-
℃ 11 تركيا
-
25 فبراير 2025
خالد سعد يكتب:حامل الراية بين الأمانة والاصطفاء
خالد سعد يكتب:حامل الراية بين الأمانة والاصطفاء
-
25 فبراير 2025, 2:49:43 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
الراية بين الأمانة والمسؤولية
الحمد لله الذي رفع راية الحق وأقام عليها عباده الصادقين، وجعل حملها شرفًا لمن اختاره واصطفاه، والصلاة والسلام على من كان حامل لواء التوحيد، قائد الغر المحجلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
ففي زمن تكثر فيه الفتن، وتتنازع الأهواء قلوب العباد، وتزدحم الدنيا بمغرياتها، يبقى حامل الراية هو ذاك المؤمن الثابت، الذي أبى أن يبيع دينه بعرض من الدنيا، ورفض أن يكون من المذبذبين بين المواقف، فعاهد الله على السير في طريق الحق، متمسكًا بعهده، ثابتًا على مبدئه، مدركًا أن الراية التي يحملها ليست مجرد قطعة قماش ترفرف في الهواء، بل هي أمانة في عنقه، وعهد بينه وبين الله، ومسؤولية تجاه الأمة.
هو ذلك العبد الصادق الذي يعلم أن حمل الراية تكليف قبل أن يكون تشريفًا، وأنه حين قَبِل بهذه الأمانة، فقد رضي أن يحمل همّ الدين، ويواجه الصعوبات، ويتحمل المشاق، لا لأجل مجد شخصي، ولا لمكسب دنيوي، بل نصرة لدين الله وإعلاء لكلمته.
وإذا تراجع حامل الراية، فمن لها؟ وإذا وهن، من سيسد الثغر؟ وإذا تساقط الرجال، فمن يبقى ليحمل لواء الحق؟
يقول الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72).
فهل نحن أهل لهذه الأمانة؟إنها ليست مجرد قطعة قماش يرفعها الأبطال في ميادين النزال، وليست رمزًا عابرًا يلوّح به المحاربون في لحظات الحماس، بل هي أمانة عظمى ومسؤولية جسيمة لا يحملها إلا من أُشرب قلبه حب الله ورسوله، وامتلأت روحه يقينًا بأن الله اصطفاه ليكون في صفوف حاملي الأمانة، السائرين على طريق الأنبياء والمرسلين.
حامل الراية ليس إنسانًا عاديًا، بل هو رجل جعل همه الأول نصرة دين الله، واستشعر في قرارة نفسه أنه امتداد لمنهاج رسول الله ﷺ، وأنه خليفته في الدعوة إلى الله، وتعبيد الناس لرب العالمين، وتحقيق العبودية لله وحده في الأرض. ولذا، فإنه يستحضر في كل لحظة مقولة الصديق أبي بكر رضي الله عنه حين قال: "أينقص الدين وأنا حي؟! والله، هذا لن يكون!".
إنها صرخة مدوية في وجه التخاذل والتراجع، إعلان واضح أن الراية لن تسقط، وأن حاملها لن يتركها مهما اشتدت المحن، وتكالبت عليه الفتن. فمن يحمل الراية اليوم، يحملها وهو يعلم أنه واقف على ثغر من ثغور الإسلام، فإن هو تركه، اجتاح العدو حصون الأمة، وضاعت معالم الدين، وانتكست الرايات.
1. حامل الراية: من هو؟ وما سر ثباته؟
1. الاختيار الإلهي والاصطفاء
لا يصل حامل الراية إلى موقعه مصادفة، وإنما هو اصطفاء من الله وتكريم لمن علم الله منه الإخلاص والثبات. قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} (القصص: 68). فمن كان أهلاً لحمل هذه الأمانة، أعدّه الله لها، وزرع في قلبه حبها، وهيأ له أسباب الثبات عليها.
إنه يسير في هذا الطريق، وهو موقن أن الله اختاره، وأنه مسؤول عن هذه الأمانة أمام الله يوم القيامة، وأنه سيُسأل: كيف حملت الراية؟ وهل ثبت عليها أم أنك تركتها وتراجعت؟
2. الإصرار على المبدأ
حامل الراية ليس إنسانًا مذبذبًا، يُقدّم خطوة ويتراجع خطوات، بل هو راسخ كالجبل، يعلم أن طريقه ليس مفروشًا بالورود، بل مليء بالأشواك والتحديات، لكنه يستمد قوته من قوله تعالى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الشورى: 36).
إنه يعلم أن الدنيا فانية، وأن العاقبة للمتقين، فيتشبث بثغره، ويمضي على درب من سبقه من الصادقين، الذين لم تزعزعهم الفتن، ولم تُغرهم الدنيا، ولم تثنهم المحن عن المضيّ في طريق الله.
2. لماذا لا يترك حامل الراية مهمته؟
1. الخوف من ضياع الأمانة
إن حامل الراية يرى نفسه في ساحة المعركة، وليس له خيار سوى الثبات. يسأل نفسه: "إن لم أتمسك بها، فمن لها؟ وإن لم أضحِّ في سبيلها، فمن سيفديها؟". فهو يعلم أن الراية إذا سقطت، فإن الثغر الذي كان يسده سيصبح مكشوفًا أمام العدو، وسيضيع الجهد الذي بذله السابقون.
إنه يدرك أن الراية التي يحملها، ليست مجرد شعار، بل هي أمانة عظيمة سيحاسب عليها يوم القيامة، ولذلك يتمسك بها بكل قوته، ويردد في نفسه قول الله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران: 139).
2. الشعور بالمسؤولية تجاه الأمة
حامل الراية لا يفكر في نفسه فقط، بل يفكر في أمة كاملة، يعلم أن هناك من يعتمد عليه، ومن ينظر إليه كقدوة. فهو يرى نفسه حلقة في سلسلة المجاهدين والدعاة والعلماء، الذين بذلوا حياتهم لأجل هذا الدين، فلا يسمح لنفسه أن يكون سببًا في ضعف الأمة أو تأخرها.
يقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} (المائدة: 2)، وهذا التعاون يبدأ من ثبات كل فرد على موقعه، وعدم ترك الراية تسقط من يده.
3. التحديات التي تواجه حامل الراية
1. المغريات والفرص الدنيوية
قد يجد حامل الراية في طريقه فرصًا مغرية، قد تكون مالًا أو منصبًا أو شهرة، لكنها في الحقيقة امتحان لصبره وثباته.
لكن حامل الراية يعلم أن هذه الدنيا زائلة، وأن العاقبة لمن صبر وثبت، فيردد في نفسه قوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} (آل عمران: 185).
2. تخاذل من حوله
قد يرى من حوله يتساقطون، وقد يشعر أحيانًا أنه يسير وحده في الطريق، لكنه يتذكر قول النبي ﷺ: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" (رواه مسلم).
4. دروس وعبر من حامل الراية
1. الثبات على الحق حتى لو كنت وحيدًا
يُدرك حامل الراية أن العبرة ليست بكثرة الأتباع، بل بصدق المبدأ. ولذا، فهو ثابت لا يتزعزع، مهما قلّ من يسانده أو كثر من يعارضه.
2. الصبر على الأذى في سبيل الله
إن حامل الراية يعلم أن طريق الجنة محفوف بالمكاره، كما قال النبي ﷺ: "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات" (رواه مسلم). ولذلك، فهو صابر على الأذى، محتسبٌ الأجر عند الله.
5. كيف نكون من حاملي الراية؟
1. تقوية الإيمان واليقين
إن حامل الراية لا يستمد قوته من نفسه، بل من الله. ولذلك، فهو يحرص على تقوية إيمانه بالقرآن والعبادة والدعاء، ويستحضر دائمًا قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7).
.2. التربية على المسؤولية
لا بد من إعداد النفوس على حمل الأمانة منذ الصغر، وتعويدها على التضحية والثبات، حتى يكون كل فرد من أفراد الأمة مشروع حامل راية.
---
الراية أمانة لا تُفرّط
حامل الراية ليس شخصًا عابرًا، بل هو رمزٌ للثبات، وعنوانٌ للعزة، وامتدادٌ لمنهاج النبوة. فهل نكون من هؤلاء؟ هل نثبت على الحق حتى نلقى الله؟
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (آل عمران: 200).
فلنكن من هؤلاء، ولنحمل رايتنا بكل إخلاص حتى نلقى الله وهو راضٍ عنا.







