الداعية الشيخ خالد سعد يكتب: وعد ترامب بين الغطرسة الأمريكية والخيانة العربية – قراءة في مشهد الصراع والمآلات المحتملة

profile
خالد سعد داعية إسلامي مصري
  • clock 5 فبراير 2025, 7:02:19 م
  • eye 58
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01
ترامب

التاريخ لا يعيد نفسه حرفياً، ولكنه يمنحنا الفرصة لنرى كيف يتكرر السيناريو بأدوات وأساليب مختلفة. فما أعلنه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بشأن القضية الفلسطينية لا يمكن عزله عن سياق الهيمنة الغربية المستمرة على المنطقة، ولا عن إرث "وعد بلفور" الذي مهد الطريق أمام المشروع الصهيوني منذ أكثر من قرن. الفرق الوحيد أن وعد بلفور كان رسالة غامضة تحمل وعوداً بريطانية غير ملزمة، بينما جاء "وعد ترامب" في سياق أكثر وضوحاً وجرأة، مصحوباً بغطرسة أمريكية غير مسبوقة، ومتواطئاً معه تآمر عربي مفضوح، يجعلنا أمام مشهد خطير لا يمكن التعامل معه بالتحليل التقليدي أو الاكتفاء بردود الفعل العاطفية.

١. الوعد الأمريكي بين الصراحة الفجة والخداع المنهجي

حين أصدرت بريطانيا وعد بلفور عام 1917، كانت الإمبراطورية العظمى في أوج قوتها، تسعى لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها الاستعمارية. لكنها رغم ذلك، اختارت أسلوب الدبلوماسية الغامضة، مستخدمة عبارات مثل: "تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين"، وهي لغة تحمل تأويلاً مزدوجاً، حيث لم تُحدد بريطانيا كيفية تنفيذ هذا الوعد أو مدى إلزاميته.

أما ترامب، فقد اختار نهجاً أكثر صراحة ووقاحة. فبدلاً من تقديم وعد في صيغة دبلوماسية، جاء خطابه أشبه بـ"أمر تنفيذي"، يفرض وقائع جديدة على الأرض دون الحاجة إلى اتفاقيات أو قرارات دولية. هذا الأسلوب، رغم ما يحمله من استهتار بالمجتمع الدولي، إلا أنه يزيل أي مجال للغموض أو التبرير.

لكن خطورة هذا النهج لا تكمن فقط في صراحته، بل في استراتيجيته الخادعة. فالخطاب الأمريكي لم يعد يقتصر على التهديد العسكري أو الدعم السياسي لإسرائيل، بل أصبح يستهدف وعي الشعوب، ويحاول إعادة تشكيل المفاهيم، بحيث يصبح الاحتلال واقعاً طبيعياً، ويُنظر إلى التهجير والظلم على أنهما "جزء من الحل" وليس استمراراً للجريمة.

٢. الغطرسة الأمريكية بين استفزاز الشعوب وإخماد المقاومة

الولايات المتحدة ليست مجرد قوة عسكرية واقتصادية، بل هي ماكينة إعلامية ضخمة تمتلك أدوات التأثير النفسي والفكري. في الماضي، كانت الوعود السياسية تُصاغ بحذر، وتُقدم بعبارات مدروسة تتيح مجالاً واسعاً للمناورة الدبلوماسية. لكن في عهد ترامب، تحولت الدبلوماسية إلى استعراض للقوة، وتحولت السياسة إلى صفقات تجارية، وأصبحت التصريحات تُلقى بطريقة تبدو وكأنها غير محسوبة، لكنها في الحقيقة جزء من استراتيجية مدروسة تهدف إلى تحقيق أقصى درجات الاستفزاز، وإعادة توجيه الرأي العام وفقاً لما يخدم الأجندة الأمريكية.

فحين يتحدث ترامب عن "صفقة القرن"، فهو لا يخاطب الفلسطينيين وحدهم، بل يرسل رسالة إلى الأنظمة العربية مفادها: "أنتم أدوات في يدنا، وعليكم تنفيذ ما نطلبه دون نقاش"، ويرسل رسالة إلى الشعوب تقول: "لقد انتهى زمن المقاومة، وعليكم القبول بالأمر الواقع".

لكن ما يغفل عنه صناع القرار في واشنطن، أن الغطرسة الزائدة لا تؤدي دائماً إلى إذعان الشعوب، بل قد تكون سبباً في إشعال شرارة جديدة للمقاومة. فتاريخ الثورات يخبرنا أن الاستبداد حين يبلغ ذروته، فإنه يوقظ المقهورين من سباتهم، ويحول الضعف إلى قوة، واليأس إلى إرادة صلبة لا تقهر.

٣. قرن من الخبرة من النكبة إلى مشروع التهجير الجديد

لقد مرت مئة عام منذ وعد بلفور، وأكثر من سبعين عاماً منذ النكبة، وخلال هذه العقود، تعاقبت الحروب والصراعات، لكن المخطط الصهيوني ظل يسير وفق خطة متكاملة. فمشروع تهجير الفلسطينيين لم يكن مجرد نتيجة للحروب، بل كان هدفاً أساسياً يعمل الاحتلال على تحقيقه بأساليب مختلفة:

في عام 1948، تم تهجير الفلسطينيين بقوة السلاح، عبر المجازر المنظمة التي ارتكبتها العصابات الصهيونية.

في عام 1967، تم استكمال المشروع باحتلال الضفة الغربية والقدس، وإطلاق موجة تهجير جديدة تحت غطاء الحرب.

في العقود اللاحقة، استخدمت إسرائيل أدوات أخرى، مثل الحصار الاقتصادي، والاستيطان، وهدم المنازل، لفرض واقع جديد يجبر الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم طوعاً أو كرهاً.
واليوم، نشهد مرحلة جديدة من هذا المخطط، حيث يجري الترويج لمقترحات تتحدث عن "توطين الفلسطينيين في سيناء"، أو نقلهم إلى دول أخرى بحجة تحسين أوضاعهم المعيشية. وهذا هو الوجه الأخطر للمخطط، لأنه لا يعتمد فقط على القوة العسكرية، بل يستغل الظروف السياسية والاقتصادية لدفع الفلسطينيين نحو الهجرة القسرية، دون الحاجة إلى عمليات تهجير مباشرة.

٤. الخيانة العربية: الدور الوظيفي في خدمة الاحتلال

إن الحديث عن التآمر العربي لم يعد مجرد نظرية مؤامرة، بل أصبح واقعاً موثقاً بالأفعال والتصريحات العلنية. فالدور العربي الرسمي لم يعد مقتصراً على الصمت، بل تحول إلى شراكة مباشرة في تنفيذ المخططات الأمريكية والإسرائيلية.

بعض الدول العربية أصبحت تتبنى الخطاب الإسرائيلي بشكل علني، وتتحدث عن المقاومة الفلسطينية كأنها "إرهاب"، وتروج لمشاريع التطبيع كأنها "مصلحة وطنية".

بعض الأنظمة تتعامل مع القضية الفلسطينية كورقة مساومة، تقدم التنازلات لأمريكا وإسرائيل مقابل ضمان بقائها في السلطة.

حتى الدول التي تدعي رفض "صفقة القرن"، فإنها في الحقيقة تلعب دوراً مزدوجاً، حيث تكتفي بالبيانات الخطابية، بينما تواصل تنسيقها الأمني والاقتصادي مع الاحتلال.
وهذا يعني أن الشعوب العربية، إذا أرادت فعلاً التصدي للمخطط الصهيوني، فعليها ألا تكتفي بمواجهة إسرائيل وأمريكا، بل يجب عليها أيضاً أن تواجه الأنظمة العميلة التي تسهل تنفيذ هذه المشاريع.

الخاتمة لا تسقطوا في الفخ من جديد!

إن أخطر ما يمكن أن يقع فيه الفلسطينيون والعرب اليوم، هو أن يصدقوا أن ما يحدث مجرد "مناورة سياسية" أو "صفقة قابلة للتفاوض". فالمشروع الصهيوني لم يكن يوماً تكتيكاً مؤقتاً، بل هو مخطط استراتيجي طويل الأمد، يسير بخطى ثابتة نحو تحقيق هدفه النهائي.

وإذا كان وعد بلفور قد نجح بسبب الخداع السياسي والتآمر الدولي، فإن "وعد ترامب" لن ينجح إلا إذا استسلمت الشعوب وتخلت عن إرادتها في المقاومة. لهذا، فإن الرد الحقيقي على هذا المخطط لا يكون بالاحتجاجات المؤقتة، ولا بالشعارات الجوفاء، بل بالعمل الجاد على بناء مشروع مقاومة شامل، يرفض الاستسلام، ويعيد للأمة وعيها الحقيقي، قبل أن نجد أنفسنا نكرر مأساة النكبة مرة أخرى.


هام : هذا المقال يعبر فقط عن رأي الكاتب ولا يعبر عن رأي فريق التحرير
التعليقات (0)