- ℃ 11 تركيا
- 22 يناير 2025
بيسان عدوان تكتب: غزة كمفهوم: أزمة المثقف الفلسطيني وجدلية النصر والهزيمة
بيسان عدوان تكتب: غزة كمفهوم: أزمة المثقف الفلسطيني وجدلية النصر والهزيمة
- 22 يناير 2025, 2:26:10 م
- 87
- تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
تعبيرية
قال إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" إن "المثقف هو الذي يرفض الخضوع للأنظمة السياسية والاقتصادية المهيمنة، ويظل ملتزمًا بالحقيقة حتى في مواجهة القوة". لكنه، في ذات الوقت،
أضاف أن المثقف العربي غالبًا ما يكون في موقع الهزيمة الرمزية، حيث لا يملك الأدوات اللازمة لمقاومة الهيمنة الثقافية والسياسية التي تُفرض عليه. هذه الهزيمة التي وصفها سعيد ليست مجرد خضوع للاحتلال أو للأنظمة السياسية، بل هي هزيمة تتعلق بفقدان المثقف قدرته على تشكيل الوعي وتحقيق التغيير الفعلي.
أكثر من 470 يومًا، تجسدت هذه الكلمات بشكل ملموس في مشهد غزة، حيث واجهت المقاومة الفلسطينية آلة الاحتلال العسكرية بأعظم التضحيات وأكثرها قسوة. كانت المعركة ليست فقط ضد الأجسام المادية، بل كانت أيضًا معركة فكرية وثقافية، طرح فيها الفلسطينيون أسئلة جوهرية عن مفهوم النصر والهزيمة في العصر الحديث. لقد أصبحت غزة، هذه الجغرافيا الجريحة، حلبة يتجسد فيها الصراع ليس فقط على الأرض، بل على الوعي والهوية والكرامة.
منذ بدء وقف إطلاق النار في التاسع عشر من يناير/كانون الثاني 2025، كُتب الكثير حول مفهوم النصر والهزيمة، في إطار توصيف أو نقد أو تحليل ما جرى خلال حرب الإبادة على غزة، أو من أول الأهداف الفلسطينية للحرب، وهل حققنا فعليًا النصر. كان هناك دعوات من الكثير للمراجعة والنقد والنقد الذاتي. رغم ما يشوب تلك الكتابات والتحليلات من تصورات مسبقة وقوالب جاهزة حول مفهومي النصر والهزيمة، فإن هذه الظاهرة الحية تدل على حيوية المجتمع الفلسطيني سواء في غزة أو الضفة الغربية أو حتى في المنافي والشتات.
اللافت للنظر في تلك المقالات هو أنها تجزم بأن هذه هزيمة وتسرد وتفند ذلك الخطاب، أو تلك التي تقر بالنصر الكامل وتعدد حسابات الربح والخسارة. ومع أن كلا الخطابين، وأخطرهم هو خطاب الهزيمة، يتطلبان مزيدًا من التفكير، فإن تبني ذلك الخطاب من قبل المثقفين الفلسطينيين، خاصة أولئك الذين خاضوا ويلات الحرب والمقتلة في غزة، لا لوم عليه، فهم في وضع لا يتحمله بشر أو كائن حي. ولا أدعي معرفة أو أتبنى خطاب النصر المطلق من موقع أنني من الناجيين من هذه المجزرة التي تعرضت لها غزة وأهلي هناك.
الأمر وما فيه هو أنني قرأت كل ما كتب من الجهتين طوال الأيام السابقة، دون أن أتخذ موقفًا مسبقًا من أي من الخطابين، بل أوقفت نفسي أمام المسوغات والتبريرات التي يسوقها البعض، خاصة المثقفين الفلسطينيين الذين يقع على عاتقهم حرب الوعي الجمعي للحقوق الفلسطينية وحق تقرير المصير، ومشروع التحرير والعودة، ليس للإنسان غير الفلسطيني أو للغرب أو الشرق، بل لأنفسنا كفلسطينيين مختلفين في الهويات والانتماءات والتوجهات والجغرافيا أيضًا. لكن ما يجمعنا هو الحلم بعودة البلاد وتحريرها من الاحتلال.
يعتمد الكثير من المثقفين الفلسطينيين على عدة مفاهيم في خطاب الهزيمة الذي يروج بدعاوى تنموية وإنسانية. يؤيدون مقولات الهيمنة الكولونيالية دون تفكيكها، ويعيدون إنتاج السرديات التي تحمل الضحية عبء القمع. فهم يحملون حركة حماس مسؤولية الإبادة الجماعية التي مر بها شعبنا، باعتبارها المسؤولة عن قطاع غزة والتي كانت تديره قبل الطوفان وقرارها بالسابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023، متجاهلين الديناميكيات الأوسع التي فرضها المحتل (الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي). لذا، فإن تقديم الفلسطينيين كمجرد ضحايا لقادتهم يُغفل حقيقة أن غزة محاصرة اقتصاديًا وسياسيًا منذ أكثر من 17 عامًا، وأن الحرب ليست خيارًا بقدر ما هي حتمية فرضتها البنية الكولونيالية القائمة على الإبادة التدريجية.
غالبًا ما تشير الكتابات الفلسطينية حول تفنيد خطاب الهزيمة إلى أننا كفلسطينيين علينا أن نتبنى مفهوم دولة المؤسسات والقانون، وكأنها وصفة جاهزة لإنهاء معاناة الفلسطينيين. لكنها تغفل أن هذه المفاهيم، في سياق الاستعمار، تتحول إلى أدوات لتعزيز السيطرة وليس التحرر. فنموذج الدولة الذي يُروج له هو نفسه الذي سعت الدول الغربية ومع دولة الاحتلال الإسرائيلي لفرضه علينا كوسيلة للضبط والاحتواء دون مواجهة البنية الكولونيالية لهذه المستعمرة التي كرست التبعية للمحتل وأبقت على النظام الاستيطاني. وكل ما مر به الفلسطيني طوال العقود الثلاثة الماضية فيما يسمى بأراضي الحكم الذاتي المحدود في غزة والضفة الغربية. فمن دون مواجهة هذه البنية الكولونيالية، يبدو الأمر كمن يطالب الضحية بأن تُصلح نفسها بينما يستمر الجلاد في القتل.
أغلب المنشورات والمقالات الفلسطينية التي تتبنى خطاب الهزيمة تشير للخسائر البشرية والمادية الهائلة، والتي يشهدها العالم في بث حي مباشر كدليل على "هزيمة" حماس، متبنية خطابًا فارغًا من سياقه السياسي. رغم فداحة الأرقام وفداحة المقتلة والإبادة، فهي نتاج مباشر لمنظومة استعمارية ليست فقط متمثلة في الاحتلال، بل تمتد للمفاهيم الصهيونية نفسها التي صاحبت المشروع الاستيطاني الإحلالي. فهي ترى في تدمير البنية التحتية الفلسطينية هدفًا استراتيجيًا لإخضاع السكان الأصليين، سواء بالقتل أو بتفريغ الأرض منهم. في حين يرون أن قرارات حركة حماس، التي هي أحد فصائل التحرير الفلسطينية بغض النظر عن توجهها الديني أو العقائدي، تندرج ضمن أفعال المقامرة والمغامرة السياسية، وذلك يعد خطرًا على الشعب الفلسطيني بدلاً من كونه ضرورة وجودية، متجاهلين الجذور التاريخية التي تُعد حقًا مشروعًا لشعب مُحتل.
وهنا أطرح سؤالي لأولئك المثقفين: هل كانت مقاومة الجزائر أو فيتنام مقامرة؟ هل يُطلب من المستعمَرين التفكير في معايير "النصر" بمعايير المستعمِر؟ أم أن المقاومة تُقاس بقدرتها على إبقاء القضية حية، رغم كل محاولات التصفية؟
عندما يتساءل المثقف الفلسطيني، على الأخص، عن معايير النصر، فإنه يتبنى بشكل غير واعٍ معايير النصر التي وضعها الاستعمار ذاته، والتي تقيس الإنجاز بمدى القدرة على محاكاة نموذج "الدولة المستقرة". دون أن يدرك أو يتبنى معايير الشعوب المحتلة. فلدى هذه الشعوب تعريف بسيط؛ إن النصر ليس كهدف نهائي، بل هو مسار طويل يتخلله انتصارات رمزية تبقي على جذوة الكفاح مشتعلة حتى تحقق التحرير والتخلص من الاستعمار.
من أخطر ما يُكتب ويتروّج له المثقف هو تقديم الشعب الفلسطيني كطرف سلبي في المعادلة، وكأن المقاومة تفرض عليه عبئًا دون إرادته. كما لو أنه لم يشارك بقرار الحرب ولا بقرار وقف الحرب، وتصوير رد فعله بالابتهاج بالنجاة كاعتباره قطيعًا أو موجهًا أو منتميًا لجماعة أو تيار بعينه. هذه السردية تتجاهل حقيقة أن الشعب في غزة، بكل مكوناته، هو جزء أصيل من مشروع المقاومة، سواء في صموده أو في دعمه للمقاومة رغم المعاناة. كما أن تبني خطاب وصائي على أي فرد أو مجموعة أو تيار أو فصيل أو مواطن فلسطيني بسيط في غزة ابتهج للنجاة والنصر الذي حققه بالصمود، بادعاء أنه غير واعٍ أو فاهم، تحت ذرائع ومسوغات متعددة، يعيد إنتاج الهياكل السلطوية نفسها التي تحمل الضحية مسؤولية معاناتها دون النظر إلى مساءلة الاحتلال والنظام الدولي عن الإبادة الجماعية واستمرار معاناة الفلسطينيين.
لعلها ليست زوايا أخرى للرؤية، وليست وجهة نظر تحتمل الصواب أو الخطأ، لكن أزمة المثقف الفلسطيني تبرز في أنه محاصر بثنائية النصر والهزيمة. وهذه الثنائية لم تعد تحمل ذات المعاني التقليدية التي وُرثت عن تجارب الاستعمار الكلاسيكي. فالنصر لم يعد فقط هزيمة الاحتلال عسكريًا، كما أن الهزيمة لم تعد محض خسارة الأرض أو الأرواح. في غزة، وعلى مدار أكثر من عام، أُعيد تعريف النصر والهزيمة بطرق معقدة؛ حين يصبح الصمود أمام المجازر نصرًا، وحين تُعتبر الهزيمة تكريسًا لغياب المثقف عن صياغة رؤى تعيد تشكيل الوعي الجمعي.
مع تطور أدوات الهيمنة، لم تعد الهزيمة تقاس بالسلاح فقط، بل بالقدرة على تشكيل الوعي. وبات ما يقوم به المثقف الفلسطيني من المساهمة في تشكيل وعي الناجين من الإبادة، ما هو إلا تكريس هزيمة رمزية بدعوى الواقعية السياسية، وهو بذلك عجز عن مواكبة التحولات الجذرية في العالم كله. هذا العجز كشف عن خلل عميق في علاقة المثقف بالواقع، وعن افتقاده للأدوات التي تمكّنه من قراءة ديناميات الصراع المعاصر.
عادت غزة لتثبت أنها ليست مجرد "مكان"، بل أيقونة للصمود. والصمود هذا ليس حالة جامدة، بل ديناميكية تعيد تعريف حدود الممكن. لكن المثقف الذي يقف على أطلال الماضي، رافضًا الاعتراف بأن غزة اليوم تعيد صياغة النصر كفكرة مرنة، يخون دوره كفاعل في صياغة الوعي الجمعي المقاوم ليس ضد الاحتلال فحسب، بل بإعادة تشكيل تعريف الذات الفلسطينية من موقع الفاعل وليس الضحية والمفعول به.
لذا، أي تحليل للواقع الفلسطيني دون إدراك جوهر الاستعمار الاستيطاني هو تحليل ناقص، يُعيد إنتاج الهيمنة بدلًا من تفكيكها. المقاومة الفلسطينية بكل أشكالها ليست خيارًا ترفيهيًا ولا مغامرة سياسية، بل هي رد فعل وجودي لشعب يواجه خطر الإبادة. التحرر يبدأ من تفكيك الخطابات التي تُغلف الاحتلال بمعايير "الشرعية الدولية" أو "المؤسسات"، ومن إدراك أن النصر الفلسطيني ليس لحظة زمنية بل مسار مقاومة لا ينفصل عن بناء الوعي الجمعي.
فهل يجرؤ المثقف على تجاوز هزيمته الداخلية ليصبح جزءًا من ملحمة النصر الجماعي؟