- ℃ 11 تركيا
- 22 نوفمبر 2024
مدى الفاتح يكتب: الإسلام وفرنسا: كيف يفكر ميشيل أونفري؟
مدى الفاتح يكتب: الإسلام وفرنسا: كيف يفكر ميشيل أونفري؟
- 18 أبريل 2023, 5:48:00 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
حينما نشر الفرنسي ميشيل أونفري كتابه «التفكير في الإسلام» 2016) ( لم يكن يعد ضمن طائفة المستشرقين أو المتخصصين في دراسات الإسلام، بل كان معروفاً كفيلسوف أكاديمي متأثر بنيتشه وشارح لأبيقور. ذلك لم يكن شيئاً سيئاً، فبسبب كونه أكاديمياً عقلانياً من خارج سرب المستشرقين، استطعنا الحصول على قراءة مغايرة ومتحدية لوجهة نظر المدرسة الفرنسية وتحليلاتها حول الظواهر المرتبطة بالمسلمين كالإرهاب.
نشر ذلك الكتاب في أعقاب هجمات باريس الدامية، التي شكلت صدمة للرأي العام داخل فرنسا وخارجها، والتي ساهم ارتباطها بتنظيم ينتمي أفراده للديانة الإسلامية في اشتعال حملات تشويه وكراهية ضد العرب والمسلمين. في حين كانت السهام توجه إلى المسلمين وتضعهم في خانة الاتهام، بما يبرر تكثيف الضغوط والتضييق عليهم في تجمعاتهم وأماكن عبادتهم، كانت أصوات من بينها صوت أونفري تقول بشكل عالٍ، إن المشكلة ليست في الإسلام، وليست متعلقة بالمسلمين الموجودين في فرنسا، ولكن الطرف الذي يجب تحميله المسؤولية هو الدولة الفرنسية، التي دخلت في عداء مع دول وكيانات تبعد عنها آلاف الكيلومترات. فرنسا التي سمحت لجيشها بالوصول إلى العراق وأفغانستان وليبيا، وبتدمير مدن والقضاء على حيوات الآلاف هي التي بدأت بالعدوان جاعلة من نفسها قبلة للاستهداف. بهذا المنطق فإن الأعمال الإرهابية، وفق وجهة نظر أونفري، لا تنبع من رغبة لدى الجماعات الجهادية في أسلمة فرنسا، أو تفكيك ديمقراطيتها كما كان يشاع، وإنما يمكن فهمها كمحاولة انتقامية من الممارسات الفرنسية التي حولت بقاعاً إسلامية كثيرة لمناطق حرب وفوضى، فرنسا المنتفخة، والراغبة في خلق عالم على مقاسها، هي التي عرضت نفسها للخطر من خلال الدخول في مغامرات غير مأمونة العواقب ومن دون التفكير في تداعيات ذلك وانعكاساته عليها.
يعيد أونفري ترتيب المشهد بشكل ينقل فيه الاتهام من الجماعات الإسلامية الجهادية، التي تريد تقويض النموذج الديمقراطي الغربي وفرض قيمها، إلى ما يرى أنه أمر واقع فعلاً وهو محاولة الفرنسيين والغربيين نشر «العلمانية» ومحاربة أي تطبيق للإسلام في أي مكان. يفهم أونفري أن المسألة لا تتعلق فقط بالقيم والمبادئ أو بالرغبة المجردة في نشر العلمانية، ولذا فهو يتساءل: لماذا ركزنا على الديمقراطية وعلى مسألة حقوق الإنسان المهضومة، واستخدمنا هذا العنوان للإطاحة بالقذافي وللسعي لإسقاط طالبان أفغانستان، في حين لم نفكر في الأمر بالطريقة ذاتها إزاء دول ككوبا أو الصين أو غيرها؟ بل يمضي أونفري لأبعد من ذلك متسائلاً، أنه إذا كان يحق لنا التدخل في أي مكان لفرض نموذجنا للحياة، فلماذا لا نتدخل في «إسرائيل»، التي تقيم دولة دينية؟ ينتقد أونفري كذلك الصيحات العالية التي تطالب بطرد المسلمين، أو إعادتهم إلى بلدانهم، معتبراً أن ذلك القول الساذج يتجاهل كونهم مسلمين وفرنسيين في الوقت ذاته، كما يعتبر أن مثل هذه الأفكار، التي تتجاهل حقيقة أن المسلمين صاروا جزءاً من النسيج الوطني، والتي وجدت رواجاً إبان صدمة العمليات الإرهابية، وتصدر دعايات الشعبوية ومعاداة الأجانب للمشهد، إنما تنم عن تسرع في التفكير وعاطفة، وأنها وإن كانت قادرة على كسب أعدادٍ من المناصرين اللحظيين، لكنها لا تقدم حلولا عملية. كان أونفري من المعارضين للتدخل الفرنسي العسكري في مالي، وهو رأي ما لبث أن اتضحت رجاحته، حيث تسبب ذلك التدخل وتلك الحملات الموسعة، التي حملت عنوان القضاء على التطرف والإرهاب، والتي أنتجت الكثير من الخسائر البشرية والمادية، في توسع الحملات الرافضة للفرنسيين في مناطق شاسعة من القارة الافريقية، التي رأى أبناؤها في محاولة فرنسا الجديدة لتثبيت أقدامها تحت دعوى مكافحة الإرهاب، وجهاً جديداً من وجوه إعادة حقبة الاستعمار.
المشكلة ليست في الإسلام، والمسلمين الموجودين في فرنسا، والطرف الذي يجب تحميله المسؤولية هو الدولة الفرنسية، التي دخلت في عداء مع دول وكيانات تبعد عنها آلاف الكيلومترات
في المسألة الإسلامية كان أونفري يطرح سؤالًا منطقياً وهو: ما الذي يضير فرنسا في قرار دولة ما الاحتكام للشريعة، حتى لو كان ذلك الاحتكام لنسخة متشددة منها، وما التهديد الذي يمكن أن تشكله مرجعية شرعية في دولة مثل أفغانستان مثلاً على الأراضي الفرنسية؟ السؤال محرج ولا إجابة له، إلا لدى المؤمنين بوجوب تصادم عالمي للحضارات، أو الذين ما يزالون متأثرين بمنطق الحروب الصليبية، الذي ينظر للإسلام كتهديد يجب احتواؤه، قبل أن يبتلع الدولة. هذه الطريقة السائدة في التفكير هي التي أنتجت ذلك الاختلاط الفريد من نوعه بين العلمانية والثقافة المسيحية الكاثوليكية في الفضاء الاجتماعي والسياسي الفرنسي. آراء أونفري حول الإسلام فريدة، ليس فقط لأن صاحبها لم يتلق تعليماً استشراقياً منهجياً، ولكن أيضاً لأنه ملحد، ما يجعله محايداً، بشكل أقرب للحقيقة، في نظرته للأديان المختلفة، التي يرفض من جهة الانصياع لها، ويؤمن من جهة أخرى بأهميتها وتأثيرها في المؤمنين بها. مع تأكيد أونفري أنه ليس متخصصاً في الإسلام، إلا أننا نلمح لديه إلماماً بالمدارس الفقهية الإسلامية، وبالاختلاف بين المذاهب ووعياً بتاريخ العالم الإسلامي بشكل يفتقر إليه كثيرون، وهو ما يجعلنا نحمل تأكيده هذا على محمل التواضع. نشر ميشيل أونفري أكثر من مئة كتاب، كان آخرها كتابه «حياة وموت الروح» الصادر بداية هذا الشهر. تناولت الكتب موضوعات مختلفة تنوعت بين الفلسفة والسياسة والاجتماع وحظي كثير منها بشهرة ونسبة مبيعات عالية، خاصة تلك التي حاول أن يتلمس فيها أسباب الأفول الفرنسي أو ما سماه «عصر الانحطاط» الحالي.
مع كل ما سبق، إلا أنه يبقى من الخطأ تصنيف أونفري كمتعاطف مع الإسلام، أو كمدافع عن تمدد المسلمين، فهو لا يخفي رفضه «لأسلمة» فرنسا، بما يصل حد الاشتباك والتماهي مع الخطاب اليميني، وإن اختلفت المناهج، وهو ما ظهر في عنوان العدد الثاني عشر من إصدارته «فرونت بوبيلير»، الذي حمل عنوان «طغيان الأقليات» مع عنوان جانبي آخر: «فن تدمير فرنسا». حمل ذلك العدد عناوين لحركات رأت فيها المجلة تهديداً وتدميراً لفرنسا شملت على رأسها «الإسلاموية» وحركات الدفاع عن الهجرة، إلى جانب اتجاهات أخرى كما بعد النسوية و»الترانسجندر» و»الأوروبة». أثارت استضافة أونفري الأخيرة لميشيل ويلبيك، الروائي الفرنسي المثير للجدل، والمعروف بآرائه العنصرية والمتحاملة، زوبعة كبيرة. ذلك اللقاء، الذي أجراه أونفري ضمن نشاطات إصدارته الثقافية، والذي بدا فيه متفقاً ومرحباً بأراء ويلبيك سمح للأخير بترديد وجهة نظره، التي تقسم المواطنيين إلى فرنسيين أصليين ومسلمين، ولقول أشياء من قبيل أن تمدد الإسلام واستيلاء المسلمين على أحياء ومناطق واسعة سوف يدفع «المواطنين الأصليين» لحمل السلاح من أجل القضاء عليهم. أثارت هذه التصريحات استياء واسعا، ما جعل جهات كثيرة، من بينها حزب ماري لوبان اليميني، تعبر عن رفضها لها. أونفري، وبقدر رفضه للغزو الخارجي من أجل تثبيت الثقافة الفرنسية يبدو متفهماً لقلق اليمينيين من انتشار المظاهر الإسلامية واحتلالها للفضاء العام، وهو ما ظهر في إجابة له عن سؤال حول اليميني المتطرف إيريك زمور، حيث قال إن زمور يعبّر عن عودة المكبوت في التاريخ الفرنسي على مدى نصف قرن. مع إيريك زمور، «البعيد عن العادات السياسية المترسخة»، عاد كل ما تم حظره وما كان من التابوهات منذ ما بعد مايو 68.