- ℃ 11 تركيا
- 22 ديسمبر 2024
لطفي العبيدي يكتب: كارثة الغزو والاحتلال: أمريكا التي قوضت الهوية الوطنية العراقية الجامعة
لطفي العبيدي يكتب: كارثة الغزو والاحتلال: أمريكا التي قوضت الهوية الوطنية العراقية الجامعة
- 24 مارس 2023, 3:10:33 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
منذ غزو الولايات المتحدة للعراق، والإطاحة بالرئيس الراحل صدام حسين عام 2003. أضاف الأمريكيون لهذا البلد أشكالا جديدة من التعاطي السياسي المتخلّف، فأصبحت الطائفية الحاقدة العنوان السياسي الأبرز، في مناخ ساده الإرهاب والاقتتال وتضاؤل مؤشرات السلم الأهلي والتجانس الاجتماعي.
هذا «النظام الجديد» الذي وضعه المحتل الأمريكي برعاية دستور المسمّى بريمر، الحاكم الفعلي للعراق إثر الغزو، بُني على ولاءات مذهبية لأطراف إقليمية ودولية بعيدة عن مصلحة البلد، ولما يقارب عقدين من تاريخ الغزو وتدمير مؤسّسات الدولة، لم يستطع السياسيون الجدد، من الذين جاء بعضهم على ظهر الدبابة الأمريكية، تغيير أحوال العراق وشعبه، بل على العكس من ذلك، نهبوا البلد وكرّسوا الفساد، وفاقموا الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في مشهد حُكم محاصصتي مكبّل بمنطق الزعامة المقيتة، لم يجنِ منه العراقيون سوى الظلم والحيف والبؤس الاجتماعي. ومثل هذه الفوضى أعاقت حركة مؤسسات الدولة وتنظيماتها باعتبارها حالة مرضية سياسية ومجتمعية متواصلة.
أمريكا بفعلتها الشنيعة في العراق وتدخلها الإجرامي في هذا البلد خارج أطر القانون الدولي، أيقظت العالم على حقيقة زيف القيم الديمقراطية التي تدّعيها
عندما قرّرت الولايات المتحدة غزو العراق تجاوزت الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، وأصدرت قرارا أمريكيا منفردا بالغزو، أيدته المملكة المتحدة وإسبانيا، وفرضته على العالم من أجل تأسيس النظام الإمبراطوري الأمريكي على حساب رقعة الشرق الأوسط الكبير. كان ذلك تجسيدا للمعادلة المتغطرسة التي تعطي للولايات المتحدة دون غيرها حق التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وحق استخدام القوة ضد من تريد، ومتى تريد. وجل ما كان يهمّ واشنطن منذ تلك المغامرة العسكرية التي دمّرت بلدا ذا سيادة، هو أن يتمّ تنصيب القوة الأمريكية بشكل راسخ في قلب أهم منطقة منتجة للطاقة في العالم. ولم يطرح نوع من الديمقراطية الشكلية أيَّ مشكلة، لكن شرط أن يتمخض عن نظام خاضع، مثل تلك الأنظمة التي تطالب بها واشنطن في منتجعها. وقد أجازت الاستراتيجية الإمبريالية أن تلقي لعبة المصالح الدولية ظلالها على العلاقات بين القوى المتحكمة في مصير العالم وتناقضاته المكشوفة، فخارج إطار المصالح الاقتصادية والتجارية لا يوجد أصدقاء دائمون أو أعداء دائمون. أمسك جورج بوش الابن بيد توني بلير، وأدارا ظهرهما للعالم في انتشاء واضح، وقادا حربا دمرت الدولة العراقية بحجة كاذبة وملفّقة، ولا معنى لما يُقال بأنّ الرؤساء الأمريكيون منذ وودرو ويلسون إلى باراك أوباما، تحرّكوا انطلاقا من الافتراض القائل بأنّ للديمقراطيات قدرة فريدة على التعاون، وفي إطار بناء النظام الليبرالي أثناء الحرب الباردة، وأن يُقال بأنّه كان هناك إيمانٌ صادق تمّ اعتناقه في واشنطن وفي العواصم الأوروبية والآسيوية أيضا، بأنّ «العالم الحرّ» لم يكن تحالفا دفاعيا مؤقّتا، تمّ ترتيبه ضدّ الاتحاد السوفييتي وحسب، ولكنّه كان عبارة عن جماعة سياسية ناشئة، جماعة ذات مصير مشترك. وأنّه بهذا المعنى، كان النظام المنقاد أمريكيا في جوهره، عبارة عن «حلفٍ ديمقراطي» للدفاع عن الفضاء السياسي الديمقراطي الليبرالي وتأييده. بالمحصلة، لا قيمة لكل هذا الذي ينطق به جون آيكينبري وأمثاله، من المدافعين عن النمط الليبرالي، وعن الديمقراطية على الطريقة الأمريكية. ويكفي أنّ التاريخ يحفظ ما قامت به أمريكا والمتذيلين من حلفائها، عندما قامت بغزو يوغسلافيا. ومن ثمّ أفغانستان والعراق، والدور التخريبي الذي أتى على سوريا وليبيا، وما ارتُكب من أفعال يندى لها الجبين في سجن «أبو غريب» ومعتقل «غوانتانامو». فضلا عن الممارسات الوحشية لآلة الحرب الهمجية التي رصدها الإعلام الحرّ بشكل مباشر في ساحات الغزو، خاصة في شوارع بغداد وتكريت وديالى والفلّوجة وغيرها. ناهيك من مواصلة الإدارات الأمريكية المتعاقبة مباركتها لإجرام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية. وكالات نظام الحكم من الهيئات الأممية، مرتبطة إلى حدود هذه اللحظة بدوائر القرار السياسي في بعض الدول. وأيضا بمنطق السوق التجارية والهيمنة الاقتصادية، وبالابتزاز المالي في الدعم والتمويل والأوامر الفوقية، وكذلك بأيديولوجية التمكين والسيطرة وتفكيك الدول، ومنع توحّدها القومي الاندماجي. من الطبيعي عندما يكون القانون الدولي على هذا الشكل، وُضع ليكون دعامة للأقوياء، ودُونهم ليس هناك سوى التجاهل والكيل بمكيالين، أن يتواصل إفلاس النظام السياسي العالمي في المستويات الأخلاقية والإنسانية بدرجة أولى، وأن تسود الفوضى في نظام دولي جوهره الحسابات الاستراتيجية وتعزيز القوّة لا غير. واقعية عالمية مؤسفة، قلّصت المسؤولية المشتركة من أجل التصدّي لقضايا الفقر، والتفاوت بين الشمال والجنوب، ومسألة إجهاد المناخ والإضرار بالبيئة، فضلا عن أمن الأفراد والجماعات وحقوق الأقلّيات واللاجئين، وانتهاكات حقوق الإنسان عامّة، والتقصير الفادح في منح الدول المضطهدة حق تقرير مصيرها، وأبرزها فلسطين التي تقاوم محتلا غاشما، يراه الغرب الليبرالي ودعاة حقوق الإنسان كيانا ديمقراطيا في إقليم غير ديمقراطي، يتم فيه تجاوز الحقوق والحريات. وحين يمشي العار عاريا على هذا النحو، يتشكّل حينها النموذج الأوفى للنصب والاحتيال التاريخي، الذي تُتلف فيه جغرافيا السكّان المحلّيين، ويحوّر فيه التاريخ الأهلي. ولطمس التاريخ الأصلي، من السّهل أن تمارس شعائر قرونا من الزمن إذا لزم الأمر، للتغطية على الإبادة الأمريكية للسكّان الأصليين. وإسرائيل الأخرى قامت وتقوم بأعمال الإبادة والتهجير نفسها التي أدّتها أمريكا على أكمل وجه. ويأتي كلاهما في النهاية، وبعد كلّ ذلك الإجرام ليدّعيا الديمقراطية وحقوق الإنسان. أمريكا بفعلتها الشنيعة في العراق وتدخلها الاجرامي في هذا البلد خارج أطر القانون الدولي، أيقظت العالم على حقيقة زيف القيم الديمقراطية التي تدّعيها. وقد شهد التاريخ على إخفاقها وتابعها الكسيح اسرائيل في ملامسة أدنى المعايير الأخلاقية والإنسانية المطلوبة. بريطانيا المضطربة سياسيا والمرتبكة حكوميا، خروجها من الاتحاد الأوروبي، ومن ثم ما تقوم به ضمن مجريات أحداث أوكرانيا، يجعلها هي الأخرى لا تزال تتذيّل لأمريكا، وتتخبّط معها في مجدها الذاتي المغرور وقوتها العسكرية التي انحدرت دراماتيكيا منذ بدء مغامرتهما المشتركة في العراق، بحجة جلب الديمقراطية وإسقاط ديكتاتورية مزعومة.
أجازت الاستراتيجية الإمبريالية، كما يسميها تشومسكي، لواشنطن شن حرب استباقية وليست استردادية، بما أن الأمر يتعلق بإضفاء صفة الشرعية على الدمار الذي سيحدثه خطر لم يتجسّد بعد، يمكن أن يكون متخيّلا أو حتى مختلقا. على أساسه يقع تقسيم العالم إلى معسكرين، أولهما تابع للهيمنة الأمريكية تحت مسميات متنوعة أبرزها، محور الاعتدال، وثانيهما معارض لهذه الهيمنة يُنعت باسم محور الشرّ. كان بوسع الولايات المتحدة فعلا، أن تفكّـر مرّتين قبل القيام بغزو العراق في عام 2003 فالحرب التي شنَّـتها على العراق، كانت نِـتاج تصوّرٍ للمحافظين الجـدد، الذين يرتبط عديد منهم، مثل وكيل وزارة الدفاع السابق بول ولفوفيتز، ومساعد وزير الدفاع لشؤون السياسة دوغلاس فايث باللّـوبي الإسرائيلي، الذي انضمّ لزعماء إسرائيل في التشجيع على ذلك الغزو، والربط بين صدّام حسين وهجمات سبتمبر الإرهابية. بالمحصلة، لا يتّضح ما إذا كان إعلان حقوق الإنسان الذي اتّفق على نصّه عدد قليل نسبيا من الأعضاء المؤسسين لمنظمة الأمم المتحدة سنة 1946 يمكن أن يجد في عالم اليوم، وما حمله من إساءات للشعوب والدول التي تمّ غزوها وقهرها، وتدمير تماسكها الاجتماعي، تفسيرا أو تطبيقا يمكن التوافق عليهما، بالحدّ الأدنى للمشترك الإنساني، وللتعايش الكوني العادل والمنصف.
كاتب تونسي