- ℃ 11 تركيا
- 21 نوفمبر 2024
الجاسوسية أسرار وألغاز: الجاسوس العاشق فؤاد حمودة (1 – 3)
الجاسوسية أسرار وألغاز: الجاسوس العاشق فؤاد حمودة (1 – 3)
- 19 مايو 2024, 10:09:55 م
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
لأن الجاسوسية هي السلاح الرابع كما يطلقون عليها، بعد سلاح الطيران والبحرية والقوات الجوية، فهي اولاً وأخيراً تعتمد على عقول ماهرة تبني الحقائق، وتحلل المعلومات وتستخلص النتائج وتضع الخطط، وتصنع ما لا يتخيله عقل او منطق من خداع وحرب خفية اسلحتها الذكاء، والشفرة، والرموز، وأجهزة الارسال اللاسلكي، وآلات التصوير، إلى جانب العامل البشري، واللجوء لشتى السبل من إغراء أو تهديد أو إرهاب وخلافه لتجنيد الجواسيس، لذلك أصبحت الجاسوسية هي الأداة الأساسية في تحديد السياسات الدبلوماسية للدولة الحديثة، وكذلك هي المستشار الخفي والأمين لرؤساء الجمهوريات والحكومات عند اتخاذ القرارات المصيرية التي يتوقف عليها مصير الدولة.
ولأهمية الجاسوسية أفردت لها الصحف والكتب والمواقع الإلكترونية صفحاتها لتسجيل أغرب الحوادث وأندر الحالات، وهو ما حاولت جمعه وطرحه بين يدي القارئ في سلسلة «الجاسوسية أسرار وألغاز» التي سبق أن نشرتها في جريدة «النهار» الكويتية في عام 2013. ولأهمية الموضوع ولحب الجمهور لقراءة ملفات المخابرات، نعيد نشرها في موقع «180 تحقيقات»... خدمة لقراء الموقع الأعزاء إلى قلوبنا.. وذلك بمعدل حلقة أسبوعية ننشرها يوم الاثنين من كل أسبوع .
الحلقة الخامسة
الجاسوس العاشق فؤاد حمودة (1 – 3)
>> من حلم نوسة الصغير إلى صدمة الفشل والسقوط في براثن الجاسوسية
>> فؤاد حمودة.. من مصر إلى بون بـ27 جنيهاً وطموحات ثراء سريع
>> حب نوسة ملك قلب فؤاد وسيطر على عقله.. نام على الأرض ليدخر مهر حبيبته الغالية
>> صاعقة زواج المحبوبة وسفرها مع عريسها أفقدت العاشق اتزانه.. فهام على وجهه في حانات ألمانيا
سيطر العشق على قلب فؤاد حمودة واستحوذ على عقله وتفكيره.. وصار حب نوسة أهم شيء في حياته، دفعه هذا الحب المجنون للسفر للخارج فرمقته عيون الموساد واصطاده رجالها في ألمانيا.. دربوه على فنون التجسس ومهارات التخابر.. وعاد الى مصر ليرسل للعدو الصهيوني أدق أسرار بلاده.. مستغلاً- حسب تعليمات الموساد- حالة الاحباط التي يعيشها رجال الجيش عقب نكسة 67، وتعمد استفزازهم بالاستهانة بالجيش المصري والتركيز على النكسة، فيسرعون بالبوح بأدق الأسرار عن التدريبات والمناورات والعمليات العسكرية.. لكنه لم يكن بعيداً عن أعين المخابرات المصرية الذين فاجئوه ذات يوم بالقبض عليه، ومواجهته بجريمته، وتم الحكم عليه بالاعدام، وادعى محامي فؤاد ان موكله مجنون، ليتم تأجيل التنفيذ.. لكن لأسبوعين فقط يكتب فيهما فؤاد مذكراته وهو بالبدلة الحمراء.. ويذكر فيها أدق التفاصيل عن عملية تجنيده وعملاء الموساد الذين قابلهم وكيف أغروه بالمال والنساء، وكيف عاد لنوسة وأعاد علاقته معها رغم زواجها، ويكون طلبه الأخير قبل ان تعلق رقبته في حبل المشنقة ان يتم اعدام نوسة معه.
فؤاد شاب سكندري كان والده موظفا بسيطا في الحكومة وأمه ربة منزل لا تعمل، وكانت الأسرة كبيرة العدد قليلة الدخل والطلبات ترهق الأب، فتحيل نهاره الى سعي وشقاء وليله الى نوم متقطع وسعال.
كان فؤاد الابن الثالث ومن بعده ثلاثة آخرون، انهى تعليمه المتوسط وجلس ينتظر فرصة للعمل، ولم يخطر بباله انه كان ينتظر نقطة البداية التي سينطلق من خلالها الى خط النهاية بسرعة البرق، مدفوعاً بقوة لم يستطع مقاومتها.. ويقول فؤاد عن ذلك : رفعت سماعة التلفون ذات مساء ممل.. فجاء صوتها كالنسيم رقيقاً حنوناً بعث الدفء بأعماقي.. ودار بيننا حديث طويل امتد لقرب الصباح، كان اسمها نوسة طالبة في الدبلوم. تسكن في سبورتنغ.. تكرر أحاديثنا التلفونية لعدة أيام متصلة، فالتهبت حرارة الأسلاك وهي تحمل جرعات الرغبات المتزايدة التي ترسلها نوسة بصوتها الأنثوي المسكر، وكأنه خمر ينصب رقراقاً خلال سماعة التلفون، ونسيت مع مكالماتها وحدتي برغم الزحام والضجيج في شقتنا، واتجهت لكتابة الشعر، تبدلت حياتي كلها، اذ أصبحت نوسة هي شاغلي ومشاغلي، انام على صوتها وأصحو، وأحس معها بالمرارة التي تغلفها أحياناً رغم انها وحيدة أبويها، وتقوم أمها على خدمتها وتعاملها كملكة على عرش قلبها.
فتاة مرفهة
كانت فتاة مرفهة الى درجة الجنون رقيقة لا تتصنع، مثيرة لا تتركني أهدأ، أو تخمد نيران رغباتي تجاهها برغم سنها الصغير وقلة خبرتها بالحياة.. لكنها برغم ذلك استطاعت ان تحكم قيدها حول حواسي.. فأدور في فلكها كالمنوم.. حتى وهي تحاول ان تستدرجني لأحاديث الجنس كنت أبدو كالأبله.. فأنا لا أعلم شيئاً عنه، الا انها تمادت في استدراجي فتجاوبت معها عبر الأسلاك يشجعني صوتها الذي يحرك الجبل وهتفت في نفسي لأرفض وهي تضغط، أرفض وهي تقتل قوتي وتحصد مقاومتي ورفضي بتأوهات يفور لها جسدي كبوتقة تغلي، ولما فشلت معها أرقتني الرغبة المحبوسة فتأثرت لحالي، وفوجئت بها تعرض علي ان أزورها بمنزلها بعد منتصف الليل، ثم تحول العرض الى دعوة ملحة، وضايقها ترددي وخوفي، لقد كان عمها المحامي يسكن في الشقة العلوية وهذا الأمر أخافني.. الا انها دبرت كل شيء في جرأة مدهشة، فذهبت اليها بعد منتصف الليل في احدى الليالي الباردة مدفوعاً برغبتي العنيفة، وكان هذا أول تدريب لي على عمل الجاسوسية.
وعندما جلست بجوارها على حافة السرير -على بعد خمسة أمتار من حجرة والدها- سألت نفسي عن طبيعة حبيبتي.. هل هي فتاة ليل أم انها تحبني؟ وغادرت شقتها لا أصدق انني نجوت بحياتي من مصير مجهول. وأعترف انه برغم سعادتي برجولتي.. الا انني فقدت أشياء لذيذة كنت لا أريد مسها.. وأهمها انني فقدت بعض ثقتي بها، ولكن صديقي حاتم أكد لي ان الحب أعمى، وأن الفتاة تسلم كل شيء لحبيبها عن قناعة ورضا لأنها تحب.
وبعد عدة أيام دعوتها الى شقة أختي المسافرة الى الخارج مع زوجها فجاءت نوسة بسهولة.. واكتشفت انها ليست بكراً.. صفعتني المفاجأة وتحطمت ثقتي بها وفي كل بنات جنسها وأغمضت عيني عن هذا الخطأ مؤقتاً، لقد كنت أحبها ولذلك تعمدت ألا أذكر هذا الأمر مرة ثانية، لكنها هاجمتني بعنف واتهمتني بأني ضيعتها. أخذتها الى أشهر دكتور في الاسكندرية فلم يصارحني بالحقيقة، ونسينا الأمر برمته، وكنت لا أستطيع فراقها أو ابتعادها عني.. فقد صارت في دمي..!.
خطوبة نوسة
ولم تكد تمر عدة أشهر، الا وخطبت نوسة فجأة وانشغل تلفونها عني في المساء، فجن جنوني وأقسمت ان أفوز بها ولا أتركها لغيري بعدما أدمنتها، لكنها كانت تتهرب من لقائي وجنوني، وتملكني الشعور القاتم بالهزيمة وأنا أضرب رأسي بيدي وأرتجف غضباً وأردد: أحبك.. أحبك بوجهك الطفولي البريء وصوتك الساحر، أحبك وأنت تصعدين ورائي الى الطابق الخامس في شارع الجلاء ترتدين زي المدرسة وتحملين حقيبتك، وتنشدين ما يكفيك من النشوة لعدة أيام مقبلة، أحبك يا كاذبة، ولن انسى يوم خطبتك لهذا المغفل الذي نزف عليك مئات الجنيهات كما نزفت انا معك رجولتي.
يومها.. طلبت مني والدتي ان أقرأ عليها عدة صفحات من رواية عاطفية، فجلست أقرأ لا أدري أي سطور قرأت وقد اختنق صوتي وتلجلج لساني.. وبكيت بكاء الضائع الذي فقد الطريق والأمان.
ثلاثة أشهر وعادت نوسة ذليلة يغشاها انكسار الهزيمة بعدما فشلت خطبتها.. ولم تمهلني الوقت لأفكر فاستردتني سريعاً واحتوتني من جديد فقلت لها:
أنا لم أكرهك يوماً.. أحبك بجنون.
- فؤاد - يا فؤادي.. يا حياتي.. اشترني ولا تبخس الثمن.
اشتريتك.. سافر وكافح من أجلي.. سافر الى أي مكان في الدنيا وعد بالثمن.
قلت لها: لقد عينت في شركة مضارب الاسكندرية بسبعة عشر جنيهاً.
قالت في يأس: لن نتزوج اذن قبل عشر سنوات.
- أهلك يبالغون في المهر.
- سافر لعام واحد وسأنتظرك.. سافر.. انه الحل الوحيد لنا.
- لا أملك مصاريف السفر.. انت تعرفين كل الظروف.
- ألم تخبرني ان شقيقتك ستعود عما قريب؟
- نعم.. أرسلت لنا بأخبار عودتها بعد شهر ونصف.
- اقترض منها مبلغاً وخذ مني هذه الاسورة.. شيئاً لأجلي. وسأظل انتظرك وأنسج ثوب عرسي كما كانت تفعل بنيلوبي قديماً.
ومنذ تلك اللحظة.. قررت ان أسعى للسفر خارج مصر، كانت الأبواب مغلقة في وجهي، وحرب الاستنزاف على أشدها بين مصر واسرائيل، وهناك مفاوضات من أجل الهدنة والأمور سيئة وتزداد سوءاً.
إلى بون
عادت شقيقتي من الخارج وعندما طلبت منها قرضاً أحالتني الى زوجها الذي تهكم وسخر مني، وعندما علم والدي عنفني بشدة، وأشفقت والدتي على حالي فأعطتني آخر ما تملكه من حلي فلما قبلت يد شقيقتي مرة أخرى وقلت لها انقذيني من جنوني منحتني سبعة وعشرين جنيهاً، ولم تمر عدة أيام الا وكنت أحمل في جيبي تذكرة طائرة الى بون، وسافرت الى ألمانيا الغربية يملؤني احساس بالمرارة والظلم والضعف.
كانت معي رسالة الى أحد المعارف في مدينة دوسلدروف شمالي بون، وعندما التقيت به نظر اليّ كمن ينظر الى كلب أجرب، حتى صديقته الألمانية كانت تسخر مني وتضحك كأنها ترى بلياتشو برغم انني لا أعرف كيف أكون مضحكاً، وكنت قد مررت في طريقي بمدينة ساحرة اسمها كولون، فعقدت العزم على العودة اليها وأغامر علني أوفق بمفردي ورجعت جنوباً حتى كولون الواقعة على نهر الراين الخلاب، فسحرتني المدينة الأنيقة واستولت على عقلي.. عثرت على بنسيون رخيص اسمه فارسبورغر تديره سيدة بشوش اسمها بيرجيت كلاين كانت تعاملني بلطف.. وبانكليزية ركيكة شرحت لها ظروفي ورغبتي في العثور على عمل فتأثرت لحالي، وبعد يومين ذهبت الى مصنع بويات يمتلكه زوج ابنتها بيتر راينهارد يقع على أطراف المدينة، وبعد عمل متصل ليل نهار لعدة شهور استطعت ان أجمع خمسة آلاف مارك، فأرسلت خطابي العاشر الى نوسة أطمئنها، وبرغم الحاحي في الرد على رسائلي لم يصلني منها خطاب واحد، فانتابني قلق شديدة ولم أتمكن من مكالمتها تلفونياً فكتبت الى صديقي حاتم أطلب منه موافاتي بأخبارها، وكان الانتظار يقلقني بل ويفتك بأعصابي.
كانت نوسة رغم الجميلات من حولي هي الأجمل والأرق والأروع، ولا تفارق خيالي للحظة وأحلم باليوم الذي يجمعنا، لذلك، كنت أعمل بجد وردية ونصفاً وأفرتش ورق الكرتون وأنام، يرفرف خيالها حولي وذكرها يمدني بالقوة ويمنحني الصبر، وتعلمت كيف أحرم نفسي من أبسط الأشياء لأدخر وأعود اليها مرفوع الرأس، ولما جاءني الخطاب المنتظر من حاتم ارتعش قلبي لرؤيته.. فما بين سطوره يحدد لي مصيري واتجاهات حياتي، وملأني شعور غامض بالخوف وأنا أفتح الورقة المطوية، وزلزلتني المفاجأة التي لم أتوقعها قط: نوسة تزوجت منذ شهرين وانتقلت للاقامة في كنغ مريوط.
طراز غريب
لطمتني العبارة بعنف فأصابني دوار وأطبقت الجدران على انفاسي.. وأيقنت انها ضاعت مني الى الأبد، وأيقنت أيضاً انها طراز غريب من النساء من الصعب نسيانه، وعلى امتداد البصر في الخيال والواقع لا أرى سوى وجهها الطفولي البريء ويتجسم أمامي جسدها الأنثوي فأتحسسه: كان الجليد يتساقط كأنه ندف من القطن الأبيض الناصع في شهر فبراير 1970 والباص يقلني الى شارع كلنغهاوس مشيت وسط الزحام لا انوي على شيء ودون قصد اتجهت الى شارع فينشا، حيث أضواء الكباريهات تتلألأ متراقصة، وفتيات الليل يقفن على النواصي يساومن المارة. وما ان عبرت الى الناصية الأخرى من الشارع متجهاً الى كباريه غوتن نخت الشهير، قذفت واحدة منهن بنفسها في طريقي فأزحتها بيدي، ودلفت الى داخل الكباريه لأول مرة في حياتي، شربت ورقصت وسكرت، وبدلاً من الذهاب الى حجرتي في المصنع، ذهبت الى بنسيون فارسبورغر.
دهشت السيدة كلاين وطلبت منها ألا تسألني عن أي شيء فسحبتني الى احدى الحجرات، ومنذ ذلك اليوم لم أعد أقيم للأمور وزناً، تساوت عندي كل المتناقضات وأحاطتني قتامة من اليأس والاهتزاز، وتفاعلت بداخلي ثورات من الشك والحزن والكآبة، وصرت زبوناً دائماً في غوتن نخت، أمر على محل هورست للملابس فأصطحب كريستينا للعشاء ثم نسهر ونشرب حتى الثمالة، هي الأخرى وحيدة مثلي هجرت أسرتها في دار مشتات هرباً من ذكرى حبيب غدر بها، وتركت البنسيون وأقمت معها في غرفتها.
عندما انفقت آخر مارك كان معي تأففت كريستينا وتملكها الضجر، فذهبت الى المصنع مرة أخرى فلم أجد عملاً هناك حاولت ان أجد فرصة عمل بمكان آخر لكن الظروف كانت كلها ضدي، فعجزت عن الانفاق على نفسي، وطردتني كريستينا من شقتها، ونبهتني السيدة بيرجيت كلاين صاحبة البنسيون لكثرة ديوني ولما عضني الجوع ذهبت الى الكباريه أطلب عملاً.. أي عمل.
ولأنني زبون معروف لديهم صعد بي أحدهم الى الطابق العلوي حيث مكتب المدير الفخم، استقبلني الرجل بحفاوة بعدما اكتشف انني مصري، وأخبرني انه زار مصر منذ عدة سنوات وسألني عنها فقلت له بقرف زي الزفت، لقد كنت في حالة نفسية سيئة والجوع ينهش معدتي، ويطاردني شبح ترحيلي الى مصر خاوي الوفاض تنوء حقائبي بيأسي وفشلي، وسألني الرجل مرة ثانية.
لماذا جئت الى هنا؟ يقصد ألمانيا.
قلت في أسى: الفقر والحب.
وبعد ان سردت عليه قصة حياتي بايجاز.. أسف لحالي.. وبصوت به رنة الواثق قال: بامكانك ان تصبح مليونيراً..المهم ان تكون أكثر ديناميكية وتعاوناً.
ضحكت في تعجب وسألته: مليونيراً؟ كيف وفي جيبي أحد عشر ماركاً ونصف ولا أتحدث الألمانية وانكليزيتي مهترئة.. كيف؟
ترك غوتل هاوزن مقعده خلف المكتب وجلس قبالتي يفرك يديه وقال: نشأت مغامراً شجاعاً أكره الخوف والجبناء، سنوات قليلة وكنت شريكاً في هذا النادي ثم امتلكته لأنني دست على أشياء كثيرة لكي أحقق طموحاتي، وأعرف ان الرجل الشرقي عاطفي يخشى المغامرة ومقيد بتقاليد وأعراف.
أجبته بتصميم شديد: سيد هاوزن انا مستعد لأية مغامرة تنتشلني من الفقر والضياع.
- اذن.. انس انك مصري.. مسلم.. وتذكر فقط انك هنا.. في ألمانيا الغربية، في أوروبا.
- سأنسى.. لا أريد ان أتذكر هذا الماضي اللعين.. أريد ان أكون انساناً آخر.
ضغط الرجل على زر فجاءت فتاة رائعة مثيرة والتفت الي قائلاً:
- هذه سيلفيا.. من الآن سترافقها في سفرها الى ألمانيا الشرقية لبعض الأعمال التجارية.
- ابتسمت سيلفيا ونظرت اليهما في بلاهة..وعندما أوشكت على سؤاله عن عملي الجديد أصدر أوامره الى سيلفيا بأن تدفع حساب البنسيون وتصحبني الى شقتها..وقام الى مكتبه وعد بعض النقود وناولها لي قائلاً: هذه لك.. وللعمل حساب آخر.
وبينما كان يسلم نقوداً أخرى لسيلفيا أدركت ان المبلغ ألف مارك.. فدارت الأسئلة في خيالي وتساءلت بيني وبين نفسي: ماذا سأعمل بالضبط؟
الطريق المجهول
وقررت ان أغامر وألا أستسلم أبداً مهما كانت المصاعب، وأفقت على يد سيلفيا تجذبني فمشيت وراءها، وبدأ منذ ذلك الحين أولى خطواتي على الطريق المجهول.. والذي في نهايته كانت تنتظرني المشنقة.
وفي شقة سيلفيا الرائعة التي تطل على نهر الراين، حيث البانوراما تخلب الألباب وتدير الرؤوس، تذوقت انوثتها العجيبة التي انستني نوسة ولهيب حبها، وبينما كنا عاريين نستريح سألتها: سيلفيا ماذا سأعمل معك؟
أشعلت سيجارة وجذبت نفثاً عميقاً وقالت: التهريب!.
قلت مستفسراً وقد تملكني القلق:
تهريب..؟ تهريب ماذا؟
- وهي تنفث دخانها في وجهي: نحن ندخل الخمور والسجائر والساعات الى ألمانيا الشرقية مهربة على الحدود.
قمت مسرعاً وارتديت ملابسي وأنا حانق، واتجهتْ مباشرة الى غوتن نخت وصعدت الى مكتب المدير وتعجب الرجل لرؤيتي وتساءل وهو يهز رأسه: ماذا بك؟
- كان صوتي عالياً في استنكار وأنا أقول:
- تهريب الخمور والسجائر يا سيدي لن يبني لي مجداً أو يرفع من شأني.. انه عمل تافه.
- تريد ان نزرع بك الجرأة ثم نوكل اليك الأهم والأكبر.
- لو لم أكن جريئاً ومثابراً ما جئت الى هنا لا أملك مالاً أو لغة.. انا لست سوى فدائي مغامر.
- في لهجة مليئة بالتحدي: أتريد ان تثبت لنفسك انك مغامر.
فقلت في اندفاع الواثق: سيد هاوزن أريد ان أؤكد.. نعم أؤكد لكم انني جريء لحد المغامرة.. وأريد ان أعمل وأكسب لا ان أخبئ بعض علب السجائر والعصير وأعبر بها كاللص الى الناحية الأخرى من ألمانيا.
- قلت لك يا فؤاد ان تهريب السلع تمرين لك لا أكثر.
- تمرين على ماذا؟
لمعت عيناه كعيني ثعلب ماكر وبصوت هامس قال: مهمة سرية جريئة ستكسب من ورائها نصف مليون مارك على الأقل، انه مبلغ خيالي قد تشتري به حياً بأكمله في الاسكندرية هه.. ماذا تقول؟
جف حلقومي فجأة وانحبس صوتي وأنا أقول: اعتبرني قد تمرنت وأنا الآن جاهز للمهمة الكبرى، أريد هذا النصف مليون ولو كلفني ذلك أغلى ما أملك.. وكل ما أملك.
ابتسم هاوزن وأردف: انت لا تملك شيئاً ولكننا نريدك ان تملك.
- أنا طوع أمرك يا سيدي.
تناول الرجل كارتاً صغيراً وسلمه لي وهو يقول: اذهب غداً الى هذا العنوان.
وقرأت: السفارة الاسرائيلية بون شارع.. فرمقته بنظرة غليظة وقد سرت بأوصالي رعشة.. وقلت بصوت أجش: وما دخل اسرائيل في تهريب السلع الى ألمانيا الأخرى؟
- في بون ستعرف كل شيء.. وسيدفعون لك بسخاء اذا تعاونت معهم.. كان الخوف قد بدأ يساورني وقلت في تلعثم: تريدونني جاسوساً اذن؟
أجابني بسرعة وكأن رده كان جاهزاً: اسرائيل ليست بحاجة اليك لتعمل جاسوساً.. فأنت لا تملك هذه الموهبة ولست بالشخص المهم الذي تستخلص منه معلومات سرية.
- قبل مغادرتي مصر بوقت قريب قرأت في الصحف عن جاسوس مصري عاطل لا يعمل بالحكومة ولم يؤد الخدمة العسكرية فلماذا اختير جاسوساً وما الفائدة منه؟
- فاجأني صوته قائلاً: اسمع.. طالما نحن في حالة حرب مع العرب -فسوف ينظر الى نياتنا بالريبة والشك، تشققت شرايين عقلي عندما نطقها صريحة، وأحسست بأنني أترنح وأرتجف، لكني استجمعت قواي الخائرة في صعوبة وسألته: انت اسرائيلي اذن سيد هاوزن؟
- أنا يهودي ألماني أحب اسرائيل والعرب وأحلم دائماً بالوفاق بينهما.
ودخلت سيلفيا مضطربة، نظرت الى وجهينا تستخلص نتائج اللقاء.. ويبدو انها فهمت جيداً ان شيئاً ما قد حدث، فهتفت سريعاً: أوه.. أيها المصري المراوغ.. وأخرجت منديلها تمسح قطرات العرق على جبهتي. وكنت لحظتئذ كتائه يبحث عن ملاذ.. يملؤني احساس غريب أحسه لأول مرة، انه مزيج من الخوف والطيش واللامبالاة.. لملمت ارادتي ونزلت معها الى الصالة فشربنا ورقصنا، واستيقظت في الصباح لأجدها عارية بجواري، وجسدها الأفروديتي ينفث حرارة تلسع رجولتي، لكنني كنت قد فقدت الرغبة تجاهها وسافرت بخيالي الى بعيد، الى الاسكندرية، وهجم طوفان من الذكريات والمشاهد واستسلمت هرباً من توتري واضطرابي…
يتبع…