- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
هاكان فيدان.. كيف أصبح رجل الظل قائدا للدبلوماسية التركية؟
هاكان فيدان.. كيف أصبح رجل الظل قائدا للدبلوماسية التركية؟
- 7 يونيو 2023, 4:41:57 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لا أحد يعلم ربما ما دار في رأس هاكان فيدان قبل ساعات، عندما أعلن الرئيس التركي أردوغان اسمه رسميا لتولي وزارة الخارجية، معلنا بذلك خروج الرجل الذي اعتاد دائما على العمل وراء الكواليس إلى دائرة الضوء. من المرجح أن الرجل تدافعت في ذهنه أفكار متضاربة حول الماضي والحاضر والمستقبل القريب، ولا شك أنه استحضر ضمنها اللحظة الأهم والأصعب ليس في مسيرته فحسب، ولكن في تاريخ تركيا السياسي بأسره في العقود الثلاثة الأخيرة.
كان اليوم يوم جمعة، جمعة حارة وشديدة الرطوبة كما هي عادة أيام الصيف في مدينة إسطنبول، والكُل ينتظر غروب الشمس بعد نهار صيفي طويل أملًا في انخفاض الحرارة ولو بضع درجات في المساء، ومن ثم الاستمتاع بليلة الجمعة قبل استقبال عُطلة نهاية الأسبوع، لكن أحدًا لم يستمتع هذه الجمعة أبدًا، فهي ليلة ساخنة وطويلة طالت كل دقيقة فيها وكأنها يوم كامل، وأفسدت على الجميع الاستمتاع بعُطلة السبت والأحد المعتادة قبل العودة لأعمالهم.
بينما سَرَت الحياة على طبيعتها خارج أسوار مكتبه، كان هاكان فيدان رئيس الاستخبارات التركية يجلس في مكتبه وقت الظهيرة بعد أن وصلته الأنباء عن نية عدد من الضباط القيام بانقلاب صباح اليوم التالي، فقرَّر الاجتماع بعدد من كبار قيادات الجيش في تمام الساعة الثالثة عصرًا لاتخاذ الإجراءات اللازمة، وهي إجراءات انتشرت بين كافة الضباط بحلول الساعة السادسة: يُمنع بتاتًا أي طيران عسكري حتى إشعار آخر، وتُمنع حركة أية معدات عسكرية من مواقعها.
وجد "هاكان فيدان" نفسه في أتون جدل غير مسبوق بعد محاولة الانقلاب عام 2016، تارة باعتباره الشخصية الحاسمة في كسر الانقلاب، وتارة أخرى باعتباره متقاعسًا لعدم إبلاغه الرئيس فور علمه بالمخطط في الظهيرة. (الأناضول)
سرعان ما أدرك الانقلابيون بأن الإجراءات تعني ببساطة انكشاف مخططهم، وتحوُّلهم من مُدبري انقلاب سيتم فجر اليوم التالي والجميع نيام، إلى قُطب في صراع مع من كشفوا مخططهم وبات بحوزتهم تقريبًا نصف يوم لتدبير حراك مضاد لوقف الانقلاب، وهي مدة طويلة نسبيًا كما رأوا، ومن ثمَّ قرَّروا أن المخرج الوحيد هو تقليص هذه المُدة، والتبكير بالتحرُّك في المساء بدلًا من فجر اليوم التالي.
كتبت تلك اللحظة وما تلاها وقائع سقوط الانقلاب بجميع خطواته الواحدة تلو الأخرى، فالدبابات التي كان لها أن تتحرك في الفجر، لفتت أنظار الجميع وهي على جسر البوسفور في المساء، والضباط الذين أوكل لهم محاصرة أردوغان في فندقه بمدينة مرمريس كانوا قد قطعوا اتصالهم بعد الظهيرة مع قيادتهم وفقما أملت الخُطة، ومن ثم فاتهم كل ما استجد من أنباء، والتي وصلت لأردوغان نفسه بعد تحرُّك الانقلابيين، فاستقل طائرته وألقى مكالمته الشهيرة عبر "فيس تايم"، وهي مكالمة جرت فقط نتيجة لفشل الانقلابيين في الاستحواذ على مقر شركة "تُركسات" المسؤولة عن الاتصالات.
ساعات حاسمة كتبت انتصار الحراك المُضاد للانقلاب، وتلتها على مدار أيام دعايات المنتصرين كما هي سُنة السياسة دومًا، فقد تزيَّنت إسطنبول بصور الذين راحوا ضحايا مواجهة الانقلابيين، وظهرت للنور بطولاتهم في الصُحف، مُضافة لمواقف واضحة داعمة للحزب الحاكم من شخصيات لفتت النظر دومًا باعتبارها غير متوافقة مع الرئيس مثل "عبد الله غُل" و"أحمد داوود أوغلو"، بل وأقطاب المعارضة أنفسهم من العلمانيين والقوميين والأكراد على السواء.
اتجهت الأضواء لكُل هؤلاء إلا واحد هو هاكان فيدان، فالرجل الذي لعب دورا رئيسيا في مواجهة الانقلاب وجد نفسه في أتون جدل غير مسبوق، تارة بوصفه الشخصية الحاسمة في كسر الانقلاب وكشفه، وتارة أخرى بوصفه مُتقاعِسا لعدم إبلاغه الرئيس فور علمه بالمخطط في الظهيرة، والأهم لعدم اكتشافه وجود مخطط ضخم كهذا في وقت سابق؛ فهل كان اكتشافه للانقلاب قبل نصف يوم إنجازا أم استهتارا إذن؟ وهل كان ما جرى يوم الخامس عشر من يوليو/تموز دليلا على ولائه للرئيس، أم استقلاله برأيه في التخطيط والعمل منفردا مع قيادات الجيش؟ أم ربما كليهما في آن؟
هاكان: طموحات خارج الصف
ستتيح المهمة السياسية والإدارية الجديدة التي تولاها فيدان عام 2010، إلى جانب الثقة الكبيرة التي وضعها فيه أردوغان، للرجل أن ينفّذ كل ما خطته يداه في رسالة الماجستير عن إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات. (الأناضول)
الطائرة على وشك الإقلاع إلى مدينة مونشنجلادباخ الألمانية، حيث تقبع قاعدة راينلاند البريطانية، التي تستخدمها القوات التابعة لحلف الناتو كما جرت العادة منذ أيام الحرب الباردة التي انتهت لتوِّها. في أحد المقاعد جلس هاكان فيدان، ضابط الصف التركي الشاب، متحمسا لأول رحلة يقوم بها للخارج، بعد سنوات من العمل كفني كمبيوتر في وحدة معالجة البيانات الأتوماتيكية التابعة للجيش التركي.
ثلاث سنوات قضاها هاكان في إدارة الاستخبارات بمقر قوات التدخل السريع لحلف الناتو بألمانيا، واقتنص فيها فرصة الحصول على شهادة جامعية بالالتحاق بجامعة ماريلاند كوليدج الأمريكية، التي تملك فروعًا في بلدان عدة لتمنح الضباط الأمريكيين فرصة الدراسة وهم بمهامهم العسكرية بالخارج، وهي سنوات اكتشف فيها هاكان أيضًا شغفه بالعلوم السياسية والإدارية، وعدم انسجامه مع فكرة الاستمرار في المؤسسة العسكرية.
عاد هاكان إلى أنقرة محمَّلا بالكثير من الأفكار والطموحات والتجارب التي لم تناسبه أبدا كضابط صف تركي، ومن ثم اتجه لنيل درجة الماجستير في جامعة بيلكَنت المرموقة بالتوازي مع عمله العسكري، وحصل عليها عام 1999 برسالة عن دور الاستخبارات في السياسة الخارجية التركية، ومقارنة دورها الخارجي الهزيل آنذاك مع الاستخبارات البريطانية والأمريكية، والدروس المستفادة من هذين النموذجين.
سيطرت على هاكان عوالم الاستخبارات والعلاقات الخارجية منذ عودته من ألمانيا، فقرر أخيرا ترك المؤسسة العسكرية رسميا عام 2001 بعد خمسة عشر عاما من العمل فيها، واتجه للعمل مستشارا سياسيا واقتصاديا للسفارة الأسترالية في أنقرة لعامين، وهي فترة قام فيها برحلات شتى للخارج، وبدأ نشاطات أكاديمية مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومعهد نزع السلاح التابع للأمم المتحدة، ومركز بحوث وتدريب ومعلومات التحقق في لندن.
في عام 2010، تم تعيين "هاكان" أخيرا رئيسا للمخابرات التركية، فأصبح في وقت قصير "كاتم أسرار أردوغان" كما وصفه الرئيس نفسه ذات يوم. (الأناضول)
وبينما خطا هاكان خطواته الواثقة بعيدا عن المؤسسة العسكرية، كانت تركيا تخطو هي الأخرى خطواتها بعيدا عن هيمنة الجيش. وحين ترك هاكان عمله بالسفارة الأسترالية عام 2003، كان أردوغان ورفاقه قد وصلوا إلى السُلطة، وصاحب وصولهما تزايد الحديث عن دور جديد لتركيا وأحلام العودة سياسيا للشرق. في عام 2003، وصل فيدان إلى محطة ترضيه ومقعد يستوعب طموحاته عن دور تركيا الخارجي، وتربَّع على عرش المؤسسة المسؤولة عن دور تركيا الناعم الاقتصادي والثقافي في العالم (تيكا)، التي تأسست عام 1992 بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، بالتزامن مع رغبة تركيا الاهتمام ببلدان آسيا الوسطى والقوقاز وتعزيز الروابط الثقافية والدينية بينها وبين بلدانها. ولكن فيدان سرعان ما أخذ تيكا لما هو أبعد من ذلك، وجلب نشاطات الأتراك لشتى أنحاء العالم العربي وأفريقيا.
في تلك الفترة، لفت فيدان الأنظار بين قادة العدالة والتنمية وعلى رأسهم أردوغان، لا سيَّما وقد شاركهم الاهتمام بالشرق الأوسط والفضاء السوفيتي السابق، كما شاركهم الرغبة في خلق مسافة مع الولايات المتحدة وإسرائيل أصحاب التعاون الاستخباراتي الوطيد مع تركيا في الماضي، وتعزيز الروابط الاستخباراتية مع إيران، وخاصة بعد تنامي دورها العسكري نتيجة سقوط نظام صدام حسين.
رغم نجاحات فيدان في تيكا، ثبت سريعا أنها ليست كبيرة بما يكفي لطموحاته، وليست هي بالضبط الموقع الأكثر ملاءمة لإمكانياته، فالرجل الذي عمل بمجال الاستخبارات العسكرية لم يكون الأنسب ليكون وجه تركيا الناعم في نهاية المطاف رغم اهتمامه بدورها الخارجي، وملامحه الجادة وطبيعته الرتيبة لعلها كانت أكثر انسجامًا مع توليه مهمة سياسية وإدارية من الطراز الرفيع كما أراد دومًا، وليس مهمة دبلوماسية تأخذه حول بلدان العالم المختلفة.
بينما تنامى دور فيدان وتجاوز مقعد تيكا الصغير، وتزايدت ثقة أردوغان ورجال الحزب الحاكم فيه، انفتحت أمامه البوابة التي طالما أرادها، والفرصة التي حلم بها كي يُنفِّذ كل ما خطته يداه في رسالة الماجستير عن إعادة هيكلة جهاز الاستخبارات، وبلورة دور واضح وفعال له في السياسة الخارجية. ففي عام 2010، تم تعيينه أخيرا رئيسا للمخابرات التركية، فأصبح في وقت قصير "كاتم أسرار أردوغان" كما وصفه الرئيس نفسه ذات يوم، وهو تعيين أتى بوصفه خبرا تعيسا لإسرائيل بطبيعة الحال، التي لم تُخفي قلقها، حيث قال رئيس الوزراء الإسرائيلي "إيهود باراك" حينها بأن وصول فيدان إلى رأس المخابرات التركية "تطور مُقلِق"، وأن الرجل تبنَّى موقفا مؤيدا لإيران أثناء عمله داخل أروقة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
هاكان: هُنا أنقرة
قرر فيدان في السابع من فبراير/ شباط 2015، أن يقلب الساحة السياسية التُركية رأسًا على عقب، ليعلن استقالته من منصبه على رأس جهاز الاستخبارات، وترشّحه للبرلمان على قائمة حزب العدالة والتنمية الحاكم في انتخابات يونيو/ حزيران. (الأوروبية)
شديدة الملل هي مدينة أنقرة العاصمة التُركية، حتى أن الأتراك يقولون بأن أجمل ما فيها هي الطرق السريعة المؤدية لإسطنبول، فلا شيء جميل هنا إلا ما يُبعدك عن تلك المدينة الرمادية كما تُعرف، والتي لم تتجاوز كونها بلدة صغيرة حتى مطلع القرن العشرين، حين قرر مؤسسو الجمهورية نقل العاصمة إليها، وتدشين كافة مؤسسات الدولة الوليدة هناك، ومن ثم نمت المدينة مع توافد موظفي البيروقراطية والجيش القاطنين فيها، وهي شريحة سكانية ساهمت في طابعها الثقافي الرتيب والجديّ.
هنا وُلِد ونشأ هاكان فيدان، وهو أمر تعكسه شخصيته بوضوح، فالرجل لا يظهر أو يتحدث إلا نادرا، ولا تتسم أحاديثه القليلة بأي حيوية، بل يعمل في صمت وانضباط كما يشهد له زملاؤه في الجامعة منذ كان طالبا للماجستير ثم الدكتوراه، وهو أمر تشي به لغته الرتيبة في رسالتيه لنيل الشهادتَيْن.
من أنقرة، حيث لا تاريخ تقريبا، وحيث عُزلة جغرافية عن بحار العالم وأحداثه الكبرى، وحيث مؤسسات عملت بدأب منذ ما يقارب القرن في كنف نظام جمهوري صارم عزم على قطع صلته بتاريخه وجواره الجغرافي، أتى فيدان واعيا بضرورة تغيير الكثير من كل ذلك الإرث، لكنه لم يفلت أبدا من روح أنقرة، فهي تَسِم رؤيته ودراساته وطبيعته الشخصية وطموحاته، التي لم تتجاوز حدود مدينته الحديثة وإرث مؤسساتها ورتابة موظفيها.
لعل الاستثناء الوحيد كان سنواته الثلاث في قاعدة راينلاند بألمانيا في التسعينيات بعد نهاية الحرب الباردة، التي لفتت انتباهه لعملاقيْ الاستخبارات الغربيَّيْن، الولايات المتحدة وبريطانيا، ولاستراتيجيات الدول الغربية الكبرى والتوتر بين ألمانيا المُوحَّدة لتوِّها وروسيا. ولعلها لفتت نظره أيضا ولو قليلا لأهمية الأسئلة الكبرى بخصوص الجغرافيا والتاريخ والهوية والأيديولوجيا. ورغم طبيعته الهادئة تلك، قرَّر فيدان في السابع من فبراير/ شباط 2015 أن يقلب الساحة السياسية التُركية رأسًا على عقب، وأعلن استقالته من منصبه على رأس جهاز الاستخبارات، وترشُّحه للبرلمان على قائمة حزب العدالة والتنمية الحاكم في انتخابات يونيو/ حزيران، وهو إعلان تبعته تكهُّنات بتعيينه من جانب رئيس الوزراء آنذاك داوود أوغلو في منصب وزير الخارجية.
بحكم منصبه كرئيس لأرفع جهاز أمني، وبسبب ثقة أردوغان فيه، تمتع الرجل بصلاحيات شبه مُطلقة لإعادة رسم دور جهاز الاستخبارات، ليلعب دورا مركزيا مشابها لدور الاستخبارات المركزية الأمريكية. (الأناضول)
على اختلاف الطبائع والاهتمامات بين الرجلين، إلا أن العلاقة بين داوود أوغلو وفيدان ظلت في الحقيقة علاقة وطيدة، وهي علاقة لم تنسجم مع مزاج أردوغان طول الوقت، رغم ولاء الرجلين لقيادته. لذلك، لم يمضِ وقت طويل حتى عبَّر "السلطان" عن سخطه على تلك الخطوة التي جرت دون موافقته. فقد أعلن أردوغان حينها بكُل صراحة بأنه لا يرغب في رؤية فيدان خارج منصبه بجهاز الاستخبارات، لا سيما وهو المسؤول عن ملفات محورية مثل إدارة الملف السوري، والتفاوض مع حزب العمال الكردستاني، وتطهير جهاز الدولة من أتباع فتح الله كولن، وإعادة هيكلة المنظومة الاستخباراتية والأمنية، وهي مهام لم يعتقد بأن هنالك أكفأ من فيدان للقيام بها في ذلك الوقت.
على مدار شهر كامل ظلت التكهنات حول فيدان هي الشغل الشاغل للسياسة التُركية، لكن إرادة أردوغان هي التي انتصرت في نهاية المطاف، وعاد الرجل لمنصبه الأصلي بعد شهر واحد فقط من تلك الخطوة، ورحل داود أوغلو بعد ذلك بعام واحد. ومنذ ساعتها، التزم فيدان ساحته التي يعرفها جيدا، هناك في أنقرة، غارقا في دهاليز وخرائط المؤسسات التركية في العاصمة، وبعيدا عن ضجيج السياسة الصاخب في إسطنبول.
لعل فيدان الشخص الأكثر علما بدهاليز الدولة التُركية اليوم، وبحكم منصبه كرئيس لأرفع جهاز أمني، وبسبب ثقة أردوغان فيه، تمتع الرجل بصلاحيات شبه مُطلقة لإعادة رسم دور جهاز الاستخبارات، ليلعب دورا مركزيا مشابها لدور الاستخبارات المركزية الأمريكية داخل الولايات المتحدة وخارجها، وهو النموذج الذي تطلع له فيدان في عالم يبدو واضحا عدم جدوى المؤسسات العسكرية النظامية فيه بقدر المؤسسات الاستخباراتية والأمنية. وبعد 13 عاما من عمله على رأس الاستخبارات، أتت من جديد فرصة فيدان ليُمارس مهام تنفيذية أكثر ويلعب دورا حكوميا وسياسيا أبرز، لكن هذه المرة بموافقة ومبادرة رئيسه أردوغان.
هاكان: الخروج من الظل
أعطى أردوغان أخيرا الضوء الأخضر لفيدان للخروج من ظل بيروقراطية أنقرة، وتولي وزارة الخارجية وهو منصب صاحب تاريخ قريب في خلافة الرئيس أو رئيس الوزراء. (الأناضول)
ينتمي فيدان إلى ما يمكن أن نسميه عالم أنقرة، وهو عالم بيروقراطي نظامي مختلف عن عالم إسطنبول الذي تلعب فيها النوستالجيا العثمانية والعواطف الإسلامية دورا كبيرا، وربما يكون هذا هو ما جعله مختلفا ومكَّنه من أداء دوره الحاسم وراء الكواليس على أكمل وجه. فعلى مدار السنوات التي قضاها هاكان على رأس الاستخبارات، لا سيَّما بعد محاولة الانقلاب العسكري في يوليو/تموز 2016، راقب فيدان من بعيد تحولات الدولة التركية دون أن يبدي رأيه فيها بالضرورة، بل يمكن القول إن الرجل هو من كان يحمي ظهور السياسيين، وفي مقدمتهم الرئيس نفسه، بينما يخوضون هذه التحولات.
لكن الأمور لا تبقى على حالها حتى النهاية، وبينما يخطو أردوغان نحو فترته الرئاسية الأخيرة، تتزايد التساؤلات حول ملامح الدولة التي يريد أن يتركها وراءه، وتتزايد الأحاديث أيضا عن خليفته المُحتمل. في تلك اللحظة، توارت الكثير من الأسماء التي نُظِر إليها باهتمام في السنوات الماضية مثل وزير الدفاع "خلوصي أكار" الذي ترك منصبه في الحكومة الجديدة لصالح "يَشار كولر"، ووزير الداخلية القومي "سليمان صويلو"، الذي رحل عن منصبه، وقيل أن حزب الحركة القومية تململ من إقالته.
وحدها الأيام ستكشف ما إن كان تعيين هاكان فيدان مجرد نقلة له في سُلَّم الملفات الخارجية والاستخباراتية، أم أنه يحمل مباركة الرئيس كي يخلفه على رأس الدولة. (رويترز)
يبدو إذن أن الرئيس سيصبح أقل احتياجا للقوميين في السنوات الخمس القادمة بعد أن رسَّخ هيمنة حزبه حتى عام 2028، ولعله يرى أن الفرصة باتت سانحة لإعادة تعريف العديد من السياسات التركية، وأهمها السياسة الاقتصادية التي جلب لها "محمد شيمشك" وزير المالية بين عامي 2009 و2015، وربما يرى في المرحلة القادمة أيضا فرصة لتقليص نفوذ القوميين في حكومته. في تلك اللحظة، أعطى أردوغان أخيرا الضوء الأخضر لفيدان للخروج من ظل بيروقراطية أنقرة، وتولي وزارة الخارجية، وهو منصب صاحب تاريخ قريب في خلافة الرئيس أو رئيس الوزراء، حيث تقلَّده عبد الله غُل لمدة أربع سنوات قبل توليه رئاسة الجمهورية، وتقلَّده أحمد داوود أوغلو خمسة أعوام قبل أن يصبح رئيسا للوزراء عام 2014، كما تقلَّده علي باباجان أحد نجوم العدالة والتنمية سابقا وأبرز المنشقين عن الحزب في السنوات الأخيرة.
ليس التاريخ القريب وحده، بل والتاريخ البعيد أيضا يعِج بأسماء وزراء الخارجية الذين سرعان ما وصلوا إلى رأس السلطة التنفيذية، ومنهم "عصمت إينونو" رفيق مؤسس الجمهورية أتاتورك الذي تولى الوزارة في العامين الحرِجَيْن لتأسيس الجمهورية (1922-1924). وكذلك "مسعود يلماز" وزير الخارجية تحت قيادة الرئيس الراحل "توركوت أوزال" الذي شغل المنصب بين عامي 1987 و1990 قبل أن ينتقل إلى رئاسة الوزراء لأكثر من مرة في التسعينيات، وتزعَّم حزب "الوطن الأم" بعد رحيل أوزال عام 1991 وحتى عام 2002 حين صعد العدالة والتنمية وتوارت الأحزاب المحافظة القديمة إلى خلفية المشهد.
وحدها الأيام ستكشف ما إن كان تعيين هاكان فيدان مجرد نقلة له في سُلَّم الملفات الخارجية والاستخباراتية، أم أنه يحمل مباركة الرئيس كي يخلفه على رأس الدولة، لا سيَّما وهو مُرشَّح منذ عام 2016 لكي يكون أحد قادة العدالة والتنمية. حتى اللحظة لا يبدو أن الرجل يمتلك حضور الرئيس أردوغان وخطاباته المؤثرة، بيد أنه يحمل وزنا لا يستهان به على صعيد التصوُّرات والطموحات السياسية لإعادة تأسيس الدولة ودورها في محيطها. وللمفارقة، فإن تركيا لم تمنح ثقتها دوما لأصحاب الحضور الطاغي والكاريزما بقدر ما منحتها لأصحاب الاتجاهات السياسية ذات الشعبية والخبرة الإدارية والبيروقراطية الثقيلة، مثلما فعلت من قبل مع "عدنان مندريس" و"بولنت أجاويد" وتوركوت أوزال، ولعل هذا التقليد القديم يسري على هاكان فيدان في نهاية المطاف.