الداعية خالد سعد يكتب: التدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية فقه أم تهاون؟! سوريا أنموذجا

profile
خالد سعد داعية إسلامي مصري
  • clock 7 يناير 2025, 2:44:36 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

تُعدّ مسألة التدرج في تطبيق الشريعة من القضايا التي أثارت جدلًا بين الفقهاء والمفكرين المعاصرين. تتعلق هذه المسألة بمدى إمكانية تأجيل تطبيق بعض الأحكام الشرعية لحين تهيئة الظروف المناسبة، خصوصًا في المجتمعات التي تأثرت لفترات طويلة بالثقافات والقوانين الغربية.

وجهة نظر مؤيدي التدرج

يرى المؤيدون أن التدرج في تطبيق الشريعة أمر ينسجم مع قواعد الفقه الإسلامي، مستندين إلى تجربة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، حيث لم تُفرض الأحكام الشرعية دفعة واحدة، بل جاءت بالتدريج.

الحاجة إلى التهيئة: يعتبرون أن المجتمعات التي ابتعدت عن الشريعة بحاجة إلى توعية وتربية قبل التطبيق الكامل، لتجنب الصدمات أو المقاومة الاجتماعية.

منع الفتنة: يؤكدون أن التدرج ليس تخليًا عن الشريعة، بل وسيلة لتحقيق تطبيقها الكامل مع تقليل الضرر.

وجهة نظر معارضي التدرج

يرى المعارضون أن التدرج في تطبيق الشريعة هو تفريط في أحكام الله، ويؤدي إلى تمييع الدين وتأخير إقامة الحدود الشرعية.

اكتمال الشريعة: الشريعة الإسلامية جاءت كاملة وغير قابلة للتجزئة، وأي تأخير في تطبيقها يُعتبر تقصيرًا في أداء الواجب.

خطر التراخي: يخشون أن يتحول التدرج إلى وسيلة للتسويف، مما يؤدي إلى عدم تطبيق الشريعة بشكل حقيقي مع مرور الوقت.

رأي العلماء

انقسم العلماء في هذه المسألة:

1. المؤيدون: يرون أن التدرج جائز بشروط، منها عدم إنكار أي حكم من أحكام الشريعة، وأن يكون التأجيل مؤقتًا وبهدف إزالة الموانع الحقيقية.
2. الرافضون: يعتبرون أن التدرج لا يتناسب مع مقام أحكام الله، وأن النصوص الشرعية تلزم الحكام بتطبيق الشريعة فورًا دون تأخير.

ولا شك أن الواقع الذي يعيشه السوريون اليوم يجعل الحاجة إلى التدرج في تطبيق الشريعة أمرًا بالغ الأهمية، فالأحداث الجسام التي مروا بها، والتحديات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تواجههم، تفرض عليهم ضرورة اعتماد النهج المرحلي في إصلاح أوضاعهم وفق الشريعة. والسؤال الجوهري هنا: هل تبيح شريعة الإسلام هذا النهج؟

التدرج في الشريعة: أصوله ومرتكزاته

التدرج ليس مجرد اجتهاد عقلي أو منهج بشري عابر، بل هو أصل ثابت في شريعتنا، قائم على قواعد محكمة وأدلة واضحة:

أولًا: قاعدة "التيسير ورفع الحرج"

قال الله تعالى:

{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}

{هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}

{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}.

هذه النصوص القرآنية تؤكد أن الإسلام دين يُسر، يراعي طاقة الإنسان وقدرته. ومن هنا نشأت قواعد كلية تحكم العمل بالأحكام، مثل:

"المشقة تجلب التيسير".

"لا واجب مع العجز".

"الحاجة تنزل منزلة الضرورة".

ثانيًا: استقراء منهج التشريع الإسلامي

عند تأمل السيرة النبوية نجد أن التشريع الإسلامي نزل بصورة متدرجة. فقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوة الناس إلى التوحيد والإيمان، ثم انتقل بهم تدريجيًا إلى الصلاة والصيام والزكاة وسائر الشرائع. قال الله تعالى:
{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}.

وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها:

"إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الإِسْلاَمِ نَزَلَ الحَلاَلُ وَالحَرَامُ".

هذا التدرج لم يكن مجرد مرحلة تاريخية، بل هو منهج تشريعي يُستدل به على أهمية الأخذ بالأحكام تدريجيًا في كل زمان ومكان إذا اقتضت الظروف ذلك.

ثالثًا: تطبيق النبي لمنهج التدرج في الدعوة

التدرج كان واضحًا أيضًا في أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والتعليم. فقد قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن:

"إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ".

النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالبدء بالأهم ثم الانتقال إلى الأقل أهمية، مما يدل على أن التدرج ليس فقط في التشريع، بل في التطبيق أيضًا.

التدرج في إصلاح المجتمع: دروس من حديث الكعبة

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالكعبة فهُدمت، وبنيتها على قواعد إبراهيم" (متفق عليه).

رغم أن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه السلام كان عملًا مشروعًا يتفق مع التوحيد، إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن ذلك، مراعاةً لحال قريش الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام.

دلالات الحديث وأبعاده

1. مراعاة مشاعر الناس وتدرجهم في قبول الحق: النبي صلى الله عليه وسلم أدرك أن قريشًا قد يستعظمون هذا الفعل، وربما يؤدي ذلك إلى اضطراب أو فتنة، فاختار تأجيل هذا الإصلاح لتجنب صدام غير ضروري.

2. الحكمة في تقديم الأولويات: بناء النفوس وتثبيت الإيمان كان مقدمًا على إجراء تغيير معماري، حتى لو كان ذا قيمة دينية.

3. التدرج كمنهج إصلاحي: الإصلاح لا يكون بالقوة أو الصدام مع ما يألفه الناس، بل بالتدرج الذي يجعلهم يتقبلون التغيير بروية.

التدرج في أسلمة الحياة: احتياجات الواقع السوري

أولًا: مراعاة الواقع المجتمعي

المجتمع السوري اليوم متنوع في تكوينه الديني والاجتماعي والثقافي. فرض تطبيق أحكام الشريعة دفعة واحدة قد يؤدي إلى نفور البعض أو حتى إثارة اضطرابات داخلية. لذلك، لابد من التحرك بخطوات مدروسة تضمن تقبل المجتمع للإصلاحات الشرعية.

ثانيًا: التدرج كوسيلة لترسيخ الأحكام

التدرج يُتيح للمجتمع التكيف التدريجي مع تعاليم الإسلام، مما يؤدي إلى ترسيخها في النفوس وتعظيمها. هذا النهج يحمي الشريعة من الرفض ويضمن استدامة التطبيق.

ثالثًا: التعامل مع التحديات الخارجية

الظروف الدولية التي تعيشها سوريا تجعل من الصعب تطبيق الشريعة الإسلامية بصورة شاملة ومباشرة. التدرج هنا ليس تنازلًا، بل هو استراتيجية لحماية الهوية الإسلامية.

التدرج: وسيلة لتعظيم الشرع وليس انتقاصًا منه

قد يظن البعض أن التدرج في التطبيق يُعد نقصًا في الالتزام بالدين، لكن الحقيقة أن التدرج يعبر عن فهم عميق لحكمة الشريعة. فتطبيق بعض الأحكام وتأجيل البعض الآخر لا يعني تحكيم الهوى، بل هو خطة لتحقيق الامتثال الكامل للشريعة.

خاتمة

إنَّ حاجة السوريين إلى التدرج اليوم ليست ضعفًا في الالتزام بالدين، بل هي فهم عميق للواقع واستلهام للنهج النبوي في بناء المجتمعات على أسس راسخة ومتينة. حديث الكعبة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم تشكل مرجعية عظيمة لهذا النهج، حيث تتجلى الحكمة النبوية في إصلاح المجتمعات دون صدام، ودون إغفال الأولويات. التدرج في أسلمة الحياة هو طريق لتحقيق الإصلاح المستدام، بما يحفظ استقرار المجتمع ويضمن تعظيم الشريعة في النفوس.

التعليقات (0)