- ℃ 11 تركيا
- 25 نوفمبر 2024
عمرو حمزاوي يكتب: زيارة زيلينسكي… عن تنكر الأوروبيين لقيمهم الحقيقية
عمرو حمزاوي يكتب: زيارة زيلينسكي… عن تنكر الأوروبيين لقيمهم الحقيقية
- 16 مايو 2023, 3:46:40 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تدلل الطريقة التي استقبل بها الرئيس الأوكراني زيلينسكي في روما وبرلين وباريس ولندن على أن أوروبا تواصل رهانها على إلحاق هزيمة عسكرية بالجيش الروسي في ساحات القتال في شرق وجنوب أوكرانيا، وإلحاق هزيمة سياسية بالرئيس الروسي بوتين تجبره على تغيير نهجه تجاه جواره المباشر على وجه خاص وعموم القارة على وجه عام.
باستثناء روما التي استقبله بها بابا الفاتيكان الداعي دوما للسلام ولإنهاء الحروب، حصل زيلينسكي من العواصم الأوروبية الكبيرة على تعهدات بالمزيد من الدعم العسكري (3 مليارات يورو من ألمانيا) والمزيد من الأسلحة (دبابات من فرنسا ونظم صواريخ من بريطانيا) والمزيد من الدعم السياسي لاستبعاد الحلول التفاوضية وعدم التعامل بجدية مع خطة السلام الصينية التي أعلنتها بكين في بدايات العام الجاري.
ايديولوجيا، أحاط الأوروبيون عسكرة توجهاتهم بشأن أوكرانيا وامتناعهم منذ بدأت الحرب الروسية – الأوكرانية وإلى اليوم عن القيام بجهود وساطة وسلام حقيقية، أحاطوها بسياج سميك من الإشادة بزيلينسكي والأوكرانيين لدفاعهم عن «القيم الأوروبية» وحمايتهم لشعوب القارة العجوز بوقوفهم في وجه العدوانية الروسية. ولإضفاء المزيد من الرمزية الايديولوجية، تم منح جائزة «شارلمان الدولية» للشعب الأوكراني ولرئيسه في احتفالية كبيرة بمدينة أخن الألمانية بحضور المستشار أولاف شولتس وحكومته.
على النقيض من الترويج لمقولات الدفاع عن القيم الأوروبية ومنح الجوائز الدولية، تتنكر أوروبا بتقديم المزيد من الدعم العسكري والسلاح لأوكرانيا لكل فرص السلام الممكنة وتدفع بدباباتها وصواريخها نحو إطالة أمد الحرب الروسية – الأوكرانية التي ستتجدد معاركها الدامية عما قريب. وفي الجوهر، يمثل ذلك التنكر الأوروبي مقلوب ما جرت عليه سياسات القوى المؤثرة في القارة العجوز منذ وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في 1945 وتبلور هدف حفظ السلم والأمن كأولوية قصوى للأوروبيين وضمانة لتحقيقهم التقدم الاقتصادي والاستقرار المجتمعي.
هكذا نجت أوروبا من أن تتحول إلى ساحة للحروب بالوكالة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي السابق خلال عقود الحرب الباردة، وكان ذلك على الرغم من الحدود الجغرافية المباشرة لحلفي شمال الأطلسي ووارسو (ألمانيا الغربية والشرقية) وعلى النقيض من مآلات الأمور في قارات العالم الأخرى (خاصة آسيا وإفريقيا) التي انفجرت بها الحروب بالوكالة (حروب الهند الصينية وحروب جنوب غرب إفريقيا في أنغولا وموزمبيق كنماذج مؤلمة).
حين انتهت الحرب الباردة وسقط الاتحاد السوفييتي السابق في تسعينيات القرن العشرين، تعاملت الحكومات الأوروبية مع ملفات السلم والأمن بحذر شديد
نجت أوروبا من الحروب بالوكالة خلال النصف الثاني من القرن العشرين لأن حكومات القوى المؤثرة عولت على السلام بين غرب القارة وشرقها، وانفتحت على علاقات تعاون أمني واقتصادي واجتماعي (سياسات الانفتاح على الشرق من قبل الحكومات الألمانية والأوروبية الغربية) وضغطت عليها باستمرار حركات السلام الأوروبية حتى لا تتخلى عن نهج التعاون حين تصاعدت الضغوط الأمريكية والسوفييتية باتجاه المزيد من نشر السلاح واستخدام القارة العجوز كساحة من ساحات الحرب الباردة (أزمة الصواريخ النووية متوسطة المدى في ثمانينيات القرن العشرين).
وحين انتهت الحرب الباردة وسقط الاتحاد السوفييتي السابق في تسعينيات القرن العشرين، تعاملت الحكومات الأوروبية مع ملفات السلم والأمن بحذر شديد وسعت إلى احتواء حروب يوغسلافيا السابقة، والوصول إلى فتح أبواب الاتحاد (حينذاك السوق المشتركة) لدول وسط وشرق القارة، وضم البعض منها إلى حلف شمال الأطلسي دون تلامس مباشر للحدود مع روسيا الاتحادية التي ورثت الإمبراطورية السوفييتية المنهارة. كان هذا هو سبيل أوروبا للحفاظ على الاستقرار، والابتعاد عن التماهي الكامل مع السياسات الأمريكية المنتعشة آنذاك بالصعود كقوة عظمى وحيدة، والامتناع عن التورط في صراع مع روسيا لا تملك أوروبا ترفه.
بهذه المضامين، توازنت السياسات الأوروبية منذ نهاية الحرب الباردة ونجحت في ضم العدد الأكبر من دول الشرق والوسط إلى الاتحاد، وحافظت على التعاون والسلام مع روسيا، وتوسطت لاحتواء أزمات في الجوار المباشر لروسيا، واقترب بعض عواصمها وابتعد البعض الآخر عن السياسات الأمريكية إن تجاه روسيا أو تجاه قضايا عالمية. فتمايزت هنا السياسات البريطانية (وبمعزل عن وجود حزب المحافظين أو حزب العمال في مواقع الأغلبية البرلمانية ومواقع الحكم) القريبة للغاية من التفصيلات الأمريكية عن السياسات الفرنسية والألمانية التي بحثت عن الفعل المستقل إن بتعاون اقتصادي واسع مع روسيا أو بالتوسط بينها وبين أوكرانيا في أزمات سابقة (اتفاقات مينسك نموذجا) أو بالابتعاد عن المغامرات العسكرية الأمريكية والبريطانية خارج أوروبا ككارثة غزو العراق في 2003. ولم تغب حركات السلام عن المشهد الأوروبي أبدا، فحفزت حكومات القارة دوما على البحث عن حلول تفاوضية للتوترات بين روسيا وجوارها المباشر، وشجعتها على الابتعاد عن المغامرات العسكرية، وأسقطتها في الانتخابات حين تجاهلت المطالب الشعبية كما حدث مع حكومة توني بلير في بريطانيا بعد التورط في غزو العراق.
اليوم، تتنكر أوروبا لكل هذه المضامين والممارسات وهي الجوهر الحقيقي للقيم الأوروبية وليس صفقات الدبابات والصواريخ.
تتنكر الحكومات المؤثرة في برلين وباريس ولندن بتطابق سياساتها مع السياسات الأمريكية تجاه روسيا وإرسالها السلاح إلى ساحات القتال الروسية ـ الأوكرانية وابتعادها عن التوسط بحثا عن حلول سلمية. تتنكر المجتمعات الأوروبية أيضا بالغياب شبه الكامل لحركات السلام وبالقبول العام للتورط في صراع مع روسيا التي يستحيل إلغاؤها من الخريطة الأوروبية.