- ℃ 11 تركيا
- 24 نوفمبر 2024
محمد إبراهيم المدهون يكتب: خضر عدنان في حضرة الغياب
محمد إبراهيم المدهون يكتب: خضر عدنان في حضرة الغياب
- 2 مايو 2023, 8:32:13 ص
- 294
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لم تسترح جنين اليوم فقد كان بانتظارها ليل آخر تسرب في خيوطه الأولى دمٌ ترامى فوق يديها كالشظايا... (دم الشهيد القائد خضر عدنان)، في البرهة التي يتكاثر فيها الزبد ويصبح المقاتلون فئة قليلة، في الوقت الذميم الذي تتربص فيه الحواجز والأسلاك الشائكة بالعيون المقاتلة الشاخصة إلى كل بقاع فلسطين، غاب (أيقونة الصبر والتحدي) واحترق نجم فلسطين هوى على (القدس) كعباءة منسوجــــة بورق الزيتون ووجهه مقبل على الصلاة كحدود الشهادة.
(خضر عدنان) الرجل المعنى في زمن تساقطــــت فيه المعاني عن كثير من الرجال، الطيف العصي الذي لا يُرى بسهولة. (أيقونة الإرادة) اليدان اللتان تتقنان صنع الأمل لتشرق الشمس بلا كآبة، على الذرى الفلسطينية العينان اللتان تصادقان الليل في البحث عن ممر إلى ثغور الغزاة، الكوفية التي تتشابه خيوطها مع ندوب الأرض المقدسة، كان يدرك أن عليه أن يخفي ملامحه والخفق الفلسطيني في قلبه وبيارات البرتقال في عينيه فيما الغدر يتربص به ويكمن في الزوايا والأزقة وتحت أصغر الظلال.
(خضر عدنان) في لحظة الولادة كان السنديان يشتد، وفي لحظة الشهادة كانت الولادة سنابل تتسلق عتبة الدار لتحاكي ذكرى طفل ترك وراءه حمام البيت ودفتراً فيه أمنيات تنام بهدوء ولا يجزعها المنام ليلاً يجيىء إلى بيوت الشهداء يفتح باب الدار فيهب النعناع وقلب أمه المطرز بالأقحوان .. لطفل كانت تهدهد له حمام الدار كي ينام.. يدخل وحقيبته الملونة. يسندها إلى حائط حجري وينام في حضن أمه، فتعدد الهجرات في جبينه، يهرع خضر من عرابة إلى مخيم جنين، يجري إلى النقب، يهرول إلى الرملة, يركض إلى أزقة القدس العتيقة.. يلقى كلمات الصبر والأمل .. وينام على غده المزدحم بمشاوير التثبيت ويتقلب على من حارة إلى حارة، فتكبر الجروح في عينيه كأنها ألف عام .. يكبر (أبا عبدالرحمن) ويكبر معه الحلم بفلسطين حرة.. من طفل مشاكس إلى قائد قادم عبر الذكريات والارادات التي لا تنكسر التي اخترقت عظامه وجلده ولحمه والامعاء لكنه لم ينحنِ.
بعد أن تسرب دم (خضر عدنان) في هدوء الأمسية، سيصعد صوته من غموض الأشياء القاتمة في فلسطين مثل برج حجري لصوته الشهيد، أنا (خضر) المولود في عرابة على أزهاره دم لم أستطع تفسيره طفلاً، ولم أستطع احتماله رجلاً، تعلمت كيف أمسح الدمع من عيون أهالي الشهداء والأسرى والمحروميين والمكلومين. ليس في فلسطين حجر أو زاوية أو جدار لا يستطيع أن يتهجأ اسمه ليس هناك جدولاً ولا سنبلة أو شجرة لا تتشابه به مع ملامحه، تتشابه مع الرجل الذي أخفى ملامحه لتتضح معالم فلسطين.
تستفيق فلسطين على زلزال الرحيل المدوب وتخرج البلاد من جرحك النازف قرى وجداول ماءً ونعناعاً، يستفيق الشهداء يخرجون من جرحك قطرات دمٍ سالت على الجبين الصلب المتغصن والشهداء يضمدون جرحك النازف، ويدعون طيور الصباح المهاجرة لتتوسد الجسد المسجى بهدوء ملائكي كأنه يخبىء بين ضلوعه انفجاراً قادماً.
وفي يوم الرحيل كان الوداع الأخير لرجل فلسطين، فكان يوم الثاني من مايو 2023 لا مثيل له في تاريخ فلسطين، حيث بكت وتراصت قلوب الملايين في هتاف واحد تؤكد أن خضر عدنان حس الجماهير وخيارها الأوحد ، فانتخبته في استفتاء قاطع لكل الأوهام، ووقف علماء النفس يلوون شفاههم ما هذا ؟ كيف خشعت كل هذه القلوب فلا تسمع إلا زفرات أنين الحزن على رحيل أيقونة الصبر ورجل ملحمة الإرادة الناجزة خضر عدنان.
هكذا يموت الأبطال .. أشجاراً أصلها ثابت وفرعها في السماء .. جبالاً تمر عليها ضربات السنين، لا يموتون، ينتقلون من حياة إلى حياة، ومن دار إلى دار... كما الطير يسرح في فضاء لا حدود له.
هكذا خرج (خضر عدنان) من الحياة، حياة الكبد والكد، خرج بعد أن أدار لها ظهره، وبعد أن نظر إليها نظرة الاستخفاف والسخرية.
فالقتلة الذين ظنوا خطأ أن آعدامه قد ينهي حالة (الإدارة والتحدي) في الشعب الفلسطيني هم واهمون، ولو قدر لعلماء النفس أن يقولوا رأيهم حينها لأدرك نتنياهو أنه فرغ على التو من تجهيز شعب كله خضر عدنان.
ترى كم كان وسع خطوة (الشهيد القائد خضر عدنان) وهو يغدو بين جنبات الوطن خطوته حين غادرنا كانت بالكيلومترات ... رحيل أيقونة الصبر صارت بيتاً وسع الشعب.
دم (الشهيد القائد) في ضفة الإباء كان يركض في شوارعها كنهر بلا مستقر، كان يرفع صوته ذبيحاً، يحكي قصة ظريف الطول الأنموذج الأسطوري الذي صوب قلبه إلى الشمس في (قلب) جنين، ولم يتسع له الوقت ليطرق أبوابها واحداً واحداً كي يضع أمانة الدم في الدم، فكان أن ترك وصيته على الأرصفة حتى تصافح في الصباح وجوه تلاميذ المدارس وهم ذاهبون إلى درس القراءة عن الوطن المحاصر بين الوثائق وسلاح الغزاة، استشهد (خضرعدنان) تاركاً أمانة الدم لنا وإشارة صريحة إلى جهة الخرق الإسرائيلي المتواصل.
هكذا خرج (أباعبدالرحمن) من الحياة ، بعد أن أودع فيها دليل الطريق وكتاب المنهج، بدلة الكاكي, قطعة السلاح, رغيف الخبز اليابس والبساط الملوث بالوحل والطين. لم يعد (الشهيد القائد) بحاجة إليها فقد استنفذ وقته ورحل...
هكذا خرج (خضرعدنان) من الحياة.. بعد أن حفر بكلتا يديه طريقاً للحرية الممتد من رفح حتى جنين ورسم ممراً للكرامة تعبر فوق الجسور وتحت الأنفاق، وبعد أن شق جدولاً للدماء يخترق سواحل غزة وجبال القدس وروابي الخليل وسهول يافا، حتى إذا بلغ عرابة تدفق شلالات تتراقص على لحن بيوت اللاجئين وخيام الفقراء والأطفال الذين انتظروه على قمم الجبال لأنه وعدهم أن يمر ويسلم عليهم.
هكذا خرج (القائد الشهيد) من الحياة، بعد أن علم الأطفال الذين لم يجيدوا نطق الحروف الأبجدية بعد أن روضة التحرير والعودة ستكون فيها أرجوحتهم ولعبهم ولهوهم. وهكذا علمهم نطق الألف والباء في حرية الدم وحلاوة المراغمة، ورسم على وجوههم صورة لا تكاد تمحى، إنكم يا صغاري الأبطال وحدكم، وغيركم الجبناء، أنتم الفرسان تمتطون صهوات المرحلة وغيركم تأبطوا ملفات التفاوض العبثية المارقة المليئة بأخطاء اللغويات.
هكذا خرج بطلاً في وقت عزّ فيه الأبطال وفارساً في وقت تنادى فيه المتساقطون على وليمة الوطن، ورمزاً في وقت سقطت فيه الشعارات الممجوجة.
وعلى حافتي الطريق يبقى المهرولون أصحاب الدنيا يبحثون عن مكان فوق الطين فيما يستقبل (الشهيد القائد) الشهادة وهو يرفع الراية في زمن الصعود الصهيوني الأمريكي يبرز الخيار ناصع البياض، فعندما يسقط رأس (خضرعدنان) حينها (أيقونة الإرادة) غير قابل للرثاء ويستعصي على الكلمات، (الشهيد القائد) كان قابلاً للانفجار، قابلاً للاشتعال وقلبه وسع كل فلسطين من بحرها إلى نهرها، فأي لغة يمكن أن تسعه.
إن دم (الشهيد القائد خضر عدنان) قد وضعنا على طرف الخيار، إما أن نُغيب أو نُعلب أو نموت على مزاج الأوصياء، وذلك منطق الجنون، جنون السقوط طالما أننا نستطيع الموت شهداء.
أبا عبد الرحمن لم تمل من الجهاد والمطاردة ولا حفيت أقدامك من الشوك ولا ارتجفت مفاصلك من لذع البرد وحرقة الشمس، كنت أعلم أنك تطارد وتطارد، تجري وراء جيش بأكمله تحاربه ومعك شعب بأكمله، ويجري وراءك جيوش من السفلة وشذاذ الآفاق، من يهود البقرة وعرب النفاق الذين ربوا على النفاق. أخيراً اصطادوك، أغبياء هم وما أتعسهم، لقد اغتالوا فيك الجسد، لكننا - وقت السقوط - كنا عند رأسك ننتظر روحك نلفها بالحرير والطيب والحناء، وقت السقوط رحلت إلى عليين بإذن الله، لم تشأ إرادة الله أن تطال الأيدي الآثمة والأرجل النجسة منك، يا طهر البحر وطيب السماء.
أهي الحقيقة يا (ملاذ إرادتنا)، لن نراك بعد الآن وأهاً يا أمة العرب. ألن ترقص النساء في مخيم جنين على صوتك وأنت تهدر في أرضك (المسلوبة) في كل ببت في ضفة الإباء، ألن تلقى (أبناء الشهداء) لتهمس في أذنيهم خلي بالك.
(الشهيد القائد) ... ما أجملك وأنت تدخل بوابة القبر وقد اصطفت ملائكة السماء ، صفوفاً صفوفاً تنثر عليك الرياحين وتغمرك بالطيب، ثم ها هو أبا أسامة كبها يقف من بعيد ينتظر إلى أن يصل إليه الدور ليطوقك بكلتا يديه، وقف على قدميه. يقبلك من جبينك ووجنتيك ويقول لك لم تتأخر عني حبيبي أبا عبدالرحمن كما عهدتك، ثم صف الشهداء من كتيبة جنين وعربن الأسود وعقبة جبر والقدس...، يدعونك الآن حتى تستريح من عناء الرحلة ، يدعونك تستريح من وعثاء السفر.
كانت رحلتك طويلة، آن لهذا الفارس أن يمد قدميه ويلصق ظهره بالأرض ويغمض عينيه وينام.
ولا نامت أعين الجبناء