محمد قدري حلاوة يكتب.. كبسه بن

profile
محمد قدري حلاوة قاص واديب مصري
  • clock 5 أبريل 2021, 8:57:56 م
  • eye 827
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

( كبسة بن)

 (١)

مضى بخطوات وئيدة يتلفت حوله مشدوها مسلوب الإرادة والبصر.. أنت في حضرة القاهرة القديمة.. كان يسمع وقع خطواته على البلاطات البازلتية السوداء متدثرا بمعطفه وقد بدأ يدوي صوت الرعد المنذر.. فاضت السماء من سحابة أغتصبت وجه الشمس.. وأسرع بخطواته قليلا لتفادي السيل المنهمر.. لم يشعر بذاته عندما إنزلقت قدماه وأرتطم جسده بالأرض.. مرت لحظات أحس بعدها أنه أسترد وعيه وأفاق.. وجد جمعا من البشر حوله يمدون إليه أيديهم كي ينهض.. بينما أخذ أحدهم ينفض له ملابسه المتسخة ببقع الطين.. وآخر " يكبس" له جرحا مفتوحا في رأسه يسيل منه خيطا من الدماء اللزجة على وجهه بقبضة من " البن".. ولكن ما هذه الملابس التي يرتدونها؟.. الجلباب والسروال.. القلنسوة والطيلسان.. الإزار والزنار.. ماذا حدث؟.. رفع رأسه ورأي العذروات الحسان يطللن من خلف المشربيات.. وإبتسم لأول مرة.. 

تقدمت بعض الخيل بوقع خطواتها المنغم.. هبط بعض الجند ميزهم بالخوذ والسيوف الممنطقة للجيد.. وجد نفسه فجأة مقيدا ومساقا نحو مخفر الشرطة.. ماذا فعل لكل هذا؟.. حاول أن يتملص منهم وأخذ يصرخ متوعدا " أنتوا متعرفوش أنا مين؟".. فوجئ بلكمة أسالت من شفتيه الدماء وفرضت عليه الصمت.. يبدو الآن أنه يواجه مصيرا مجهولا.. هل يمكنه الإتصال ببعض الأصدقاء في محاولة لإنقاذه؟..

كان القوم يتهامسون بأن الدرك نجحوا في القبض على أحد جواسيس " بني عثمان".. هؤلاء الذين بعث بهم" سليم الأول " ونشرهم في كل مكان إستعداد لتقدم جحافله للإستيلاء على "المحروسة".. " لابد من عرض أمره على طومان باي شخصيا بعد مصادرة أشياء غريبة من جيبه( هاتفه المحمول) ووجود أوراق أكثر غرابة (عملات ورقية وأوراق ثبوتية وخلافه)..

لم يكن أمامه سوي أن يتعامل مع الوضع.. هو لا يستوعب ما حدث البتة.. لكنه إتسم دوما بالواقعية.. فليتصرف الآن ويؤجل محاولة الفهم فيما بعد.. إنها فرصة ذهبية منحتها له الأقدار.. يستطيع أن يحذر قومه من الخونة ( خاير بك ورفاقه).. كما يمكنه إرشادهم للمسالك التي سيسلكها " العثمانيين" نحو " مرج دابق"..يجب ألا يصلوا " للريدانية".. يمكنه أن يخبرهم بالتفصيل بأشياء غائبة عنهم تماما.. يعلمها بالتفصيل.. قد يصبح سببا في تغيير وجه التاريخ.. لكن لا أحد يستمع إليه.. وجد نفسه ملقي وحيدا في زنزانة فارغة شديدة البرودة.. وكان يسترق السمع إلى الحراس وهم يتداولون الحديث" مفيش فايدة.. السلطان سليم دخل بجيوشه خلاص" قال أحدهم.. أخذ يصرخ " عايز أقابل طومان باي".. لم يستجب له أحد..

أستيقظ في الصباح بعد ليلة ليلاء.. تعجب عندما وجد الصمت يلف ساحة السجن.. فوجئ عندما وجد الباب مواربا.. تحسس طريقه بحذر وزادت دهشته عندما لم يجد أحدا من الحراس.. الزنازين أيضا خاوية..أطل من خلف الباب الخشبي الكبير للسجن بتوجس شديد.. كان موكب " سليم الأول" يمضي وسط دقات الطبول وجحافل الجند والحرس.. وقد وقف العامة على جانبي الطريق ينظرون بدهشة.. كثير منهم إكتست ملامحهم بالحنق والغضب...بعضهم لم يتمالك دموعه.. بعض آخر حمل أغصان الشجر يهلل ويهتف للفاتح الجديد.. تذكر هؤلاء الذين يعرفهم جيدا في عصره ( قبل السقوط على رأسه).. هؤلاء الذين يهللون لكل حاكم جديد.. الذين يصنعون الأصنام والطواغيت.. لابد أن هؤلاء من نسل أولئك.. من طينتهم... أبناء العهر والتحول.. تخلقوا من ماء الشيطان.. من رحم العبودية والمذلة... هم الآفة في كل عصر.. المرض المتأصل في جسد " المحروسة".. يستفحل وينهشها.. زفرات الألم خافتة تضيع متوارية خجلا وسط دقات الطبول والدفوف ونعيق الهتاف والزمر.. إنتظر قليلا حتى هدأت الجلبة والصخب... وإنطلق يعدو كالبرق لا يلوي على شئ أو يلتفت وراءه و السؤال يصفع ذهنه " ماذا لو كنت قد  تمكنت من لقاء طومان باي؟".. ذلك المسكين الذي يتأرجح جسده الآن على الأنشوطة..

(٢)

ظل يعدو وقد كاد قلبه يقفز من ضلوعه.. توقف في محيط " الأزهر" لاهثا..  إنحني ممسكا صدره بيده كأنه يسكن نبضات قلبه ويعيدها لوتيرتها المعتادة.. لاحظ جلبة شديدة وصيحات منطلقة من باحة " الأزهر".. صعد بخفة على إحدى التلال مختبئا خلف الصخور وأخذ يراقب المشهد.. كان جنود " الفرنسيس" يقتحمون المسجد بخيولهم.. أجساد المقاومين تسقط صريعة تحت سنابكها.. تطايرت عمائمهم وتلطخت الجبب والقفاطين بالدماء.. مقدمون ببسالة وشجاعة.. يقذقون "الفرنسيس" بالحجارة.. لكنه عصر " الرصاص".. الطلقة المندفعة تقهر البدن... تسلب الحياة .. و الغلبة دائما لزخات البارود..الرصاصة تمرق أسرع من إنطلاقة الروح.. 

" المعلم يعقوب" يتشاور مع " ديزيه" ( القائد الفرنسي) وهو يشير إليه بيده مقترحا إتجاه الهجوم.. حاول أن يكتم صوت ضحكة كادت أن تكشفه وتلفت إليه النظر.. أليس هذا هو " المعلم يعقوب " الذي أعتبره " لويس عوض" من قادة التحرر وبطلا قوميا ويسعى لأن تكون مصر للمصريين؟.. أمثال" يعقوب" و " عوض" وكل المتمثلين المنبهرين بالمستعمر آفة أخرى تطعن في جسد " المحروسة"..لي عنق الحقيقة والتاريخ مطية تحت أقدام الغرب.. العقل المأسور أخطر ألف مرة من الجسد المسبي.. آلاف غيرهم يهللون للمستعمر و المطبعة وكتاب "وصف (نهب) مصر"..بعض البثور البارزة على الجسد.. مأساة أن يذكر التاريخ أسماء بعض شيوخ الأزهر المتماهين مع " نابليون " و الإحتلال.. ولا يذكر أسماء آخرين من المقاومين والشهداء..

كان يشعر بالألم يعتصر ذهنه.. يعلم أنه لن ينقضي سوي حولين وتنقشع غمة الإحتلال الفرنسي.. هبط بحذر وهدوء.. وحاول أن يتسلل إلى إحدى العطوف الجانبية حتى شعر فجأة بسن " السونكي " البارز  ينغرس في معطفه وصوت جندي فرنسي يأمره بالتوقف.. رفع يده لأعلى وأستسلم ساكنا.. لم ينقذه من الموقف سوي أنه يتحدث الفرنسية بطلاقة.. أستطاع أن يخدع الجندي ونسج له قصة خيالية عن حظه العثر كرحالة إيطالي حوصر في منطقة الصراع.. خفت حدة التوتر وبدأ في تبادل الأحاديث الودية مع الجندي الذي بدا منهكا في حاجة إلى البوح.. وما إن سأله عن إسمه حتى أنفجر قائلا " إسمي جوفاليه.. من نيس.. لست أعلم يا صديقي مالذي أتى بي إلى هنا  سوي أنه الحظ العثر.. مجد الإمبراطورية؟.. لا شئ يساوي أن تحيا وسط مجموعة من الهمج المتطرفين الذين يظهرون لك العداء في كل حين".. وأستطرد قائلا " لقد وعدنا بونابرت بالنصر.. لقد سئمت الحرب والدماء.. ".. تظاهر بالتعاطف معه وربت عليه قائلا" شئ مؤسف حقا يا صديقي.. لقد أتيتم إليهم بالحضارة.. المطبعة.. المجمع العلمي.. " أنطلق الجندي يضحك بشدة وقال بعد أن هدأ قليلا" إذن لقد نجحت الدعاية.. نجحت الدعاية.. أتمنى ألا يستمر الأمر كثيرا ".. أجابه بإبتسامة مصطنعة" عامين يا صديقي.. عامين لا أكثر" وأشار إليه مودعا.. ومضى في طريقه بعد أن ساد الهدوء  محدثا نفسه" لقد نجحت الدعاية أكثر مما يتصور ذلك الجندي المسكين "..

(٣)

مضى إلى رحاب " الحسين".. زحام البشر والجلبة هناك لا يثيران الدهشة...زوار آل البيت لا ينقطعون أو يقطعون أواصر الحب والمودة... لولا بعض الصراخ والعويل والبكاء.. وجوه ذاهلة تردد " الولس كسر عرابي".. يتردد الحديث بين القوم أن "الإنجليز" على مشارف القاهرة.. كيف تمر كل السنوات والعصور والعهود عليه هكذا في غمضة عين؟.. " كانت مقتلة في التل الكبير." تهامس البعض من حوله.. "الولس "( الخيانة) و " خنفس".. ألف خيانة وألف ألف "خنفس" ومازال ليل القاهرة يحتضن النيل والمآذن والأجراس..

" النديم هرب".. بصيص الضوء يحيي مدينتي ويشعل جذوة الأمل دوما بمثقفيها وشعرائها وعشاق الوطن..  مثل " النديم ".. ناطقين بالحق الصافع والحقيقة الطاعنة كدأبهم ..في أي شارع أو عطفة يتخفي " النديم "؟ . في أي بقعة يظهر؟.. صوته يصدح في كل مكان..

" محمد عبيد " مات بطلا يقاوم.. لا شارع يسمى بإسمه.. لا مدرسة ولا زقاق.. لكنه سقط هناك شهيدا في بقعة مباركة..

كثيرون نكصوا على أعقابهم.. أسماء تتردد كالأعلام في دفات الكتب..ما الحكمة أن تظل واقفا في صف الخاسر؟.. إنضم إلى موكب المنتصر.. الباشوات ورموز كبيرة وأصحاب الأملاك تماهوا مع المحتل وصاروا ظلا له.. الوعود بتخفيف الأعباء على كاهل الفلاحين والعمال والعامة.. وعود دائما الوعود.. يأتي كل مستعمر بالوعود.. الأمل المراوغ في الحياة الأفضل والغد.. هل يحق لنا لوم المستعمر على وعوده؟.. ماذا عن وعود أبناء جلدتنا.. أبناء الوطن.. وما الذي تحقق منها؟..

الإنكسار يرتسم على الوجوه الطيبة.. " مصر للمصريين" ذلك الحلم الذي لم يتحقق أبدا.. أحلامنا كالموجة العفية.. تأتي هادرة.. تنكسر على الصخور.. تتشظي.. نتفرق ونعود بقايا نلملم الجراح.. جراح القلب والروح والوطن..

آه من تلك البلاد.. تسقط في فخ عشقها ولا تبرأ منه أبدا.. هل هو النيل؟.. الأرض والطين؟.. حبات الرمال؟.. رائحة الخبيز في الصباح؟..سنابل القمح الطارح؟.. شمسها وبحارها والصحاري والوديان؟.. تاريخ الآباء والأجداد؟.. دماء المقاومين المتشربة في أعماق الأرض ترصد جحافل الغزاة القادمين من كل حدب وصوب؟.. هل هو الشجن الساكن في أوتار العود؟.. القوس الذابح لوريد الكمان؟.. بكاء الناي ودموع الربابة؟.. آثارها وأغانيها ورسل الكلمة والمعنى؟.. ويلك من عشق مهلك لا مرد له ولا ود فيه.. قاسية هي عندما تلجأ إلي أحضانها لائذا تردك وتلفظك بغلظة بلا شفقة ولا رحمة.. تقترب منها فتنأي.. تهرول إليها فتبتعد كحلم السراب في هلاك الظمأ.. تطلب منك كل شئ فتلبي خاشعا.. تناديك فتسمع.. تأمرك فتطاع.. أي معشوقة طاغية تلك؟.. هي الحلم الغير مكتمل أبدا.. سردية الأمل والألم ..

"بأحلم يا صاحبي وأنا لسه بأحبي..

بدنيا تانية ومصر جنة يا صاحبي..

وآجي أحقق الحلم ألقى موج عالي طاح بي..

ونعود سوا نطوي الأنين بالحنين..

وعلشان كده مصر يا ولاد حلوة الحلوات.".

(٤)

كان يجلس وحيدا على مقعد منزوي في ركن قصي أمام مقهى قديم في " خان الخليلي" .. يرتدي بدلته الصيفية ذات الأكمام الطويلة.. طغت نظارته العريضة على ملامح وجهه.. "حسنته" الكبيرة تبدو جلية على خده الأيسر بجانب أنفه.. بعض الصلع باد في مقدمة رأسه.. يقرأ بهدوء جريدة الأهرام العريقة وينفث دخان سيجارته بتؤدة.. يرتشف على مهل رشفات من فنجان القهوة.. عمنا " النجيب" ذلك الذي كتب عنا ولنا.. نحن " الحرافبش" الباحثين عن العدل أبدا.. نهلل دوما  " للفتوة" المنتصر.. كل "فتوة" .. سينشر العدل في " الحارة".. لكنه يتغير ويتبدل بعد حين .. هل تفعل القوة والمكانة كل هذا التحول في شخصية الإنسان؟.. تزيد الإتاوات والمظالم.. يتفرق حلم العدل منقشعا كسحابة صيف شاردة ونعود سريعا لقيظ الواقع المرير..

حياه وجلس بجواره قاطعا خلوته.. سأله عن الأحوال والمآل.. إرتشف " النجيب" آخر رشفة من فنجان قهوته قائلا له "سألت الشيخ عبد ربه التائه:. كيف تنتهي المحنة التي نعانيها؟.. فأجاب:.. إن خرجنا سالمين فهي الرحمة, وإن خرجنا هالكين فهو العدل".. زادت حيرته وتوتره.. من يكون هذا المتنبئ " عبد ربه التائه"؟..هل هو بعضا من روح " النجيب "؟.. وما تلك الإجابة المفزعة؟.. نرجو الرحمة دائما.. ونبحث عن العدل.. فماذا لو تحقق العدل في تلك النبوءة؟..هل من العدل أن نهلك؟.. زاده سؤالا آخر وما الحل؟.. صمت" النجيب " برهة كأنما يتلقى الإشارة وقال :" سألت الشيخ عبد ربه التائه متى يصلح حال البلد؟.. فأجاب:.. عندما يؤمن أهلها بأن عاقبة الجبن أوخم من عاقبة السلامة"..

سار لبعض الوقت شاردا.. قادته خطواته نحو " حوش قدم".. نغمات العود وصوت " الشيخ إمام" الساري في القلوب يدندن.." نجم" يردد ورائه ومجموعة من عشاق الوطن :

" مصر يا امّة يا بهية.. 

يا أم طرحة و جلابية.. 

الزمن شاب وانت شابة.. 

هو رايح وانت جاية.. 

جايه فوق الصعب ماشية.. 

فات عليكي ليل ومية.. 

و إحتمالك هو هو.. 

وإبتسامتك هي هي.. 

تضحكي للصبح يصبح.. 

بعد ليلة ومغربية.. 

تطلع الشمس تلاقيك..

معجبانية وصبية.. 

يا بهية.. "

" الحمد لله إنك فوقت يا أستاذ ".. إبتسم له أحد الوجوه السمراء.. كان يجلس على مقعد على الطوار وأمامه كوب كبير من عصير القصب.." أشرب ده يا أستاذ هيروق دمك "..هل كان يهذي؟ تحسس، موضع الألم في رأسه.. إنطبع على كفه بعضا من" البن " برائحته الذكية.. ما هذا؟.. هل يمكن" لكبسة" البن أن تستمر على الجرح خمسمئة عام؟..هل يبرأ الجرح وتتوقف الدماء النازفة؟..

التعليقات (0)