إسماعيل جمعة الريماوي يكتب: سلطة أوسلو واحتلال الخمس نجوم

profile
  • clock 11 أبريل 2025, 2:30:49 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
سلطة أوسلو واحتلال الخمس نجوم

لقد كان اتفاق أوسلو الذي  عقد بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الصهيوني، كأسوأ اتفاق يمكن أن يُعقد بين ممثلي شعب، تحت الاحتلال وبين قوة احتلال استعمارية.

اكثر من 30  عاماً مضت على اتفاق أوسلو، كان المفاوض الفلسطيني يظن أنه سيكون مدخلاً لإنشاء دولة فلسطينية مستقلة على أرض الضفة الغربية وقطاع غزة و القدس الشرقية ، لكنه وجد نفسه ينشئ سلطة حكم ذاتي توفر الغطاء لاحتلال “خمس نجوم”، تابع مشاريع التهويد والاستيطان و ليقضي على وهم  “حلّ الدولتين”، وليبقى على سلطة فلسطينية وظيفية تخدم أغراض الاحتلال، أكثر مما تخدم أهداف الشعب الفلسطيني.

لقد عمل اتفاق أوسلو على ضرب و تقزيم المشروع الوطني الفلسطيني فقد قدمت قيادة منظمة التحرير تنازلاً تاريخياً باعترافها بـ”حق إسرائيل في الوجود” وشرعية احتلالها لـ 77% من أرض فلسطين، وبالتالي أخرجت الأرض المحتلة سنة 1948 من دائرة الصراع والتفاوض. وفي المقابل لم تعترف “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني بما تبقى من فلسطين (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية)، ولا يوجد في الاتفاق ما يشير إلى الضفة والقطاع والقدس كأراضٍ محتلة، ولا يوجد أي تعهد إسرائيلي بالانسحاب منها؛ ولا يوجد أي إشارة لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، أو إقامة دولته المستقلة ولو على جزء من فلسطين.

أدى هذا الاتفاق إلى تقزيم المشروع الوطني الذي يهدف إلى تحرير فلسطين، وحصره في إنشاء سلطة حكم ذاتي، وتسعى لإقامة دولة في الضفة والقطاع وشرقي القدس، غير أن بقاءها وتطورها مرتبطٌ برضا الاحتلال وبإرادة الاحتلال، وبدا أن القيادة الفلسطينية تعاملت مع الاحتلال وكأنه “جمعية خيرية” تسعى بحسن نية للاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني. مع أن المُدْرَك الرئيسي للاحتلال الصهيوني أنه استعماري إحلالي توسعي عدواني، ينازعك على هوية الأرض والإنسان، ويسعى لسرقة التاريخ، كما يسعى لسرقة المستقبل.

وعندما تشكّل الكيان الفلسطيني تحت الاحتلال؛ أصبحت “إسرائيل” عملياً هي “الحاضر الغائب” في القرار ؛ بينما انشغلت السلطة بإدارة “الحياة تحت الاحتلال”، وليس بـ”إدارة إنهاء الاحتلال”.

هذا التقزيم أدى إلى غياب فلسطينيي الخارج عن أجندة القيادة الفلسطينية، والذين يشكلون نحو نصف الشعب الفلسطيني، فتراجع الاهتمام بهم، بالرغم من  الإمكانات الهائلة التي يمتلكونها.

ومن ناحية أخرى فإن منظمة التحرير نفسها انزوت جانباً، وتحولت إلى ما هو أشبه بدائرة من دوائر السلطة ، ووُضعت في “غرفة الإنعاش”، ليتم استخدامها بين حين وآخر لشرعنة ممارسات القيادة الفلسطينية.

فقد كان هذا الاتفاق من التسويات النادرة في التاريخ الاستعماري الذي لا تحسم فيه القضايا الأساسية، وتترك لعملية تفاوضية لاحقة. فعادة ما يتم أولاً حسم القضايا المرتبطة بانسحاب الاستعمار، والاستقلال وحق تقرير المصير، والسيادة. غير أن كارثة أوسلو انشغلت بتفاصيل وجزئيات الحكم الذاتي، ولم تحسم القضايا الكبرى مثل: مستقبل القدس، مستقبل اللاجئين وحق العودة، مستقبل المستوطنات الصهيونية في الضفة والقطاع، حق تقرير المصير وحدود الدولة الفلسطينية، واستغلال الثروات الطبيعية وخصوصاً المياه.

وفي الوقت نفسه، ألزمت الاتفاقية الطرف الفلسطيني بوقف كافة أشكال المقاومة المسلحة، وحل كافة مشاكله ومتابعة مفاوضاته من خلال الوسائل السلمية فقط. وهكذا تحوّل المشروع الوطني الفلسطيني إلى مشروع بلا أظافر ولا أسنان، وافتقد أي وسيلة من وسائل الضغط التي تجعل الاحتلال مكلفاً وعديم الجدوى ، ولأن الاتفاق أخرج مرجعية الأمم المتحدة والقرارات الدولية، ولم يتضمن أي آلية (دولية) ملزمة لتنفيذ الاتفاق؛ فقد أصبح مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني مرتهناً بالإرادة الإسرائيلية، وبالراعي الأمريكي المنحاز دائما إلى الاحتلال الصهيوني .

وهكذا، اكتسب الجانب الإسرائيلي مزايا إمكانية التسويف والتأجيل إلى “ما لا نهاية”. واستمتع بـ”إدارة” ملف التسوية، في الوقت الذي ينشئ فيه الحقائق على الأرض ليتمكن من حسم القضايا الجوهرية، لصالحه في نهاية الأمر.

هذا الاتفاق أسس لأكبر انقسام في التاريخ الفلسطيني الحديث والمعاصر، وما زالت آثاره العميقة قائمة حتى الآن ، إذ استفرد فصيل فلسطيني واحد بالقرارات المصيرية ، وقدم تنازلات تاريخية عن معظم فلسطين، و اسس لتسوية سلمية مع الاحتلال ، وكان ذلك دون العودة للشعب الفلسطيني، ودون التوافق مع قواه الوطنية الأساسية، وحتى بمعارضة قوية من داخل الحزب نفسه !!

شكلت قوى المقاومة التي رفضت الاتفاق تحالف “الفصائل العشر” مثَّل على الأرض تكتلاً شعبياً وسياسياً قوياً واسعاً على الساحة الفلسطينية؛ وتابع مسار المقاومة، وأصبحت السلطة بالنسبة له عملياً عقبة في طريق المقاومة المسلحة، أما قيادة المنظمة والسلطة فكانت ترى في “أوسلو” طوق النجاة، وخريطة الطريق لإنشاء الدولة الفلسطينية ، ولأنها ملتزمة بالوسائل السلمية، فقد رأت في المقاومة المسلحة إفساداً وتخريباً للحلم الفلسطيني بالدولة المستقلة، ومعوّقاً يجب إسكاته وتحييده. وبالتالي قامت بقمع المقاومة ومطاردتها، ونسقت أمنياً مع الاحتلال ضدها.

ومنذ ذلك الوقت تكرس الخلل في إدارة الأولويات والمسارات بين خطي التسوية والمقاومة، وما حدث من انقسام سنة 2007 أدى لسيطرة حماس على القطاع وفتح على الضفة، لم يكن إلا أحد تجليات الانقسام الأساس الناتج عن اتفاق أوسلو.

و فيما كان من المفترض لأي اتفاقات ان تؤسس لاستقلال دولة، ولانسحاب المستعمر، أن تؤدي لتفكيك المستوطنات اليهودية وانسحاب المستوطنين. غير أن اتفاقات أوسلو لم تلزم الطرف الإسرائيلي بذلك، ولم تُشر حتى لوقف بناء المستوطنات، وبالتالي تابع الطرف الإسرائيلي هجومه الاستيطاني بطريقة أكثر كثافة وأكثر بشاعة، وأخذ يسابق الزمن لمصادرة ما يمكن مصادرته من أرض وحصر الفلسطينيين في “معازل” و”كنتونات” خاصة. فغيَّر الاحتلال وجه القدس، وبنى جداره العنصري، وأصبحت مستوطناته نحو أكثر من 200 مستوطنة، ونحو اكثر من 220 بؤرة استيطانية أخرى، وتضاعف عدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية من نحو 280 ألفاً إلى ما يقارب المليون في مطلع سنة 2024.

لتجد القيادة الفلسطينية أن “حلّ الدولتين” فقد عملياً معناه، وأن سلطتها كان أداة بيد الكيان الصهيوني لإسكات الصوت الفلسطيني والعربي والدولي بحجة وجود مسار للتسوية، وأنها كانت وسيلة “ساذجة” استخدمت لتقطيع الزمن، بما يخدم الجانب الإسرائيلي، في إنشاء الحقائق على الأرض وابتلاع الضفة الغربية.
فقد تشكَّل البناء المؤسسي  الفلسطيني وفق نظام ومنظومة “مُعدَّة للفشل”!! بمعنى أنها لا تملك الحد الأدنى للنجاح للتطور باتجاه بناء الدولة الفلسطينية المستقلة.

فقد عانت من هيمنة سياسية وسيادية للاحتلال الذي يتحكم بالحدود، وبمداخل السلطة ومخارجها، وبحركة الأفراد براً وبحراً وجواً، والذي يتمتع بالقدرة الهائلة على تعطيل العمل والحياة اليومية، وبالقدرة على ضرب البنى التحتية.

وأسست لفشل اقتصادي من خلال كارثة “بروتوكول باريس” ، ودونما إطالة فقد تم تأسيس سلطة استهلاكية ينخرها الفساد، ولا تملك رؤية للانفصال عن الاحتلال، ونحو 80% من إيراداتها تأتي إما من الضرائب (إيرادات المقاصة) التي تجمعها سلطات الاحتلال، أو من الدعم والمساعدات الخارجية؛ ونحو 85% من واردات السلطة تأتي من “إسرائيل”، بينما يذهب نحو ثلثي صادراتها إلى “إسرائيل”، والصادرات والواردات محكومة بإرادة الاحتلال؛ ومعدل دخل الفرد الفلسطيني أقل من عُشر دخل الفرد الإسرائيلي…

وهي سلطة هشة أمنياً فالاحتلال “يسرح ويمرح” كما يشاء، فيحاصر ويقتحم ويعتقل ويسجن ويغتال، ويمنع من السفر أو من الدخول كما يشاء؛ وهو يحمي المستوطنين المعربدين في أحشاء السلطة، ولديه نحو أكثر من ثمان مئة حاجز ثابت ومتحرك في الضفة الغربية فقط .

وهي سلطة منهكة وظيفياً في خدمة الاحتلال، من خلال التنسيق الأمني الذي ما زال “مقدساً”  ومن خلال الأجهزة الأمنية التي تستهلك مبالغ هائلة من ميزانية السلطة .

أما في حرب غزة فقد غابت السلطة الفلسطينية عن تفاعل وحراك الشارع تماما، وهي التي كانت لا تتردد في تحريك التظاهرات ضد المقاومة ، فقد حضرت الأجهزة الأمنية بشكل عكسي.. فلم تبدي أي دور في حماية الشعب أمام التنكيل الصهيوني المتواصل، بل أعاقت ومنعت الحراك الشعبي نصرة لغزة، و جعل الضفة الغربية بدون حراك ليتوفر للاحتلال كل الاريحية لإبادة غزة واستمرت في لعب دور “المنسق” الأمني للاحتلال  ، وعملت على كم الأفواه وجعل الرأي الواحد هو السائد كما هو جعل الحزب الواحد هو المسيطر على الساحة الفلسطينية و ليس غيره وهو الذي يمثل الحكم و الشرعية.

وحتى الآن، بقي السلوك السياسي “للسلطة” مرتهنا للموقف الأمريكي، وواقعا في مستنقع الخطأ الاستراتيجي، وحبيسا لدائرة الحركة التي ترسمها الإدارة الأمريكية وفق اتفاق أوسلو وما تبعه، وإبقاء قناة تخابر مفتوحة مع الأمريكان، في وقت يعلن فيه هؤلاء بأنهم جزء أصيل من العدوان.

وأخيراً، أليست اتفاقات أوسلو، بعد ذلك كله “لعنة” على الشعب الفلسطيني وعلى مشروعه الوطني… ألم يصبح الانفكاك منها وعنها أولوية وطنية عاجلة، لإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس جديدة.

التعليقات (0)