الجاسوسية أسرار وألغاز: الجاسوس العاشق فؤاد حمودة (3 – 3)

profile
مصطفي إبراهيم رئيس التحرير التنفيذي لموقع 180 تحقيقات ورئيس تحرير موقع 180ترك
  • clock 3 يونيو 2024, 11:32:23 ص
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

عالم الجاسوسية.. عالم غامض عجيب.. تكتنفه الأسرار و تغلفه الألغاز.. يمتلئ بالحوادث التي يصعب تصديقها.. ويندر أن تجول بخاطر أي إنسان.. لا تنتهي عجائب هذا العالم.. ولا تنضب أسراره.

ولا تزال سجلات المخابرات المصرية حافلة بالعديد من الجولات الناجحة التي خدعت فيها الموساد الإسرائيلي وتفوقت عليه وقضت على أسطور الجهاز العبقري.. وكذبت شائعات الذكاء اليهودي الذي لا يهزمه احد أو يخدعه إنسان..

 وفي هذه الحلقات نكشف خفايا هذه الملفات.. ونرفع الستار عن قصص جديدة وملفات مخفية شهدت صراعاً شرساً بين العقول.. ومواجهات حامية الوطيس بين المصريين والاستخبارات الإسرائيلية.. كانت أسلحتها الخطط المحكمة.. ومكائد مدبرة بعناية فائقة.. وسطر أبناء النيل بحروف من نور نجاحات مبهرة لعملاء أحسنت المخابرات المصرية تدريبهم.. ليتسللوا داخل المجتمع الإسرائيلي.. واستطاعوا بمهارة فائقة خداع أرقى المناصب. وأعلى الرتب في المجتمع الصهيوني ليحصلوا على أدق الأسرار.. وليكشفوا المستور.. وأماطوا اللثام عما يملكه الكيان المحتل من أسلحة وذخائر.. ونقلوا للقاهرة خرائط تفصيلية لمواقع وتحصينات جيش الاحتلال قبل معركة العبور المجيدة.

ولم يتوقف نجاح المخابرت المصرية على زرع عملاء داخل المجتمع الإسرائيلي وفي بيوت جنرالات جيش الصهاينة.. بل تمكن المصريون ببراعة فائقة من اصطياد جواسيس الأعداء و منعوهم من نقل الأسرار إلى تل أبيب.. وحجبوا عن الموساد المعلومات ووقعت جواسيسه تباعاً.. بل ونجحت المخابرات المصرية في تجنيد بعض جواسيس الموساد وجعلتهم عملاء للقاهرة وأرسلت من خلالهم رسائل خادعة إلى إسرائيل كان لها فضل كبير في خطط الخداع والتمويه التي مهدت لنصر أكتوبر العظيم.

الحلقة السابعة

>> خدعوه بقصص خيالية عن قدرات الموساد الخارقة.. ووفاء الإسرائيليين لعملائهم

>> أعيد إلى مصر مجدداً  بعدما فشل فشلاً ذريعاً في إنجلترا.. وزيارة غريبة من نوسة أعادت حبل الوداد

>> بحث عن صداقات جديدة بميناء الإسكندرية وسجل المعلومات التي حصل عليها 

>>  المخابرات المصرية تتبعت العميل العاشق بهدوء.. وقبضت عليه متلبساً بمعلومات عسكرية 

>> الطلب الأخير لفؤاد حمودة: أعدموا نوسة معي

 

سيطر العشق على قلب فؤاد حمودة واستحوذ على عقله وتفكيره.. وصار حب نوسة أهم شيء في حياته، دفعه هذا الحب المجنون للسفر للخارج، فرمقته عيون الموساد واصطاده رجالها في ألمانيا.. دربوه على فنون التجسس ومهارات التخابر.. وعاد إلى مصر ليرسل للعدو الصهيوني أدق أسرار بلاده.. مستغلاً- حسب تعليمات الموساد - حالة الإحباط التي يعيشها رجال الجيش عقب نكسة 67، وتعمد استفزازهم بالاستهانة بالجيش المصري والتركيز على النكسة، فيسرعون بالبوح بأدق الأسرار عن التدريبات والمناورات والعمليات العسكرية.. لكنه لم يكن بعيداً عن أعين المخابرات المصرية الذين فاجؤوه ذات يوم بالقبض عليه، ومواجهته بجريمته، وتم الحكم عليه بالإعدام، وادعى محامي فؤاد أن موكله مجنون، ليتم تأجيل التنفيذ.. لكن لأسبوعين فقط يكتب فيهما فؤاد مذكراته وهو بالبدلة الحمراء.. ويذكر فيها أدق التفاصيل عن عملية تجنيده وعملاء الموساد الذين قابلهم وكيف أغروه بالمال والنساء، وكيف عاد لنوسة وأعاد علاقته معها رغم زواجها، ويكون طلبه الأخير قبل ان تعلق رقبته في حبل المشنقة أن يتم إعدام نوسة معه. وفي هذه الحلقة يروي حمودة سيرة نهايته كجاسوس:

كانت سيلفيا- عملية الموساد- لاتكف عن ترديد حكايات عجيبة عن المخابرات الإسرائيلية تكاد تكون أساطير من نسج الخيال، وكيف يحمي الموساد رجاله وعملاءه في كل أرجاء المعمورة.

ولم تمر سوى أربعة أيام وعاد إبراهيم ليكمل الدورة التدريبية، وجرى تدريبي على استعمال الشفرة بالراديو ، وكان علي أن أستقبل إشارات معينة على إحدى الموجات فأقوم بمطابقتها على كتاب الشفرة، وسلمني أيضاً جهاز راديو خاص وقمت بحل التمارين عدة مرات، حتى تأكد نجاحي تماماً في استقبال الرسائل وترجمتها.

بعد ذلك دربني على استعمال الميكروفيلم في تلقي المعلومات أو إرسالها فضابط المخابرات يكتب أوامره على صفحة فولسكاب، ثم يقوم بتصغيرها عدة مرات حتى تصل إلى حجم رأس الدبوس، وعندما أتسلمها فوراً أقوم بتكبيرها إلى حجمها الأصلي وقراءة الأوامر، وإرسال المعلومات إلى مكاتب وفروع الموساد في العواصم الأوروبية بذات الأسلوب.

وبعد عدة أيام لازمني خلالها إبراهيم معظم ساعات النهار استطاع أن يشرح لي أساليب التخفي والتمويه والهرب من المراقبة وإخفاء أدوات التجسس ، وكذلك طرق جلب المعلومات من المصادر العسكرية، وتتبع حركة تنقلات وحدات الجيش.. وكان الأهم.. خاصة بعدما حصلت على دورة سابقة في التمييز بين أنواع الأسلحة والمعدات.

وبعد هذا النجاح المثير أعاد إبراهيم حكاية المليون مارك.. ثم وعدني بـ50 ألف دولار أميركي إذا أفشيت سر أي عميل للمخابرات المصرية داخل إسرائيل ويقبض عليه فعلاً، وعندما استفسرت عن هذا الأمر وقلت لإبراهيم: كيف لي أن أعرف جواسيس مصر في إسرائيل؟

أجابني بثقة زائدة: من خلال معارفك الذين لهم علاقات بأفراد من القوات المسلحة، أو من ضباط الجيش أنفسهم ، فالمصري دائماً يتباهى بأنه يحمل معلومات خطيرة مما يعطي انطباعاً بأهميته.

فقلت له على الفور: مستحيل أن تصل الدردشة العادية لدرجة البوح بأسرار كهذه.

سأقوم بتعليمك كيفية إدارة الحوار مع أشخاص مهمين.. وعليك أن تسعى لخلق صداقات جديدة مع أشخاص في مواقع حساسة للحصول منهم على معلومات، أي معلومات لا بد أن تكتبها لنا، وعليك أن تفهم جيداً أن هؤلاء الذين يشغلون مناصب مهمة لديهم اتصالات بآخرين في مواقع أهم، وأثناء جلسات اللهو والمرح.. يفضفض كل واحد بما لديه من معلومات وأسرار، وتصبح أدق المعلومات العسكرية مادة سهلة التداول، وعليك حينئذ أن تدير الحوار ببراعة ، كما سأعلمك استخلاص ما هو أكثر مما قيل.

وفي دورة أخيرة لإدارة حوار مع شخصية مهمة ، أخذ إبراهيم يعلمني كيف أثير الطرف الآخر وأجعله ينطق ويبوح بكل ما هو سر لديه، وذلك بعدة طرق منها أن أذكر له معلومات خاطئة فيصححها لي ، وإذا كان ضابطاً في الجيش ، أتعمد تذكيره بهزيمة الجيش أمام حفنة من جنود إسرائيل ، فيندفع ثائراً ويقول ما عنده من أسرار الاستحكامات والتدريبات، والأسلحة الحديثة التي وصلت ويتدربون عليها، وأيضاً دور الخبراء السوفييت في إدارة بعض النواحي الفنية في الجيش المصري.

وفي النهاية- طمأنني ضابط المخابرات الإسرائيلي أنني أصبحت جاهزاً للعمل في مصر بما لدي من خبرة ودراية كبيرة بعد هذه الدورات التدريبية المكثفة. وأخبرني بأن راتبي الشهري ابتداء من الآن هو 300 دولار أميركي عدا المبالغ الأخرى التي ستخصص لي بعد كل خطاب أرسله إليهم به معلومات مفيدة. وقال إبراهيم إن بإمكاني الحصول على ألف دولار شهرياً- بخلاف الراتب- وهذا يتوقف على أهمية المعلومات التي أرسلها لهم مع العلم أن مرتب الموظف خريج الجامعة كان لا يزيد على 18 جنيهاً، وطلب مني الاستعداد للعودة إلى مصر، وإيهام أهلي وأصحابي بأنني كنت أعمل في تجارة السيارات في ألمانيا، حتى لا تثير النقود الكثيرة التي معي أي شبهة. وقبل أن يتركني لقضاء عدة أيام مع سيلفيا قبل سفري إلى مصر، منحني ألف مارك وأعدت سيلفيا رحلة ممتعة إلى الجنوب الألماني حيث بحيرة كونستانس الواقعة على الحدود مع سويسرا والنمسا، وأمضينا عدة أيام في فريدر كسهافن وتجولنا حتى وصلنا إلى حيث انتهى نهر الدانوب الشهير ومروراً بمدينة فريبورغ في الغابة السوداء. وفي شتو تغارت نزلنا بفندق برات، واشتريت بعض الهدايا، وركبت الطائرة مودعاً سيلفيا إلى روما ومن روما إلى القاهرة.

إطلالة نوسة

كان أفراد أسرتي في انتظاري والسعادة تملأ وجوههم وهم يرون أعداد الحقائب التي معي محملة بالهدايا.

وفي الإسكندرية كان أول ما خطر ببالي الاتصال بنوسة.. فذهبت سريعاً إلى صديقي حاتم ورجوته أن يطلعني على أخبارها، وعندما تبين لي أنه لا يعرف أكثر مما ذكره لي في رسالته قررت نسيانها، والعمل فوراً فيما جئت من أجله. بدأت أبحث عن صداقات جديدة وأوطد علاقاتي ببعض الموظفين في ميناء الإسكندرية، وكنت أسجل المعلومات التي أحصل عليها أولاً بأول وأرسلها في الحال إلى العنوان الذي طلبوا مني مكاتبتهم عليه في لندن مستر طومبسون ص. ب. 329، وكانت رسائلي لا تحوي معلومات عسكرية فقط، بل حوت أخباراً اقتصادية عن رسو عدد من السفن العملاقة تحمل بداخلها آلاف الأطنان من الحبوب أو السكر ، كانت حركة الميناء من وارد وصادر تقريباً مرسلة إليهم في لندن، وأصبح العمل بالنسبة لي بعد مرور عدة أشهر من أسهل ما يمكن. فعلاقاتي تعددت وتشعبت، وتأتيني المعلومات دون جهد يذكر من خلال الأحاديث العادية التي لم تكن تحمل ما يدل على اهتمامي.

رسالة غريبة

وذات يوم في نوفمبر 1971 جاءتني رسالة غريبة بواسطة الراديو.. كانت الرسالة تحمل تحذيراً واضحاً.. ومخيفاً في ذات الوقت: لا تقرأ في الصحف المصرية- مطلقاً- أي أخبار تتعلق بإلقاء القبض على جواسيس لإسرائيل.. هذا أمر وعليك تنفيذه.

انزعجت كثيراً لهذه الرسالة التي لفتت انتباهي وأثارت قلقي.. ودفعتني رغماً عني لقراءة كل الصحف المصرية صباح كل يوم، حتى قرأت خبراً عن سقوط جاسوس مصري يعمل لصالح إسرائيل.. فاضطربت حياتي وامتنعت عن الخروج من المنزل لعدة أيام.

كانت الرسالة تأتيني عن طريق الراديو- مكررة- حتى بعدما قرأت الخبر- فيحل الرعب بي وتهرب المغامرة.. وكانت أي أصوات أقدام تصعد السلم تصيب أطرافي بالشلل، فكتبت رسالة تحمل ما أشعر به وتترجم معاناتي.. وفوجئت بالرد يصلني سريعاً بالراديو يطلب مني السفر إلى لندن في أسرع وقت، وبينما كنت أعد حقيبتي، دق جرس التلفون وكانت على الطرف الآخر.. نوسة!.

مرت ساعة واحدة وكنت أجلس في أحد أركان كافيتريا فندق فلسطين.. وكان اللقاء مدهشاً.. وظل كفها الصغير بين كفي لفترة طويلة، وعندما همست باسمي طلبت منها ألا تتكلم، أردت فقط أن أنظر لوجهها الذي حرمت منه لمدة عامين، ومن داخلي كنت أرقص طرباً وأجريت مقارنة سريعة بينها وبين سيلفيا وكريستينا وكاتيا وغيرهن، إنها أجمل منهن جميعاً، بل تكفي ابتسامتها لتبدل مذاق حياتي وتضفي عليها البهجة، إن مذاقها لعجيب، عجيب.

وفي آخر يناير 1972 كنت في لندن، وكان في استقبالي ضابط المخابرات الإسرائيلية المسؤول عني- إبراهيم يعقوب- وبصحبته ضابط آخر اسمه بوب في السفارة الإسرائيلية في لندن، وطلبا مني أن أهدأ وألا أتوتر لهذا الحد.. وقالا لي: إذا كانت الصحف المصرية قد نشرت أخباراً عن إلقاء القبض على جاسوس يعمل لصالح الموساد، فهذا ليس سوى دعاية مضادة، وأسلوب تخويف لجواسيسهم في مصر، ومثل هذه الشائعات معروفة لديهم وأسلوب قديم تستخدمه أجهزة المخابرات كل مدة. لم أهدأ رغم ما قالاه لي.. فرأى إبراهيم أن يوكل إلى عملاً آخر في لندن. وكان عملي منصباً على التعرف إلى المصريين الموجودين في لندن أو القادمين الجدد، لعلي أنجح في تجنيد أحدهم وأتقاضى مكافأة ضخمة.. ووجد إبراهيم أنني بحاجة إلى تمرين فأخذني إلى إحدى الشقق.. وجرى تدريبي على العمل الجديد في اصطياد مصري يصلح جاسوساً لإسرائيل.

مدينة الضباب

وبعد دورة مكثفة من إبراهيم، جاء بوب هو الآخر لتدريبي على كيفية العيش في لندن ، وتقصى أماكن تجمع المصريين كالفنادق والمقاهي والمطاعم المختلفة، وكانت لندن حينئذ تستقبل مئات الشباب من مصر بدعوى الدراسة أو السياحة أو العلاج.

وفشلت في مهمتي.. فظروف النكسة كانت مختلفة وغالبية المصريين الذين يسافرون إلى لندن كانوا على درجة من الوعي والثقة في النظام السياسي الجديد، خاصة بعد تصفية مراكز القوى وانشغال الرأي العام بوعود الرئيس السادات، ولكن في مصر كانت مساحة الوعي السياسي تختلف.

أدرك بوب بحاسته كضابط مخابرات أنني لم أنجح في لندن، ولأنني أيضاً أدركت ذلك بعد أن فشلت كل محاولاتي في الإيقاع بمصري واحد، فقد عرضت على بوب أن أسافر إلى مصر فالمجال هناك أفضل بالنسبة لي ، وبعد عدة أيام وصل إبراهيم من بون ووافق دون تردد على عودتي إلى مصر.. وأعطاني راتبي المتراكم بخلاف مكافآتي وكانت4500 دولار.

ولكني بعدما عرفت قيمتي لديهم، وبأن الموساد لا تبخل على جواسيسها، اعترضت قائلاً إن المكافأة هزيلة جدا، وأن قيمة المعلومات التي قمت بإرسالها تزيد عن هذا المبلغ كثيراً، ووصفني إبراهيم بأنني أصبحت لحوحاً.. فطلبت منه زيادة المبلغ إلى 7000 دولار، وإضافة مبلغ آخر قدره 5000 دولار كمقدم إيجار شقة أستطيع من خلالها أن أمارس عملي في التجسس بحرية.. وحدث ذلك بالفعل.

عدت إلى الإسكندرية بأكثر من19000 دولار.. مبلغ كبير لا شك في ذلك.. واستأجرت شقة في شارع خالد بن الوليد في ميامي، وقررت أن أستغل نشاطي التجسسي لجمع أكبر عائد مادي ممكن.

وكر الخيانة

لقد عشت حياتي السابقة محروماً تلسعني رغبة الاحتياج والعوز.. لذلك.. كنت أضع تقييماً لكل معلومة أرسلها إليهم وأحسب مستحقاتي وأغالي في الثمن، ثمن أعصابي التي تحترق كل لحظة.. وعمري الذي أضعه رهن أتفه معلومة أدونها.. استمرأت طعم الخيانة شيئاً فشيئاً.. وبعدما بعت أمن وطني وأهلي، لم أجد غضاضة في أن أخون رجلاً آخر لا أعرفه.. لكنه امتلك ما عجزت عن امتلاكه.. فإنني الآن أصبحت قادراً على امتلاك أشياء ليست في حوزتي وأهمها نوسة.. التي جاءتني جرياً تفند لي أسباب زواجها.. فلم أهتم، لقد عانقتني في شقة ميامي بمجرد أن فتحت حقيبة هداياها العامرة.. وبعد دقائق.. فتحت باب حجرة النوم ونادتني من الداخل.. وعندما دخلت عليها كانت بلا شيء.. أي شيء بلا حياء أو خوف أو ملابس.

تحولت الشقة إلى وكر للخيانة، وللملذات، خمر، وحشيش، ونساء ساقطات، ورجال ربطتني بهم صداقات مفتعلة، وعندما كان ينشط مفعول الخمر والنساء، لا تدري العقول ماذا تقول؟.

هكذا كانت الأيام تجري سريعاً، والمعلومات تتدفق في سلاسة، والثمن أقبضه أنا كما أريد، وبالسعر الذي أحدده!.

في تلك الأثناء.. لم تكن المخابرات المصرية غافلة عما يحدث في شقة ميامي التي ذاع صيتها.. وفاحت منها رائحة الخيانة تعلن عن الجرم صراحة. واختارت المخابرات المصرية أحد مرشديها الذي يعمل موظفاً بشركة الملاحة البحرية- واسمه ممدوح- ليقتحم هذا الوكر ويرصد ما به، فكان ينقل مشاهداته إلى العميد حسن واصف- المسؤول عن مكتب المخابرات في الإسكندرية- وفي نفس الوقت وضع تلفون فؤاد تحت المراقبة.. وبذلك أصبح الجاسوس تحت سيطرة جهاز المخابرات وتحركاته مرصودة تماماً دون أن يعرف.

يكمل الجاسوس سرد قصة الإيقاع به قائلاً: جاءتني بطريق الراديو رسالة تطلب مني السفر إلى روما لمقابلة دانيال وهو ضابط المخابرات الإسرائيلي في السفارة الإسرائيلية هناك، وبالفعل أعددت الكثير من التقارير والمعلومات التي حصلت عليها وسافرت بها إلى روما وكان اللقاء مثيراً للغاية إذ كان الضابط سخياً جداً ومنحني ما طلبته من مقابل بل وزاد عليه ألفاً وخمسمائة دولار وعدت إلى مصر بالثروة التي حصلت عليها مقابل بضع معلومات استقيها من أفواه المساطيل واشتريها أحياناً بالهدايا.

وبعد عودتي بحوالي أسبوع واحد.. كانت نوسة عندي بالشقة تتسلم هداياها وتسلمني جسدها الرائع، فنمت مرهقاً بعدما سجلت بعض المعلومات التي وصلتني على ورقة وضعتها بجانب السرير ولم أقم بكتابتها بالطريقة السرية التي دربت عليها.

وعند الفجر دق جرس الباب فظننتني أحلم، واستيقظت فجأة على يد تهزني فشلني الذعر لأجد الحجرة كلها قد زرعت برجال لا أعرفهم.

تناول أحدهم الورقة المسودة وفتشوا الشقة جيداً.. وعثروا على كل الأدلة والأدوات التي تؤكد أنني جاسوس.. خائن.

اصطحبوني إلى القاهرة وأخضعت لتحقيق مطول لعدة أيام.. واكتشفت أنني كم كنت واهماً.. فتصرفاتي كلها كانت مكشوفة.. وحركاتي مرصودة.. وخطاباتي مقروءة.. حتى زيارتي إلى روما ولقاءاتي كانت بالصوت والصورة لدى المخابرات المصرية.

اعترفت في الحال بكل شيء دون إكراه ، فالأدلة كانت كلها ضدي ولا تترك لي المجال لكي أنكر.. ووجهت إلى النيابة العسكرية اتهاماتها الآتية: السعي لدى دول معادية إسرائيل لمعاونتها في عملياتها الحربية.

- الحصول على مقابل مادي بقصد ارتكاب عمل ضار بالمصلحة القومية وهو إفشاء أسرار البلاد.

- الحصول على أسرار الدفاع عن البلاد وتسليمها لدولة أجنبية معادية وهي إسرائيل.

احتقار النفس

واعترفت بكل شيء وبرغم الاحتقار الذي أشعر به تجاه نفسي..إلا أنني أعترف بصراحة بأن حبي لتلك المومس- نوسة- هو الذي دفعني للخيانة.. خيانة وطني!! انتهت مذكرات الجاسوس فؤاد حمودة.. ولكن، ماذا حدث له بعد ذلك؟

تشكلت محكمة عسكرية عليا لمحاكمته، وبعد عدة جلسات أصدرت حكمها بإعدامه شنقاً.. وصدق رئيس الجمهورية على الحكم وأحيل للتنفيذ في سجن الاستئناف بالقاهرة..

وفي صباح السابع عشر من يناير1973.. كان يوم تنفيذ الحكم.. حيث سيق المتهم إلى غرفة الشنق.. يجرجره جنديان.. ويصرخ قائلاً: أنا بريء.. بريء.. ثم يصرخ ثانية: أعدموها معايا.. أعدموا نوسة.. أعدموها.

وقف إمام السجن ومأمور التنفيذ وعشماوي في انتظار وصول الخائن من زنزانته.. ولكن محاميه اقتحم المكان فجأة.. وبيده وثيقة رسمية تفيد أن موكله مجنون وهو غير مسؤول عن تصرفاته.. ويطالب بوقف تنفيذ الحكم كما ينص القانون.. وبهذه الحيلة.. أفلت الخائن من الإعدام.

أفاق على صوت مزلاج باب زنزانته الحديدي فارتعد جسده النحيل، ونظر باتجاه الباب في رعب لتصطدم عيناه بوجه الشاويش حمدون يطل عليه بملامحه الجامدة وشاربه الكث، وكأنه تمثال قُد من صخر.

دفع جراية الطعام بعيداً وغاص في خوفه وهو يتأمل بزته الحمراء فانتفض بدنه في رجفة لا إرادية.. ثم انكفأ بوجهه بين ركبتيه يحيطهم بيديه المرتعشتين وأجهش في بكاء مرير، وارتفع نشيجه يشق سكون الزنزانة الضيقة المعتمة، إنه يموت كل يوم آلاف المرات كلما سمع وقع أقدام تتحرك أو صوت مزلاج يفتح.

كان أمله الأخير ألا يصدق رئيس الجمهورية على حكم المحكمة ولكن خاب أمله وضاع، فلماذا إذن لا ينفذون حكم الإعدام سريعاً؟ ولم هذا الموت البطيء؟ أيكون الانتظار عقاباً نفسياً قبل الشنق؟

هكذا تساءل فؤاد حمودة وهو حبيس الزنزانة الانفرادية في سجن مزرعة طره.. وتحسس رقبته للمرة المليون وصرخ بأعلى صوته.. لا.. لا.. لست جاسوساً لإسرائيل.. أنا ضحية.. أنا ضحية الفقر.. وأخذ يضرب الأرض الباردة وهو يردد في وهن: وضحية حب نوسة..

وسكنت حركته بعدما استسلم لواقعه ولمصيره.. وتمدد على البرش ثم تقلب وتكور متوسداً إحدى يديه ضاغطاً بالأخرى على أذنه.. فيسمع صوتاً يشبه هدير موج يتعاقب، وضربات قلبه اللاهثة تدق في اضطراب تعلن عن مدى الخوف الذي سكن بأعماقه.. والرعب الذي يخترق أفكاره ويشتتها.

ارتد إلى الوراء يتذكر بدايته وتسلسل حياته إلى أن صار جاسوساً لإسرائيل. مدفوعاً بحب نوسة العجيب.. حب دفع بالحبيب إلى حبل المشنقة.

وبعد إعدامه عثروا في زنزانته على لفافة من الأوراق سجل بها قصة حياته بإيجاز أحياناً.. وبتفصيل مطول أحياناً أخرى.

إنها قصته مع الحياة.. ومع الحب.. ومع الجاسوسية. يقول فؤاد في مذكراته التي خلفها وراءه: لكن بعد أسبوعين.. أسبوعين فقط رفضت المحكمة الاستشكال القانوني الذي تقدم به المحامي.. وسيق المتهم مرة ثانية إلى غرفة الإعدام حيث أعدت المشنقة لاستقباله، وقام مأمور التنفيذ العميد بدر الدين الماحي بسؤاله عن آخر طلب له في حياته.. فطلب سيجارة، وأشعلها له المأمور وحبل المشنقة حول عنقه.. وبعد أن سحب النفس الخامس.. انفتحت فجأة طاقة جهنم تحت قدميه، وتدلى جسده العفن الذي تبرأ منه أهله.. كما تبرأت منه ديدان الأرض.

وتصف مذكرات جاسوس الإسكندرية أدق خلجاته وإحساساته، فقد كتبها في لحظات صدق مع نفسه قبل أن يلتف حبل المشنقة حول رقبته.. وكان قد تقدم بالتماس إلى الرئيس أنور السادات يطلب تخفيف حكم الإعدام ولم يصل الرد بعد على التماسه الذي كان هو الأمل الأخير له في إنقاذه.

ولأنه عاش كثيراً يحلم بتحقيق هذا الأمل.. فقد اتسمت مذكراته بالسرد الدقيق والوصف الرائع لكل جوانب حياته.. صفحات بلغت أكثر من مائتي صفحة تحمل مشاعر جاسوس خائن.. اعتقد أن الحب كان السبب الرئيسي في وقوعه في جبّ الجاسوسية العميق المظلم.

التعليقات (0)