معصوم مرزوق يكتب :الشخصية الدولية للفرد

profile
السفير معصوم مرزوق دبلوماسي وسياسي مصري
  • clock 26 مارس 2021, 3:04:44 ص
  • eye 1031
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

إذا كان الفرد قد تنازل عن بعض حريته للمجتمع ، فهو لم يفعل ذلك طواعية إلا للحصول علي حرية أكبر بضمانات محددة ، وتلك هي صيغة العقد الإجتماعي ، وروح هذا العقد لا تنفي خصوصية الفرد كفرد ، أو تلاشيه في كتلة المجموع ، كما أن القدر الذي تنازل عنه من حريته ليس إلا ذلك القدر المحدود الذي يتيح تنظيم الحريات العامة للمجتمع ككل

فالدولة في النهاية هي جماع مصالح المجتمع ككل ولكل فرد من أفراده ، فماهو الحال إذا أعتدت الدولة أو إحد أجهزتها علي مصلحة قانونية للفرد ؟ ، وإذا افترضنا عجز القوانين المحلية عن إستعادة حقوقه أو تعويضه ، فهل يمكن أن يجد الفرد حمايته في القانون الدولي؟ ، أو بمعني آخر هل يمكن للفرد أن يكتسب الشخصية الدولية INTERNATIONAL   PERSONALITY  التي تتيح له اللجوء إلي واحدة من آليات حل النزاعات الدولية ؟ .. 

يرفض جانب كبير من الفقه الدولي ذلك بشكل قاطع ، علي أساس أنه طالما أن المجتمع الدولي لا يزال يتكون من دول ، فأنها وحدها التي تتمتع بالشخصية الدولية ، وأن القول بغير ذلك يعني سيادة نوع من الفوضي علي المستوي العالمي . 

إلا أن الواقع الدولي يكشف أن القانون الدولي يضع علي عاتق الفرد مثل الدولة تماماً العديد من الواجبات والمسئوليات ، ويمكن أن نشير هنا مثلاً إلي محاكمات نورمبرج بعد الحرب العالمية الثانية ، ففيها نشأت المسئولية الدولية لأفراد عن جرائم الحرب بإعتبارها خرقاً للقانون الدولي . 

ولقد حاول المحامون تبرئة المتهمين بحجة أن الدولة الألمانية هي وحدها - كشخص من أشخاص القانون الدولي - تتحمل تلك المسئولية ، إلا أن المحكمة قررت : " أن الجرائم المرتكبة بالمخالفة للقانون الدولي قد أرتكبت بواسطة أفراد ، وليس بواسطة كيانات مجردة ABSTRACT  ENTITIES ، وأنه لوضع قواعد القانون الدولي موضع التنفيذ فلابد من معاقبة هؤلاء الأفراد علي جرائمهم " … 

ومن الواضح في المثال السابق ، أن الفرد - شأنه شأن الدولة - يتحمل المسئولية الدولية ، في واجب إحترام قواعد القانون الدولي ، وهو ما رأيناه أيضاً في محاكمات مجرمي الحرب في البوسنة ، وأيضاً في المسئولية الجنائية للأفراد عن خرقهم لقواعد القانون الدولي الخاصة بالقرصنة أو تجارة الرقيق أو جرائم الحرب . 

فإذا كان ذلك قد أصبح بمثابة مبدأ من مبادئ القانون الدولي ، ألا يعني ذلك بالقياس إمكانية تمتع الفرد بالحقوق - كشخص دولي - مثل تحمله بالواجبات ؟ . 

واقع الأمر أن لدينا أمثلة تجيب علي ذلك السؤال بالإيجاب ، أبرزها إعلان حقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة ، وعهد الأمم المتحدة لحقوق الإنسان السياسية والمدنية والثقافية والإقتصادية ، وكذلك الإتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان ، فهذه الوثائق الدولية توفر للفرد مجموعة من الحقوق التي تكسبه بإعتراف العالم ثمة شخصية قانونية دولية للمطالبة بهذه الحقوق طبقاً للقانون الدولي . 

إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة إكتساب الفرد للشخصية القانونية الدولية ، لأن القانون الدولي قد تأسس علي الإعتراف فقط للدول بتلك الشخصية ، لذلك فقد دأب الفقهاء علي إعتبار الدول هم أشخاص القانون الدولي ، أم الأفراد فهم موضوعه ، فضلاً عن أن مطالبة الفرد بحقوقه يمكنها أن تؤمن من خلال الجهاز القضائي داخل الدولة وطبقاً لقوانينها . 

ومع ذلك فأن الإنتهاكات الفادحة لحقوق الإنسان في بعض الدول ، تستلزم فقهاً دولياً جديداً لوضع تكييف جديد للشخصية الدولية ، خاصة وقد تحول العالم بالفعل إلي قرية صغيرة إنحسر فيها مفهوم السيادة إلي حد كبير ، ولم يعد لدولة أن تتدعي عزلتها أو تكابر في حقوقها فيما يتعلق بسياستها الداخلية ، لأن أولي واجبات الدولة هي حماية حقوق الفرد ، ولا ينبغي عليها أن تعترض علي قواعد قانونية إتفاقية تضمن للفرد المزيد من الحماية . 

ويكفي أن نعيد للذاكرة مصير بعض القادة الذين توهموا إمكانية الإفلات من العقاب ، فلاحقتهم اللعنة حيثما حلوا ، ومن ذلك مثلاً ديكتاتور شيلي بينوتشيه الذي حاصرته المطالبات القضائية في أنجلترا وأسبانيا ، وكل أركان نظامه الذين تمت محاكمتهم رغم أنهم حرصوا علي تحصين مواقعهم وأفعالهم بنصوص قانونية ، وهو نفس المصير الذي لاقاه قادة الأرجنتين والبرازيل . 

أن صرخة مظلوم واحد في قرية صغيرة معزولة صار يتردد صداها الآن في أرجاء العالم كله ، ولن يجد الظالم ملاذاً يحميه من الملاحقة الدولية الجنائية مهما طال الزمن

التعليقات (0)