- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
معضلة تايوان: ما مستقبل التنافس الأمريكي الصيني في أمريكا اللاتينية؟
معضلة تايوان: ما مستقبل التنافس الأمريكي الصيني في أمريكا اللاتينية؟
- 27 مارس 2023, 3:44:04 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
في 14 مارس الجاري، أعلنت رئيسة هندوراس “زيومارا كاسترو”، أن بلادها ستُقيم علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، وهي خطوة من شأنها أن تُؤدي إلى قطع العلاقات الدبلوماسية الطويلة الأمد بين الدولة الواقعة في أمريكا الوسطى وبين تايوان، في حين أن الولايات المتحدة تُقيم علاقات دبلوماسية مع تايوان التي تُعَد واشنطن من أقرب حلفائها وأكبر موردي السلاح إليها، كما أنها تضغط على الدول للحفاظ على اعترافها الدبلوماسي بتايبيه. في المقابل، تعتبر بكين الجزيرة التي تتمتع بالحكم الذاتي جزءاً من أراضيها، ويسعى الرئيس الصيني “شي جين بينج” إلى ترسيخ إرثه من خلال دمج تايوان في جمهورية الصين الشعبية قبل نهاية ولايته الثالثة في عام 2027؛ وذلك بالقوة إذا لزم الأمر، على نحو يُشير إلى اشتداد حدة التنافس الصيني الأمريكي في منطقة أمريكا اللاتينية والكاريبي على كسب النفوذ والدعم للمواقف الدولية، بما في ذلك الموقف من تايوان.
مؤشرات متنوعة
تتعدد المؤشرات الدالة على صعود حضور الصين في أمريكا اللاتينية، ونجاحها في بعض الأحيان في التفوق على النفوذ الأمريكي الراسخ هناك منذ قرون، ومنها:
1– بروز الصين باعتبارها أكبر شريك تجاري لبلدان أمريكا اللاتينية: على مدار العقود الأخيرة، نمت وتطورت العلاقات الاقتصادية والتجارية بين بكين وبلدان أمريكا اللاتينية، ونجحت الصين في التفوق على واشنطن باعتبارها أكبر شريك تجاري لأمريكا الجنوبية. وتُعد الصين حالياً أهم سوق للصادرات من البرازيل وتشيلي وبيرو وكوبا وأوروجواي. إن تجارة الصين مع أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي قفزت من 18 مليار دولار إلى 450 مليار دولار في عام 2022، في الوقت الذي ظلت فيه التجارة الأمريكية ثابتة. ومن المتوقع أن تصل تجارة الصين مع أمريكا اللاتينية إلى 700 مليار دولار بحلول عام 2035.
2– صعود بكين مستثمراً ومقرضاً رئيسياً: في العقدين الماضيين، استثمرت الصين بكثافة في أمريكا اللاتينية التي أصبحت ثاني أكبر متلقٍّ لاستثمارات بكين المباشِرة بعد آسيا، ونما إجمالي الاستثمار الصيني في المنطقة من 12 مليار دولار في عام 2000 إلى 315 مليار دولار في عام 2020. وتتركز هذه الاستثمارات في مشروعات البنية التحتية، والقطاعات الاستخراجية، مع إيلاء اهتمام خاص للنفط والمعادن الاستراتيجية، مثل الليثيوم، إضافةً إلى توقيعها اتفاقات مع 24 دولة في مجال الاتصالات المتقدمة خاصة شبكات الجيلَين الرابع والخامس.
يُعَد بنك التنمية الصيني المملوك للدولة، وبنك التصدير والاستيراد الصيني، من بين المُقرِضين الرائدين في المنطقة؛ فبين عامَي 2005 و2020، أقرضا معاً نحو 137 مليار دولار لحكومات أمريكا اللاتينية. وأدى تبني الصين شروطاً متساهلة، وعدم تشددها بشأن معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلى زيادة جاذبيتها لدى دول أمريكا اللاتينية، باعتبارها مصدراً بديلاً للقروض والاستثمارات ومشتريات السلع الغربية. في المقابل، حذر مسؤولون أمريكيون من أن الشراكة الاقتصادية الصينية المتنامية مع بلدان أمريكا اللاتينية، يمكن أن يقود بعضها إلى الوقوع في “فخ الديون”.
3– شراكة أمنية صينية صاعدة مع دول المنطقة: تُعَد الولايات المتحدة هي الشريك الأمني الرئيسي لبلدان أمريكا اللاتينية، مع العديد من القواعد عبر دول مثل كولومبيا. ومع ذلك، حرصت الصين على تصدير الأسلحة، وكذلك توفير المستلزمات العسكرية في صورة “مِنَح” لجيوش وأجهزة الشرطة في أمريكا اللاتينية، إضافةً إلى تقديم الدورات التدريبية، والمِنَح الدراسية لعناصر من هذه القوات، بجانب قيام بكين بإنشاء محطة مراقبة فضائية في الأرجنتين بالقرب من مضيق ماجلان، وإرسالها بالوناً للمراقبة فوق الأجواء اللاتينية؛ الأمر الذي أثار مخاوف المسؤولين الأمريكيين من أنه في سياق الصراع المحتدم مع جمهورية الصين الشعبية، فإن تشغيل واستخدام بكين البنية التحتية “ذات الاستخدام المزدوج” في أمريكا اللاتينية، جنباً إلى جنب مع تفاعلاتها العسكرية المنتظمة، يزيد احتمال أن تصبح المنطقة ساحة معركة في مثل هذا الصراع، وربما تُتيح الشراكة الأمنية الصاعدة لبكين إمكانية نشر قواتها في بعض بلدان أمريكا اللاتينية أو جمع المعلومات الاستخباراتية المهمة بشأن الأنشطة والعمليات العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة هناك.
4– اهتمام عدد من دول المنطقة بالانفتاح سياسياً على الصين: اللافت أن السنوات الأخيرة شهدت تصاعد اهتمام العديد من دول المنطقة بالانفتاح السياسي على بكين؛ حيث ظهر ذلك مؤخراً مع إعلان هندوراس أن بلادها ستُقيم علاقات دبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية، كما ظهر هذا التوجه مع إعلان الرئيس البرازيلي “لولا دا سيلفا” عن زيارة إلى الصين يوم 25 مارس الجاري. وبالرغم من أن الزيارة أُرجِئت بسبب إصابته “بالتهاب رئوي طفيف”، فإنها عكست التطور الحادث في العلاقات الصينية البرازيلية خلال السنوات الماضية.
دوافع قوية
تتعدد العوامل الدافعة للصين لمنافسة الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي، أو ما يُعرف بـ”حديقتها الخلفية”، ومن أبرزها:
1– مزاحمة النفوذ الأمريكي: تعمل الصين على الاستفادة من تراجع نفوذ واشنطن التقليدي في أمريكا اللاتينية لتعزيز حضورها وترسيخ مكانتها باعتبارها قوةً دوليةً وبديلاً للولايات المتحدة، يحظى بقبول ومصداقية من قِبَل دول المنطقة. أشار الرئيس الصيني في خطاب ألقاه في القمة السابعة لمجتمع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (CELAC) في يناير 2023، إلى أن “دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي أعضاء مُهمِّون في العالم النامي، وتضطلع بدور نشط في الحوكمة العالمية، وتُقدِّم مساهمات مُهمَّة فيها”. في الوقت ذاته، تستهدف بكين الرد على التحرُّكات الأمريكية المتواصلة في شمال شرق آسيا، التي تَعُدها من مناطق نفوذها التقليدي؛ وذلك من خلال إبراز قدرتها على تكثيف حضورها في مناطق النفوذ التقليدية لواشنطن.
2– تحقيق المصالح الاقتصادية: هناك عدد من الدوافع الاقتصادية المحركة للصين لتعزيز صلاتها ببلدان أمريكا اللاتينية، ويأتي في مقدمتها الحصول على المواد الخام (الزراعية والمعدنية)، التي تُشتَهر بها القارَّة اللاتينية، على نحو يُمكِّنها من مواصلة نموها الاقتصادي، ناهيك عن أهمية أمريكا اللاتينية بصفتها سوقاً استهلاكية ضخمة للصادرات الصينية بعدد سكان بلغ عام 2021 نحو 658 مليون نسمة. يُضَاف إلى ذلك، سعي بكين إلى توسيع نطاق مشروعها الطموح الخاص بمبادرة الحزام والطريق، ليشمل دول أمريكا اللاتينية، التي تحتل مكانة محورية في حركة الملاحة الدولية؛ لوقوعها بالقرب من العديد من ممرات الملاحة الدولية، بما في ذلك قناة بنما. ونجحت الصين بالفعل في إقناع 21 دولة في المنطقة بالانضمام إلى المبادرة.
3– عزل تايوان دولياً: كانت الرغبة الصينية الملحة في عزل تايوان وتقليص عدد دول العالم التي تعترف بها باعتبارها دولةً مستقلةً في إطار التزامها بسياسة “صين واحدة”، محركاً قوياً لبكين لتعزيز حضورها في أمريكا اللاتينية والكاريبي، التي تضم حالياً ثماني دول من أصل 14 دولة تُواصِل الاعتراف بتايوان. وفي حين أن الإعلان الأخير لرئيسة هندوراس عن البدء في إقامة علاقات دبلوماسية مع بكين كان تنفيذاً لتعهداتها الانتخابية، فإنه جاء بعد أسابيع من إعلان حكومتها أنها تتفاوض مع الصين لبناء سد لتوليد الطاقة الكهرومائية.
وشددت وزيرة خارجية هندوراس على أن الضرورة الاقتصادية هي التي دفعت البلاد لاتخاذ هذه الخطوة، في ظل عدم استجابة تايوان بأسلوب إيجابي لطلب هندوراس مضاعفة مساعداتها البالغة 50 مليون دولار سنوياً، و”إعادة جدولة” ديونها البالغة 600 مليون دولار للدولة الجزرية.ويُعد موقف هندوراس استمراراً للاتجاه الأخير في المنطقة؛ حيث قامت نيكاراجوا والسلفادور وبنما وجمهورية الدومينيكان وكوستاريكا بتحويل الاعتراف الدبلوماسي إلى بكين التي عرضت على تلك الدول حوافز مالية، بما في ذلك القروض والاستثمارات في البنية التحتية.
محددات المستقبل
هناك عدد من المحددات يمكن أن تُشكِّل مستقبل التنافس الأمريكي الصيني في أمريكا اللاتينية والكاريبي؛ من بينها:
1– التوجهات السياسية لبلدان أمريكا اللاتينية: مع وجود العديد من الشخصيات والأحزاب اليسارية في السلطة في المنطقة، من المرجح أن تُولي حكوماتها اهتماماً متزايداً بتوثيق صلاتها بالصين؛ لتوسيع هامش الحركة المتاح لديها. وخلال قمة الأمريكتين الأخيرة، التي عُقدت في يونيو الماضي بلوس أنجلوس للمرة الأولى، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود، كانت هناك علامات واضحة على تضاؤل قوة الولايات المتحدة بدرجة كبيرة؛ إذ قاطعت أربع دول من أمريكا اللاتينية، بما في ذلك المكسيك، القمة، مستشهدةً بحقيقة أن واشنطن رفضت دعوة كوبا ونيكاراجوا وفنزويلا – وهي ثلاث دول بقيادة حكومات يسارية مناهضة لواشنطن – لحضور القمة.
2– نمط الاستجابة الأمريكية: غالباً ما ينتقد محللو أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي إدارة بايدن؛ لافتقارها إلى استراتيجية تجارية واستثمارية شاملة للتعاون مع بلدان المنطقة. وقد تركت السياسة الأمريكية العدوانية والتدخلية لصالح بعض النظم العسكرية والحكومات الاستبدادية على مدار عقود طويلة، بعض العلامات التي لا تُمحى في الذاكرة العامة في جميع أنحاء المنطقة.
إن خيبة الأمل والاستياء المتزايدين من الولايات المتحدة بسبب هذه التدخلات، سمحت للصين بزيادة نفوذها عبر أمريكا اللاتينية. وإذا استمرت واشنطن في تبني استراتيجية يغلب عليها المقاربة الأمنية (القائمة على تعزيز برامج المساعدة العسكرية والشرطية) في التعامل مع مشكلات بلدان أمريكا اللاتينية، دون إيلاء الاهتمام اللازم بالمساعدة الاقتصادية والعلاقات التجارية أو دعم المجتمع المدني وتعزيز الديمقراطية، فمن المرجح أن تنظر العديد من دول أمريكا اللاتينية إلى واشنطن باعتبارها شريكاً واحداً من بين العديد من الشركاء، لا باعتبارها الشريك الأكثر جاذبيةً بالضرورة، على الأقل فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية.
3– طبيعة الاستراتيجية الصينية: في حين أن الولايات المتحدة ستنجح في الحفاظ على هيمنتها العسكرية الإقليمية، فإن دعوات أمريكا اللاتينية إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب، سوف تغذيها الصين؛ لذلك فإن من المُرجح رؤية تعاون دبلوماسي أوثق بين الصين ودول أمريكا اللاتينية في المنتديات المتعددة الأطراف، مثل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة؛ للحد من نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة. في الوقت نفسه، من المرتقب أن تواصل الصين دفع أجندتها إلى الأمام من خلال عقد شركاتها المملوكة للدولة الصفقات التجارية والشراكات الاستثمارية مع بلدان أمريكا اللاتينية، بما يضمن تحقيق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية.
من جملة ما سبق، يمكن القول إنه في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الدولية السريعة التغير، التي ربما تُمهِّد الطريق لإنشاء نظام عالمي مُتعدِّد الأقطاب بدلاً من هيمنة القوة العظمى؛ تعكف العديد من دول أمريكا اللاتينية على اتباع مسار مستقل، يُجنِّبها الانحياز لصالح قوة دولية دون الأخرى. وفي ظل محاولات الصين التعاون مع روسيا لإقامة نظام دولي متعدد الأطراف، فمن المُرجَّح أن تدعم دول أمريكا اللاتينية هذا الجهد في محاولة لتخفيف الضغوط الأمريكية المفروضة عليها، والحد من تدخلات واشنطن في شؤونها الداخلية. وبدون جهد أمريكي مستدام لتعزيز الشراكة مع بلدان أمريكا اللاتينية، لا يكون مؤقتاً أو مرتبطاً – في الغالب – باندلاع أزمات دولية؛ كالحرب في أوكرانيا، أو تنامي الحضور الصيني في القارة اللاتينية؛ سوف تواصل بكين تعزيز نفوذها في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة.