- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
مدى الفاتح يكتب: فاز أردوغان وخسرت رهانات الإعلام الغربي
مدى الفاتح يكتب: فاز أردوغان وخسرت رهانات الإعلام الغربي
- 30 مايو 2023, 4:24:09 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الأكثر إحباطا من «الطاولة السداسية» ومن أنصار زعيمها كليتشدار أوغلو بعد إعلان نتيجة الجولة الثانية من الانتخابات ربما يكون الإعلام الغربي وكبار كتاب الرأي فيه، من الذين ظلوا يبشرون منذ شهور طويلة بنهاية الحقبة الأردوغانية وخسارة حزب «العدالة والتنمية».
المجلات والصحف الغربية كانت فقدت اتزانها وحيادها ولم تعد تخفي مناصرتها لزعيم المعارضة كليتشدار أوغلو، على غرار ما فعلته مجلة «إيكونومست»، التي عنونت في مقال يحمل صورة كليتشدار نشر قبل أيام من جولة الانتخابات الأولى: «الرجل الذي يستطيع»، وهي العبارة التي تذكر بإرث الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.
كانت نتائج الجولة الأولى، التي فاز فيها أردوغان بالعدد الأكبر من الأصوات (على الرغم من عدم بلوغ نسبة الخمسين زائد واحد) صادمة للكثيرين، فمنذ العام الماضي كانت «إيكونومست» البريطانية، التي تمتلك سمعة عالمية وتعد مرجعا مهما لدى كثيرين، تركز على الوضع الاقتصادي التركي المتردي والمهدد بالانهيار وعلى تراجع سعر الليرة الكبير خلال السنوات الأخيرة، معتبرة أن ذلك ساهم في انخفاض شعبية أردوغان وانفضاض الناس من حوله، ما جعل كثيرا من أنصاره السابقين، وفق التحليل، مرشحين محتملين لدعم التحالف المعارض.
ساهم هذا التركيز على الوضع الاقتصادي الضبابي، والذي سرعان ما لحقت به أضرار إضافية نتجت عن الزلزال الكبير الذي ضرب الجنوب التركي، في بناء قناعة لدى كثير من المحللين بصعوبة عودة أردوغان للمشهد السياسي، حتى بدأ البعض في مناقشة تأثير غياب الرئيس، الذي ظل في سدة الحكم حوالي عشرين عاما، على سياسة تركيا وعلاقتها بدول جوارها.
الإعلام الغربي، الذي لم يكن يخفي ضيقه من الرئيس أردوغان وتمني زواله، كان يحتفي بكل المنافسين والمعارضين
لم تكن «إيكونومست» وحيدة في انتظار نهاية الرجل، فقبل صدمة النتيجة الأولى كانت الصور الساخرة من أردوغان تزين غلاف كبريات الإصدارات الأوروبية والغربية كـ»دير اشبيغل» و»شتيرن» الألمانيتين، و»إلسيفيير» الهولندية، إضافة إلى معظم المجلات الفرنسية وغيرها.
كان الغرض من كل هذا التركيز هو التأكيد على قلة حظوظ أردوغان، مع الترديد المتكرر لكونه مجرد زعيم ديكتاتوري وقامع للحريات. كان الأمر أقرب لصنع حملة مؤثرة على الرأي العام وعلى المحللين من كونه استعراضا أو توقعا. كنا نجد القليل جدا من المقالات أو التغطيات الغربية التي تصب في غير هذا المسار، وهو الأمر، الذي سارعت الواجهات الإعلامية الكبرى لمحاولة تداركه بعد إعلان النتيجة الأولى، حتى تحتفظ ببعض المصداقية.
لاحظنا الأمر ذاته في برامج التلفزيون والحوارات الإذاعية، فحتى حينما كانت تتم استضافة من هو محسوب على تركيا أو على الحزب الحاكم، فإنه كثيرا ما يجد نفسه محشورا في زاوية ومعرضا للتندر والتنمر من قبل الضيوف وأيضا المذيع الذي يعمل على التقليل من قيمة ما يذكره.
من النقاط التي كان يتم الطرق عليها باستمرار ما يعرف بـ»عامل الشباب»، حيث كان الإعلام الغربي، ومن تناقلوا تنظيره، يعتبرون أن الجيل الجديد، الذي ولد مع تقدم «العدالة والتنمية» أو قبل ذلك بقليل، والذي لا يتذكر كيف كان وضع تركيا قبل وصول أردوغان إلى الحكم، سوف يقارن فقط بين فترتين قريبتين وهما فترة الازدهار والصعود، حينما اقتربت الليرة من أن تتساوى مع الدولار والفترة الحالية، التي وصل فيها سعر الدولار الواحد لما يعادل تقريبا العشرين ليرة.
وفق هذه النظرية، فإن أصوات الشباب، الذين يؤمنون بأن الحزب الحاكم هو السبب في هذا التراجع بسبب سياساته وأخطائه وسوء إدارته، كانت ستذهب للأحزاب المنافسة.
الأكيد هو أن هذا لم يحدث بهذا الشكل، بل حدث تنافس في كسب أصوات الشباب في إطار التنافس العام، وهو ما جعل فارق الفوز متقاربا. على ذكر التقارب في نسبة الفوز يمكن القول إن في هذا التقارب، وهذا التشويق، الذي رافق يوم الانتخابات وليلتها الأولى، ثم الإعادة وتسمر الملايين أمام شاشات التلفاز، أبلغ دليل على صدق ونزاهة الانتخابات التركية.
يجب أن نتذكر نحن، الذين نسلم بكل ما يأتي من الغرب، أن ما ينشر في الإعلام الغربي لا يخرج من أن يكون أحد حالين، فهو إما اجتهاد شخصي، وهو ما يجعله خاضعا للأخذ والرد، أو عمل مدفوع برغبة الممولين، وهو في هذه الحالة مسيس بالضرورة، وإن تستر برداء المهنية والحياد.
هذا يعني أنه، وفي الحالين، يجب التعامل مع ما يقدمه ذلك الإعلام بحذر وتمحيص، لأن للتسليم بكل ما ينشر ويذاع أثرا على نفس المتلقي، وإن لم يدرك المتلقي ذلك. هذا هو ما يجعل البعض يتهم الإعلام المسيس بالتدخل في مسار الانتخابات عبر تضليل الرأي العام.
ليس في الأمر مبالغة، فجميعنا نذكر اتهام الأمريكيين لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية في العام 2016 لصالح دونالد ترامب وضد هيلاري كلينتون. حينها لم يكن المقصود أن عملاء روس تدخلوا بشكل مادي وقاموا بتزوير النتيجة أو التلاعب بالصناديق، وإنما كان القصد أن الشائعات التي تم بثها والحسابات الوهمية الكثيرة، التي خلقت رأيا عاما مبالغا فيه أو مزورا، وكذلك صرف أموال على الدعايات السياسية والشائعات المبثوثة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كل ذلك وغيره ساهم في الإطاحة بالمرشحة الديمقراطية.
في الحالة التركية يبدو الأمر مشابها، فالإعلام الغربي، الذي لم يكن يخفي ضيقه من الرئيس أردوغان وتمني زواله، كان يحتفي بكل المنافسين والمعارضين، كما فعلت صحيفة «لوموند» الفرنسية المرموقة، التي خصصت مقالا قبيل الانتخابات للاحتفاء بأوغوز أوغور، وهو صاحب برنامج سياسي ناقد على موقع «يوتيوب» يحمل اسم «الميكرفون الحر»، أو كما تفعل صحف أخرى وهي تدعم بلا مواربة كمال كليتشدار ومشروعه المعارض.
من الصعوبة هنا فصل السياسي عن الإعلامي، وهو ما يفسر ما قاله الرئيس أردوغان في وقت سابق من أن هذه الانتخابات سوف توجه رسالة للأمريكيين وللرئيس بايدن. هذا التصريح يوضح مدى حساسية العلاقة بين البلدين، اللذين يجتمعان تحت مظلة حلف الناتو. نرى أمرا مشابها في العلاقات الملتبسة مع الاتحاد الأوروبي ومع دول مثل السويد، التي ظلت تركيا ترفض ضمها للحلف مذكرة بأنها دولة تستضيف وتحمي أشخاصا مطلوبين لديها بتهم الإرهاب.
نتحدث في العالم العربي كثيرا عن الإعلام، الذي يتسق مع أشواق الممولين، لكن الحقيقة هي أن هذا الأمر ليس قاصرا على منطقتنا أو على وقتنا الحالي، فقبل حوالي ربع قرن نشر فرانسيس سوندرز كتابه «من الذي دفع للزمار»، الذي سرد فيه تفاصيل الحرب الثقافية الباردة مستندا على المثل: «من يدفع للزمار يختر اللحن». حكى الكتاب عن تلاعب المخابرات بالفنون والآداب ساردا أمثلة كثيرة. ما نريد أن نقوله هنا هو أنه، إذا كانت المخابرات تتلاعب بالفنون، فإن سعيها للتلاعب بالرأي العام وبتوجهات الجمهور يصبح في حكم المفروغ منه.
لا يمكن التقليل من دور الصحافة الغربية في توجيه الرأي العام، فيكفي أن يذكر أحد في معرض حديثه أن هذه المعلومة وردت في مجلة كذا أو صحيفة كذا الغربية حتى يُضعِف من حجج من هو أمامه، وذلك للسطوة الكبيرة التي يحظى بها «الإعلام الأبيض» في النفوس. مع ذلك يمكن للانتخابات التركية أن تحمل درسا مفيدا للجميع، للصحافيين الغربيين وللمتلقين في الغرب والشرق أيضا.