بالمضادات الحيوية، وتستطيع أن تكون مراوغة متعددة الجوانب، وأن تحدث معدلات عالية من الوفيات، وهي بسيطة على نحو بغيض، على الأقل بالنسبة إلى الكائنات الأخرى الحية أو شبه الحية.
أمراض الإيبولا وغرب النيل، وماربورغ، وجرثومة سارس، وجدري القرود، وداء الكلب وماتشوبو، والدنج، والعامل الفعال في الحمى الصفراء، والنيباه، والهندرا والهنتان (اسم فيروسات هانتا الذي عرف أولا في كوريا)، والتشيكونغونيا والجونين، وبورنا، والإنفلونزات، وأنواع مرض نقص المناعة البشري 1و2 (1-HIV المسؤول الرئيسي عن جائحة وباء الإيدز، 2-HIV الأقل انتشارا) هذه كلها أمراض فيروسية. القائمة الكاملة أطول من ذلك كثيرا.
هناك شيء يُعرف باسم فيه حيوية، هو «الفيروس القردي الرغوي»، يعدي القرود والبشر في آسيا، ويمرر فيما بينها عن طريق التجمعات الكبيرة (كما في المعابد البوذية والهندوسية) حيث يكون أفراد البشر وقرود الماكاك نصف المروضة في تلامس وثيق. يُعرّض زوار هذه المعابد الذين يمدون أيديهم لتغذية هذه القرود أنفسهم لعدوى الفيروس القردي الرغوي، ويكون بين هؤلاء البشر سياح دوليون. بعض هؤلاء يحملون بعدها معهم ما هو أكثر من الصور الفوتوغرافية والذكريات.
وفق ما يقوله عالم الفيروسات البارز ستيفن أس. مورس: «الفيروسات ليست لديها أداة انتقال تخصها، بيد أن الكثير منها يسافر حول العالم». الفيروسات لا تستطيع أن تجري، ولا أن تمشي، ولا أن تسبح، ولا أن تزحف، لكنها تركب.
أخيرا، كتاب «الفيض.. أمراض الحيوانات المعدية وجائحة الوباء التالية بين البشر»، هو كتاب مهم وجدير بالقراءة والإطلاع، ولحسن الحظ، فقد نشرت سلسلة عالم المعرفة الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، هذا الكتائب على جزأين، وترجمه د.مصطفى إبراهيم فهمي، في عددي أغسطس وسبتمبر 2014، وكل مهتم بفهم أسباب الأوبئة والطريقة العلمية لتوقيها أو علاجها فرديا ومجتمعيا، فعليه قراءة الكتاب الذي يعطينا إنذارا بالخطر المحتمل ويطرح ما يمكن فعله لتجنب انبثاق جائحة وباء قادمة.