- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
معصوم مرزوق يكتب :الشخصية الدولية للفرد
معصوم مرزوق يكتب :الشخصية الدولية للفرد
- 26 مارس 2021, 3:04:44 ص
- 1127
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
إذا كان الفرد قد تنازل عن بعض حريته للمجتمع ، فهو لم يفعل ذلك طواعية إلا للحصول علي حرية أكبر بضمانات محددة ، وتلك هي صيغة العقد الإجتماعي ، وروح هذا العقد لا تنفي خصوصية الفرد كفرد ، أو تلاشيه في كتلة المجموع ، كما أن القدر الذي تنازل عنه من حريته ليس إلا ذلك القدر المحدود الذي يتيح تنظيم الحريات العامة للمجتمع ككل .
فالدولة في النهاية هي جماع مصالح المجتمع ككل ولكل فرد من أفراده ، فماهو الحال إذا أعتدت الدولة أو إحد أجهزتها علي مصلحة قانونية للفرد ؟ ، وإذا افترضنا عجز القوانين المحلية عن إستعادة حقوقه أو تعويضه ، فهل يمكن أن يجد الفرد حمايته في القانون الدولي؟ ، أو بمعني آخر هل يمكن للفرد أن يكتسب الشخصية الدولية INTERNATIONAL PERSONALITY التي تتيح له اللجوء إلي واحدة من آليات حل النزاعات الدولية ؟ ..
يرفض جانب كبير من الفقه الدولي ذلك بشكل قاطع ، علي أساس أنه طالما أن المجتمع الدولي لا يزال يتكون من دول ، فأنها وحدها التي تتمتع بالشخصية الدولية ، وأن القول بغير ذلك يعني سيادة نوع من الفوضي علي المستوي العالمي .
إلا أن الواقع الدولي يكشف أن القانون الدولي يضع علي عاتق الفرد مثل الدولة تماماً العديد من الواجبات والمسئوليات ، ويمكن أن نشير هنا مثلاً إلي محاكمات نورمبرج بعد الحرب العالمية الثانية ، ففيها نشأت المسئولية الدولية لأفراد عن جرائم الحرب بإعتبارها خرقاً للقانون الدولي .
ولقد حاول المحامون تبرئة المتهمين بحجة أن الدولة الألمانية هي وحدها - كشخص من أشخاص القانون الدولي - تتحمل تلك المسئولية ، إلا أن المحكمة قررت : " أن الجرائم المرتكبة بالمخالفة للقانون الدولي قد أرتكبت بواسطة أفراد ، وليس بواسطة كيانات مجردة ABSTRACT ENTITIES ، وأنه لوضع قواعد القانون الدولي موضع التنفيذ فلابد من معاقبة هؤلاء الأفراد علي جرائمهم " …
ومن الواضح في المثال السابق ، أن الفرد - شأنه شأن الدولة - يتحمل المسئولية الدولية ، في واجب إحترام قواعد القانون الدولي ، وهو ما رأيناه أيضاً في محاكمات مجرمي الحرب في البوسنة ، وأيضاً في المسئولية الجنائية للأفراد عن خرقهم لقواعد القانون الدولي الخاصة بالقرصنة أو تجارة الرقيق أو جرائم الحرب .
فإذا كان ذلك قد أصبح بمثابة مبدأ من مبادئ القانون الدولي ، ألا يعني ذلك بالقياس إمكانية تمتع الفرد بالحقوق - كشخص دولي - مثل تحمله بالواجبات ؟ .
واقع الأمر أن لدينا أمثلة تجيب علي ذلك السؤال بالإيجاب ، أبرزها إعلان حقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة ، وعهد الأمم المتحدة لحقوق الإنسان السياسية والمدنية والثقافية والإقتصادية ، وكذلك الإتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان ، فهذه الوثائق الدولية توفر للفرد مجموعة من الحقوق التي تكسبه بإعتراف العالم ثمة شخصية قانونية دولية للمطالبة بهذه الحقوق طبقاً للقانون الدولي .
إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة إكتساب الفرد للشخصية القانونية الدولية ، لأن القانون الدولي قد تأسس علي الإعتراف فقط للدول بتلك الشخصية ، لذلك فقد دأب الفقهاء علي إعتبار الدول هم أشخاص القانون الدولي ، أم الأفراد فهم موضوعه ، فضلاً عن أن مطالبة الفرد بحقوقه يمكنها أن تؤمن من خلال الجهاز القضائي داخل الدولة وطبقاً لقوانينها .
ومع ذلك فأن الإنتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان في بعض الدول ، تستلزم فقهاً دولياً جديداً لوضع تكييف جديد للشخصية الدولية ، خاصة وقد تحول العالم بالفعل إلي قرية صغيرة إنحسر فيها مفهوم السيادة إلي حد كبير ، ولم يعد لدولة أن تتدعي عزلتها أو تكابر في حقوقها فيما يتعلق بسياستها الداخلية ، لأن أولي واجبات الدولة هي حماية حقوق الفرد ، ولا ينبغي عليها أن تعترض علي قواعد قانونية إتفاقية تضمن للفرد المزيد من الحماية .
ويكفي أن نعيد للذاكرة مصير بعض القادة الذين توهموا إمكانية الإفلات من العقاب ، فلاحقتهم اللعنة حيثما حلوا ، ومن ذلك مثلاً ديكتاتور شيلي بينوتشيه الذي حاصرته المطالبات القضائية في أنجلترا وأسبانيا ، وكل أركان نظامه الذين تمت محاكمتهم رغم أنهم حرصوا علي تحصين مواقعهم وأفعالهم بنصوص قانونية ، وهو نفس المصير الذي لاقاه قادة الأرجنتين والبرازيل .
أن صرخة مظلوم واحد في قرية صغيرة معزولة صار يتردد صداها الآن في أرجاء العالم كله ، ولن يجد الظالم ملاذاً يحميه من الملاحقة الدولية الجنائية مهما طال الزمن