عصمت سيف الدولة يكتب :مفهوم الأمة فى القرآن الكريم

profile
  • clock 2 أبريل 2021, 10:09:08 م
  • eye 1367
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01


"فصل من كتاب المفكر العربي الدكتور عصمت سيف الدوله عن العروبة والاسلام"

قد يرفض البعض العروبة لأنها علاقة انتماء الى "أمة عربية"، وأن تسمية العرب "أمة" تخصيص غير مبرر اسلاميا، اذ الامة فى الاسلام هى الامة الاسلامية"، فتكون مقولة " الامة العربية" بدعة، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة فى النار؟

ولقد كان نفر ممن يتوهمون أن الاسلام دينهم وحدهم، وأن الانتماء اليه مقصور عليهم دون الناس كافة يتخذون من فهمهم الخاص لدلالة كلمة "أمة" مدخلا الى نفى الوجود القومى للامة العربية باسم الاسلام. ثم يزيد بعضهم ان الانتماء الى الامة العربية هو فى حقيقته انتماء اصطنع اصطناعا لستر مواقف معارضة أو معادية للإسلام، فلنحتكم الى كتاب الله لعلهم يهتدون.

*

1ـ وردت كلمة " أمة " فى أربع وستين آية من آيات القرآن الكريم. وكانت كلها ذات دلالة واحدة الا فى أربع آيات . أولى هذه الايات جاءت فى سورة النحل . قال الله تعالى :" إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين (120). فدلت الامة على أن ابراهيم كان قدوة يؤتم به . وجاءت كلمة الامة بمعنى الأجل فى قوله تعالى :" وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ" (هود: 8) . وجاءت فى آيتين بمعنى العقيدة أو الطريق . قال تعالى :" إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ "( الزخرف: 22) . وقال:" إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ "( الزخرف : 23)

*

فيما عدا ذلك جاءت كلمة أمة فى الآيات الباقيات للدلالة على مطلق الجماعة اذا تميزت عن غيرها أيا كان مضمون المميز . دل على أن الامة جماعة انها فى كل موضع جاءت فى موقع الفاعل الغائب أشير اليها فى الفعل بواو الجماعة. مثل فى قوله تعالى :" وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ"(آل عمران : 104) . وقوله: " وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ " ( الاعراف : 159) . وقوله :" وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ "( الاعراف : 181) . وقوله :" وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا "( يونس : 19) .. ودل على أن الامة مطلق الجماعة أنها قد جاءت فى القرآن دالة على الجماعة من الناس والجماعة من الجن والجماعة من الحيوان والجماعة من الطير . قال تعالى :" قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ " ( الاعراف : 38) . وقال:" وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ "( الانعام : 38) . وبعد أن أخبرنا عن أمر نوح عليه السلام وما اصطحبه فى الفلك من أنواع المخلوقات فى قوله تعالى :" حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ  ".( هود: 40) ، قص علينا ما أمر به نوحا :" قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ ". ( هود : 48) . يعنى الجماعات المتميزة نوعيا من المخلوقات التى اصطحبها نوح معه .

*

2 ـ     ولما كان التمايز يفترض التعدد لتكون الجماعة متميزة عن غيرها علمنا القرآن أن الامم متعددة فى الزمان والمكان . أثبت التعدد أولا  وأرجعه الى مشيئة الله حتى يكف الجدل فى حكمته وأكده فى أكثر من آية، قال:" وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً "( النحل: 93) . وقال:" وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً  "( الشورى :8) . وتحدث عن الامم بصيغة الجمع فى ثلاث عشرة أية أخرى .

أما عن التعدد فى الزمان ففى البدء كان الناس أمة واحدة متميزين " أمة" بأنهم من الناس . قال تعالى :" كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۖ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ ۗ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ " ( البقرة : 213). وقال :" وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ  "( يونس: 19) . فالتعدد بدأ نفاذا لكلمة سبقت من الله بأن تكون الامم متعددة وسيبقى قائما . قال تعالى :" وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ "( هود: 118) . فاذا جاءت الاخرة فانهم أمم متعددة . قال تعالى :" فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ"( النساء: 41) . وقال:" وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا"( النمل: 83). وقال:" وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ"( القصص: 75) . وقال:" وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً ۚ كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ".( الجاثية : 27و28).

ومابين البداية والنهاية تتابع الامم المتعددة على آجال الزمان . لكل أمة أجل معلوم . قال تعالى :" تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ " (البقرة : 134و141) . وقال: "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً "  (الاعراف:34) . وقال:" لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۚ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ" (يونس: 49). وقال:" كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ "( الرعد: 30). وقال:" مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ " (الحجر:5) . وقال:" مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ "( المؤمنون:43). وقال:" وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ "( الانعام: 42). وتكرر قوله هذا أو معناه فى ( النحل:63 والعنكبوت :18 وفصلت : 25 والاحقاف: 18) . وتمايزت الامم بالرسل فتعددت بتعدد الرسل :" وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ "( النحل: 36) . وتعددت بتعدد الرسالات :" كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا "( الجاثية : 28) . وتعددت بتعدد المناسك :" لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ ".( الحج: 67) .

ثم ان القرآن قد علمنا أنه كما تتعدد الامم على مدى الزمان فانها متعددة فى الزمان الواحد، أو كما نقول فى المكان: " قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ "( هود: 48) . فهذه أمم متعددة تواجدت معا فى مكان واحد . وثمة أمم متعددة توزعت فى الارض ، قال تعالى :" وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ "( الاعراف : 168) .

*

3ـ   هذه الآية الاخيرة ـ وفى القرآن غيرها كثير ـ تعلمنا أسباب التعدد فى الزمان والمكان كليهما . اذ هى تطلق كلمة الامة على الجماعة التى تميزت بأنها صالحة كما تطلقها على الجماعة التى تميزت بأنها غير صالحة . فنعرف من الآية أن الجماعة تكون أمة متى اشترك أفرادها فيما يميزهم عن غيرهم بصرف النظر عن مضمون هذا المميز . على هذا الوجه كان الناس أمة بما تميزوا به من كونهم ناسا. تميزوا عن أمة من الجن. وعن أمة من الحيوان. ولما كانت المميزات متعددة فان الامم متعددة بدون تشابه أو تعارض أو تناقض وان اشتركت جميعا فى انها جماعات متميزة. قال تعالى :" وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ "( يونس 47). وقال: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ "( النحل:36) . فدل على أن تلك جماعات كانت متميزة بالكفر فاستحقت رسلا يدعونها الى عبادة الله . أما بعد الرسل فكل المؤمنين برسولهم أمة بما تميزوا به من رسول وكتاب ومناسك. أوضح مثال ما جاء متتابعا من الآيات فى سورة المائدة، قال تعالى: " إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا " (الاية 44) . وبعد أن فصل بعض آيات التوراة فى الآية 45 قال فى الآية 46 :" وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ ". وبعد أن يبين فى الآية 47 حكم الخروج على أحكام الانجيل جاءت الآية 48 لتقول :" وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ". هكذا تحدث القرآن عن الاديان السماوية الثلاثة تباعا ثم قال :" لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً  "( المائدة : 48) . فدل على أنه فى نطاق الامة المتميزة بالايمان بالله يتوزع المؤمنون أمما تتميز كل منها برسولها وشرعتها ومنهاجها. وتصدق دلالة الكلمة فى الحالتين بدون تشابه أو تعارض أو تناقض، اذ أن مناط التميز فى كل حالة مختلف عنه فى الحالة الاخرى.

*

 4ـ   ولأنه لا عبرة فى دلالة " الامة " بمضمون الامر الذى تميزت به الجماعة فأصبحت أمة، فان الجماعة المتميزة بالكفر بالرسالة ومناهضة رسولها هى أيضا أمة . ولقد ذكرنا من قبل قوله تعالى :" وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ "( الاعراف: 168) . نضيف هنا آيات بينات اخر. قال تعالى: " مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ . كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ ۖ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ۖ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ. ( غافر: 4و5) . وقال :" وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ  "( هود: 48) . وقال:"وَإِن تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ " ( العنكبوت : 18) . وقال:" كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ "( الاعراف : 38) . 

*

5 ـ  وقد تكون جماعة من الناس لم تلتق زمانا أو مكانا  ولكنهم يشتركون فى صفة خاصة بهم مقصورة عليهم يتميزون بها عن غيرهم. انهم حينئذ أمة . كذلك أسمت آيات القرآن جميع الرسل والأنبياء أمة واحدة مع أنه ـ سبحانه ـ قد أسمى كل جماعة آمنت برسول منهم أمة . فابتداء من الاية 48 من سورة الانبياء يتحدث القرآن عن الرسل والأنبياء ، فيذكر موسى وهارون ولوطا ونوحا و داوود وسليمان وأيوب واسماعيل وادريس وذا الكفل وذا النون وزكريا ويحيى ثم يقول :" إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ "( الانبياء: 92) . ولم يشتبه هذا أو يتعارض أو يتناقض  مع الحديث عن بنى يعقوب وحدهم على أنهم أمة حين أخبر باشتراكهم فى الايمان بإله أبيهم . فقال تعالى:" أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ "( البقرة :133و134).

واذا كان المؤمنون بكل رسول أمة ، فان منهم من يكونون أمة بما يتميزون به من اشتراك فى نشاط الدعوة أو منسك من مناسك العبادة . فى المعنى الاول قال الله تعالى :" وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ "( الاعراف : 159) . وفى المعنى الثانى قال تعالى :" مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ "( آل عمران : 113) . ويلاحظ أنه عندما أراد أن يتحدث عن جماعة متميزة بالهداية  أو بالتلاوة بين جماعة هى أمة من حيث تميزها  برسولها أو بكتابها أسمى الجماعة الاولى " أمة " وأشار الى الجماعة الثانية بما يميزها ، مكتفيا به فى التعريف بها دون أن يسميها أمة اظهارا للمميزات المقصود اظهارها، وتلك قمة من قمم البلاغة فى القرآن .

على أى حال، فان القرآن قد أسمى الجماعة المميزة أمة حتى حين كان مميزها أمرا لا يتصل بالعقيدة ايمانا أو كفرا. فأسمى الجماعة المتميزة بعلاقة قربى أمة فتعددت الامم بتعدد الفروع ، بعد أن كان قد أسمى كل الاقرباء أمة حين اجتمعوا فتميزوا بأصلهم الواحد . قال تعالى :" وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ "( الاعراف: 159) . هذا هو الاصل . ثم قال :" وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا"( الاعراف : 160) . وهو واضح الدلالة على أنه حيث تتميز الجماعة تكون أمة فى لغة القرآن ، ولا يمنع هذا من أن تكون جزءا من أمة على وجه آخر مما يميز الجماعات .

*

6 ـ    بل ان كلمة أمة تدل على الجماعة ولو لم تتميز الا بموقف واحد فى حالة واحدة . بهذا المعنى أسمى المقتصدين فى الانفاق بدون اسراف أو تقتير أمة. قال:" مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ "( المائدة :66). " . وقال: " وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ "( القصص: 23) . وكلمة الأمة في هذه الآية لا تعنى مجرد الجماعة بل تعنى الجماعة المتميزة بموقف واحد أو حالة واحدة . جماعة تسقى وحدها دون الآخرين . وكانت تسميتهم أمة ابرازا لهذا المميز حتى تبرز الحالة الأخرى التي أخبر بها فى الآية فقال:" .. وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ"( القصص : 23).

*

7 ـ هذه دلالة كلمة " الامة " فى لغة القرآن . وبهذه الدلالة كان المسلمون، كل المسلمين، وما يزالون وسيبقون، أمة واحدة من حيث تميزهم عن غيرهم من الناس بانتمائهم الديني إلي الإسلام ، سواء أخذت كلمة الإسلام بمعناها الشامل الدين كله فى قوله تعالى :" وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ "( البقرة : 127و128) ، أو أخذت بمعناها الخاص بالذين يؤمنون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام .ولقد خاطب القرآن المسلمين بهذا التخصيص وأسماهم أمة . قال تعالى:" كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ "( آل عمران : 110) ، وقال:" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ "( البقرة : 143) . وقال:" وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ. وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ "(آل عمران : 103و104و105).

*

8 ـ    وبهذه الدلالة كانت الأغلبية الساحقة من الشعب العربى ، وما يزالون وسيبقون ، جزءا لا يتجزأ من الأمة الإسلامية التى ينتمى إليها كل المسلمين فى الارض بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وأممهم ودولهم وأوطانهم . لا فضل لاحد منهم على الاخر الا بالتقوى . فى رحاب هذا الانتماء الى الامة الاسلامية يلتقى مئات الملايين من البشر . ولو أن مسلما واحدا قد وجد فى أى أرض ، فى أى شعب ، فى أية أمة ، فى أية دولة ، لكان واحدا من الامة الاسلامية . وما تزال هذه الامة الاسلامية تنمو عددا بمن يهتدى الى الاسلام دينا فى أقطار الارض جميعا .

*

9 ـ   وبهذه الدلالة أيضا، دلالة كلمة الامة فى القرآن ، يكون كل العرب منتمين الى أمة عربية واحدة ، حيث يكون مميزهم عن شعوب وأمم اخرى ما يميز الامم عن الشعوب والقبائل ، أو ما يميز الامم بعضها عن بعض من وحدة اللغة كما قال فختة الالمانى ، او وحدة الارض والاصل والعادات واللغة والاشتراك فى الحياة والشعور كما قال مانتشينى الايطالى، أو وحدة  الرغبة فى الحياة المشتركة كما قال رينان الفرنسى، أو وحدة التاريخ واللغة والحياة الاقتصادية والثقافية المشتركة كما قال استاذنا أبو خلدون ساطع الحصرى ، أو كان مميز الامة أنها " مجتمع ذو حضارة متميزة ، من شعب معين مستقر على أرض خاصة ومشتركة تكون نتيجة تطور تاريخى مشترك ".. كما اجتهدنا فقلنا .. لا يهم هذا الخلاف فى بيان عناصر التميز القومى للامة . المهم أنه حيث يوجد المميز القومى لجماعة من الناس يصح فى لغة القرآن كتاب المسلمين ، أن تسمى الجماعة أمة ، ولا ينكره عليها مسلم وهو مسلم ، مادام لا ينكر المسلم وهو مسلم أن كل جماعة متميزة حتى من الدواب هى " أمة ". والأمة كما تتميز بوحدة العلاقة القومية ، لا تتشابه ولا تتعارض ولا تتناقض مع الامة كما تتميز بوحدة العلاقة الدينية . فلا تتشابه ولا تتعارض ولا تتناقض " الامة العربية " مع" الامة الاسلامية " ، كما لا تتشابه ولا تتعارض ولا تتناقض الامة الفرنسية والامة الانكليزية والامة الالمانية والامة الايطالية … مع كون كل هذه الامم تنتمى عقيدة الى الامة المسيحية. كل من الانتماءين قائم ، ولكن كل منهما ذو مضمون مختلف .

*

10 ـ   مرتان فى التاريخ الذى نعرفه قيل غير ما نقول . قيل ان للانتماء الدينى والانتماء القومى مضمونا واحدا وأن لكل دين أرضا ولكل أرض دينا . وكان العرب هم الضحايا فى المرتين . أما المرة الاولى فحينما اشتعلت الحروب على امتداد الارض الاوروبية بين امراء الاقطاع كل يريد أن يزيد مساحة اقطاعيته . فقال لهم البابا أربان الثانى :" ان الارض التى تقيمون عليها لا تكاد تنتج ما يكفى غذاء الفلاحين ، وهذا هو السبب فى اقتتالكم ، فانطلقوا الى الاماكن المقدسة ، وهناك ستكون ممالك الشرق جميعا بين أيديكم فاقتسموها ". لم يكن للدين المسيحى شأن بما يقتتل من أجله أمراء الاقطاع فقد كانوا جميعا مسيحيين ، ولم يكن لما نصح به البابا شأن بالمسيحية دين المحبة والسلام ، وانما كان للمؤسسة الكنيسة التى يرأسها البابا شأن بالأرض التى خربها القتال فقد كانت شريكة فى ريعها . وكان القائل والمستمعون اليه يعرفون ألا شأن للمسيحية بما قيل . فقال أحد الفرنسيين حينئذ انها دعوة الى أن يستغل الفرنسيون الدين. وقد استغل الفرنسيون وغير الفرنسيين الدين ليقنعوا الشعوب بأن تقدم أبناؤها ضحايا على مذابح أطماع الامراء الاقطاعيين. كيف ؟ بمقولة بسيطة ، كالناس فى ذاك العصر: ان نشأة المسيحية فى فلسطين تعنى ملكية المسيحيين لفلسطين فعليهم استعادتها من الغزاة المسلمين . وهكذا وحد المعتدون بين مضمون الانتماء الى المسيحية ومضمون الانتماء الى أرض فلسطين، وبدأت الحروب الصليبية التى استمرت قرنا كاملا ( من عام 1096 الى عام 1192) وذهب ضحيتها آلاف البشر. وما توقفت اذ توقفت الا حينما استطاع العرب، مسلمين ومسيحيين، أن يقنعوا الاوروبيين، بالاسلوب المناسب، بألا جدوى من الخلط بين الانتماء الى العقيدة والانتماء الى الار ض ، فتحررت الارض العربية . فهل يتبنى المسلم الافكار الصليبية ؟.

وأما المرة الثانية ، فحينما أراد المختلفون من يهود أوروبا أن يخرجوا من عزلتهم القبلية " الغيتو" ، وأرادت الرأسمالية النامية فى أوروبا أن تسخرهم عازلا بشريا يحول دون وحدة الامة العربية ويحرس المصالح الإمبريالية ، فصاغوا جميعا ما يعرف " بالصهيونية " . وليست الصهيونية الا فكرة متخلفة تخلف سكان الغيتو ، تقول: ان كل من توحدوا دينا لهم الحق فى أن يتوحدوا وطنا ودولة . وهى فكرة قابلة للاستعارة ولو تغير مضمونها اليهودى . فكل زعم أن الانتماء الى الدين يلد حقا فى الارض، بصرف النظر عن الانتماء القومى الى الامة او الانتماء الوطنى الى الدولة ، هو فى حقيقته المذهبية " صهيونى" ولو لم يكن يهوديا ، وهم كثير . كما أن من ينكر هذا المذهب لا يكون صهيونيا ولو كان يهوديا ، وهم كثير أيضا . ولما كان لابد لكل دولة من أرض ( وطن) ، فقد اختار الرأسماليون الاوربيون والصهاينة من اليهود أرض فلسطين اختيارا" صليبيا ". ان نشأة اليهودية فى فلسطين تعنى عندهم ملكية فلسطين لليهود ، فعليهم استعادتها من الغزاة العرب . وهكذا وحد المعتدون بين مضمون الانتماء الى اليهودية ومضمون الانتماء الى أرض فلسطين وبدأ الصراع العربى الصهيونى ، وما يزال مستمرا ، ولن يتوقف الا حينما يستطيع العرب ، مسلمين وغير مسلمين ، أن يقنعوا الصهاينة ، بالاسلوب المناسب ، بألا جدوى من الخلط بين الانتماء الى العقيدة والانتماء الى الارض ، فتتحرر الارض العربية . فهل يتبنى المسلم الافكار الصهيونية ؟.

الحمد لله . لايقوم ، اذن ، لدى الشعب العربى سبب للتشابه أو التعارض أو التناقض بين العروبة والاسلام . ومع ذلك ، أو بالرغم من ذلك ، فان الشعب العربى فى حاجة الى الحديث عن العلاقة بين العروبة والاسلام .

ولهذا حديث آخر إن شاء الله


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)