- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
عمرو حمزاوي يكتب: الحرب على غزة: ماذا عن اليوم التالي؟
عمرو حمزاوي يكتب: الحرب على غزة: ماذا عن اليوم التالي؟
- 10 أكتوبر 2023, 1:11:28 ص
- 482
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
ظنت إسرائيل طويلا أن حصار غزة وما يرتبه من معاناة معيشية رهيبة لسكان القطاع والضربات العسكرية المتكررة ضد حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى والعمليات الاستخباراتية المتتالية التي استهدفت تصفية العناصر المؤثرة في كتائب القسام وسرايا القدس وغيرها وإحاطة القطاع بأسوار وتحصينات أمنية متطورة، ظنت أن هذه السياسات ستضمن أمنها وتفرغ تدريجيا مخزون مقاومة الاحتلال لدى أهل غزة وتفرض عليهم عزلة كاملة في واقع مرير لا فكاك منه.
ظنت إسرائيل طويلا أن مواصلة تفتيت الضفة الغربية والقدس الشرقية من خلال التوسع في بناء المستوطنات وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم وبيوتهم وفرض المزيد من القيود على حرية الإقامة والحركة والعمل والدراسة تارة بقوانين عنصرية وأخرى ببناء الأسوار وترسيم مناطق عازلة والحماية السافرة للمستوطنين المتطرفين وتمكينهم من الاعتداء المتكرر على المدن والبلدات الفلسطينية، كما حدث في هوارة وغيرها، ظنت أن هذه الممارسات ستصرف أهل الضفة والقدس الشرقية عن مقاومة الاحتلال والاستيطان أو تختزل مقاومتهم إلى مناوشات متفرقة ومحدودة النطاق يستطيع المستوطنون المدججون بالسلاح أو تستطيع القوات الإسرائيلية الحاضرة دوما السيطرة عليها دون كلفة مرتفعة.
ظنت إسرائيل طويلا أن التهميش الممنهج للسلطة الفلسطينية إن بالتنصل من كافة التزامات وتعهدات عملية السلام التي بدأت قبل عقدين من الزمان باتفاقات أوسلو في 1993 وكان هدفها المعلن هو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وتعايشها السلمي مع دولة إسرائيل أو بالإمعان في الضغط السياسي والاقتصادي والمالي على رئيس السلطة محمود عباس (أبو مازن) وأعضاء حكومته والتعامل معهم ومع الأجهزة الأمنية والإدارية الفلسطينية كوكيل أمني يتعين عليه منع رد اعتداءات المستوطنين المتطرفين والحيلولة دون حدوث أعمال عنف في الداخل الإسرائيلي، ظنت أنها بذلك تقضي على الأمل في الدولة المستقلة وتنسف حل الدولتين الذي أسس لشرعية عملية السلام وتستبدله بوضعية احتلال دائم صار نظاما متكاملا للفصل العنصري في الضفة الغربية والقدس الشرقية وتقصي من دائرة الفعل السياسي السلطة الفلسطينية ومن خلفها منظمة التحرير ليصبح أهل الضفة والقدس دون قوة حقيقية تمثلهم، ومن ثم تضعف مقاومتهم للاحتلال والاستيطان ويتحولون تدريجيا إلى سكان ما يشبه «البانتوستنات» المعزولة عن بعضها البعض بخرائط المستوطنات المتسعة دوما والفاقدة للهوية الوطنية والسياسية بفعل تهميش السلطة والمنظمة.
ظنت إسرائيل طويلا أن إبعاد الفلسطينيين من سكان 1948 عن أهلهم في الضفة والقدس والقطاع وعن قضية التحرير وإقامة الدولة المستقلة وتسوية مسألة اللاجئين ممكن إن بخليط من سياسات وممارسات الدمج في سياق المواطنة الإسرائيلية، وكان ذلك هو التوجه التقليدي لحكومات اليسار، أو بسياسات وممارسات عكسية كرست لمواطنة الفلسطينيين كمواطنة درجة ثانية وكان ذلك هو التوجه المستقر لحكومات اليمين العلماني والديني.
السبيل الوحيد لأمن إسرائيل هو الدولة الفلسطينية المستقلة، وتظل الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية هي السبيل الفعال الوحيد لدمج إسرائيل الإقليمي ولتغليب السلام والتعاون والاستقرار على الحروب والدماء
ومع تصاعد هيمنة الأحزاب والحركات الدينية والسياسيين المتطرفين وممثلي المستوطنين على قوى اليمين في إسرائيل وصعود قوى اليمين هذه لتصبح المكون الأهم في الحياة السياسية التي تراجعت بها الأوزان النسبية لليسار ولسياساته، شرعت إسرائيل في تمرير قوانين وقرارات وإجراءات فرضت على فلسطينيي الداخل واقع التمييز العنصري والانتقاص من حقوقهم الأساسية وتفتيت تمثيلهم الحزبي والسياسي من خلال دعم قوى دينية لا تمانع حال نجاحها في الحصول على مقاعد برلمانية في التحالف مع اليمين المتطرف وتصمت عن سياساته وممارساته الكارثية في الداخل وتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة طالما أعطيت لتلك القوى مساحات لنشر فكرها ومحاربة الفكرة الوطنية الجامعة بين الفلسطينيين. ظنت إسرائيل أنها بذلك ستحول دون وحدة الهدف الوطني بين فلسطينيي 1948 وبين الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة وفي المنافي، وستمنع من ثم انتقال روح وأعمال المقاومة من غزة والقدس والضفة إلى الداخل وتمعن في إلهاء الفلسطينيين من مواطنيها عن دعم قضية التحرير والدولة المستقلة بالصراع اليومي من أجل المساواة وحكومات اليمين تفرض التمييز العنصري واقعا وبالصراعات السياسية الصغيرة.
ظنت إسرائيل طويلا أنها تستطيع أن تتنصل من التزامات عملية السلام مع الفلسطينيين وجوهرها قاعدة «الأرض مقابل السلام» بحصار غزة وتفتيت الضفة الغربية والقدس الشرقية وتهميش السلطة في رام الله ووضعها في خانات الصراع المستمر مع حماس وفصائل غزة والضغط على فلسطينيي الداخل بسياسات التمييز العنصري. وظنت أيضا أنها تستطيع أن تتجاوز قاعدة «إقامة الدولة الفلسطينية وإنهاء الاحتلال مقابل السلام والتطبيع» التي عبرت عنها مبادرة السلام العربية الصادرة في 2002 من خلال الانفتاح على اتفاقيات للتطبيع والصداقة مع دول عربية كالإمارات والبحرين والمغرب والاقتراب من اتفاقيات مشابهة مع دول أخرى كالسودان والتفاوض المكثف مع السعودية وبرعاية أمريكية لتوقيع معاهدة سلام وفتح الباب واسعا للعلاقات الاقتصادية والتجارية والسياسية والدبلوماسية. وكانت إسرائيل بذلك تفرغ مبادرة السلام العربية من كل مضمون، وتحقق حلم دمجها الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشراكات ثنائية مع دول عربية عديدة دون أن تضطر لإنهاء واقع الاحتلال أو قبول إقامة الدولة الفلسطينية. ظنت أنها بذلك تنهي وجود الحاضنة الإقليمية لفلسطين وتصنع، كما زعم بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أسابيع قليلة، شرق أوسط جديد تلغي به وجود القضية الفلسطينية كقضية تحرير ودولة وهوية وطنية وتختزلها إلى قضية سكان يتعين عليهم العيش مع الاحتلال والاستيطان والأبارتيد إلى ما لا نهاية والتفكير فقط في سبل تحسين أوضاعهم المعيشية.
ظنت إسرائيل طويلا أن عرب اليوم، بعيدا عن الخليج، بأزماتهم الكثيرة وحروبهم الأهلية وانهيارات بعض دولهم ومعاناتهم الاقتصادية والاجتماعية في دول أخرى ملوا من صراعات الفلسطينيين الداخلية ومن صواريخ حماس والجهاد غير المؤثرة على سلطات الاحتلال ولا يملكون سوى التعاطف اللفظي على شبكات التواصل الاجتماعي حين يشاهدون لقطات توثق لعنف المستوطنين والقوات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني واعتداءاتهم المتكررة على المسجد الأقصى وعلى المدن والبلدات الفلسطينية. ظنت إسرائيل أنها تستطيع أن تفرض واقع التطبيع على حكومات وشعوب العرب دون سلام ودون دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية ودون شراكة في السيادة على المقدسات لأتباع الديانات السماوية موظفة أزماتنا الكثيرة وانصرافنا إلى قضايانا الداخلية ونجاحاتها في إبرام اتفاقات تطبيع ثنائية برعاية دولية خلال السنوات الأخيرة.
ظنون إسرائيل هذه كلها أنهاها طوفان الأقصى الذي أسقط أيضا نظرية الأمن الإسرائيلي القائمة على حصار وتفتيت فلسطين وعزل أهلها عن بعضهم البعض وعزلهم عن المحيط العربي. وفي صدمتها الراهنة وردود أفعالها العسكرية على الطوفان وحشد آلتها الحربية للانتقام، لن تواجه نخب الحكم والسياسة في إسرائيل نفسها بالاستنتاج الجوهري لما يحدث اليوم، ألا وهو استحالة ضمان أمنها واستقرارها بإلغاء الشعب الفلسطيني والتنصل من السلام ومن حل الدولتين ومن إنهاء الاحتلال والاستيطان والحصار. لن تضمن سياسات الأبارتايد في الأراضي الفلسطينية المحتلة ولا داخل 1948 لإسرائيل أمنا، مثلما لن تضمن لها اتفاقات التطبيع ومعاهدات الصداقة مع دول عربية دمجا إقليميا في منطقة بها شعوب لا تباعد أزماتها الوجودية بينها وبين الالتفات إلى فلسطين وبها حكومات وقوى لا تريد سلاما ولا أمنا ولا استقرارا.
يظل السبيل الوحيد لأمن إسرائيل هو الدولة الفلسطينية المستقلة، وتظل الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية هي السبيل الفعال الوحيد لدمج إسرائيل الإقليمي ولتغليب السلام والتعاون والاستقرار على الحروب والدماء.
كاتب من مصر