بيسان عدوان تكتب: من الطغيان إلى التحولات الكبرى.. الأيديولوجيات تفشل وفلسطين تقف عند مفترق طرق

profile
  • clock 9 ديسمبر 2024, 9:24:57 م
  • تم نسخ عنوان المقال إلى الحافظة
Slide 01

كما قال فرانتز فانون، إن التحولات الكبرى لا تقف عند حدود إسقاط الأنظمة، بل تتجاوز ذلك نحو إعادة صياغة الوعي وبناء الذات. هذه الرؤية تمثل الأساس لفهم ما تعيشه المقاومة الفلسطينية اليوم. لقد آن الأوان لأن تتحرر هذه المقاومة من خطاب الضحية التقليدي الذي وسمها لعقود طويلة، لتعيد بناء استراتيجياتها على أسس تتجاوز الأيديولوجيا السائدة، وتلامس جوهر المشروع التحرري الشامل.

إما إدوارد سعيد، في نقده الدقيق للاستعمار، شدد على أن التحرر الحقيقي لا يتجسد في طرد المستعمر فحسب، بل في تفكيك البنية الهيمنية التي يتركها خلفه. من هذا المنظور، تبدو القضية الفلسطينية في لحظة تاريخية تستوجب قراءة معمقة ودقيقة تتجاوز الفعل العسكري إلى مشروع متكامل يعيد بناء العلاقة بين الشعب الفلسطيني وأرضه وهويته، ويطرح رؤية جذرية لفلسطين ديمقراطية موحدة.

السابع من أكتوبر لم يكن يوماً عادياً في هذا السياق، بل مثَّل زلزالاً هزّ الأسس الراسخة للهيمنة الاستعمارية وأعاد تشكيل الخرائط السياسية للمنطقة. إنه لحظة تنذر بانهيار مشاريع الهيمنة الإقليمية والعالمية، وتكشف زيف الأيديولوجيات التي حكمت الوعي العربي لعقود.

في هذا الإطار، لا بد من قراءة نقدية لما حدث، تتجاوز الشعارات التقليدية والتصنيفات المتكلسة. فاللحظة الراهنة تستدعي تفكيك منظومات الفعل السياسي والمقاومة في المنطقة، عبر أدوات تحليلية تستند إلى دراسات ما بعد الكولونيالية، لفهم الإرث الكولونيالي في بنيتنا السياسية والثقافية، وتداعياته على مقاومتنا للنظم الإمبريالية والصهيونية.


السقوط المتزامن للمحاور الكبرى

ما كشفه السابع من أكتوبر، وبكل وضوح، هو انهيار المشاريع الكبرى التي حاولت احتكار الخطاب التحرري. محور "المقاومة والممانعة"، الذي حمل شعارات التصدي للاحتلال، بدا عاجزاً أمام هزائم متتالية أفرغت خطابه من محتواه. إيران، القوة الأبرز في هذا المحور، أصبحت مثقلة بالأزمات الاقتصادية والعسكرية، بعد تورطها في النزاعات الإقليمية التي استنزفت مواردها وأضعفت حضورها.

روسيا، بدورها، لم تسلم من تبعات مغامراتها الإمبريالية، سواء في سوريا أو أوكرانيا. تحولت من داعم استراتيجي إلى لاعب يبحث عن مكاسب آنية، غير آبه بالمبادئ التي لطالما رفعها. أما النظام السوري، الذي شكّل لعقود حجر الزاوية في هذا التحالف، فقد أصبح كياناً منهكاً، يحاول جاهداً التكيف مع معادلات جديدة تفوق قدراته.

اليسار العربي: سقوط آخر للحالمين

وسط كل هذه التحولات، انكشف عجز اليسار العربي، الذي لم يعد يملك سوى ذاكرة مشبعة بالهزائم وشعارات فقدت معناها. اليسار، الذي كان يفترض أن يكون صوت الثورة والتغيير، أصبح جزءاً من المشكلة. فهو، كغيره، أسير الخطاب المركزي الذي يعيد إنتاج منظومات القمع، متجاهلاً حقيقة أن المقاومة تبدأ من القاعدة الشعبية وليس من أروقة الأحزاب.

هذا الفشل يعكس أزمة أعمق في الفكر العربي. فبدلاً من تطوير أدوات تحليلية جديدة لفهم تعقيدات المرحلة، ظل اليسار متمسكاً بنماذج قديمة لا تصلح سوى لإعادة تدوير الهزائم، وجعلته عاجزاً عن فهم تعقيدات المرحلة الراهنة أو تقديم رؤى جديدة.

سقوط النظام السوري وانهيار الأيديولوجيا القديمة

أحد أبرز مظاهر هذا التحول هو سقوط النظام السوري القديم، الذي كان يمثل نموذجاً خادعاً للمقاومة والممانعة. سقوطه لم يكن مجرد نتيجة لصراعات داخلية أو إقليمية، بل تجسيداً لانهيار مشروع أيديولوجي استنزف طاقاته في تبرير الاستبداد.

النظام السوري الجديد، سيكون مُحاصراً بواقع مفخخ: من احتمالات التطبيع مع إسرائيل إلى التنازل عن الجولان مقابل مكاسب محدودة. لكن السؤال الجوهري هنا: كيف سيبرر هذا النظام خطواته المقبلة، في ظل سقوط الأيديولوجيا التي برر بها وجوده لعقود؟

بالنسبة للمقاومة الفلسطينية، فإن هذا التحول يمثل معضلة جديدة. لم يعد بإمكانها الاعتماد على نظام بلا هوية واضحة، أو حليف غارق في أزماته الذاتية. هنا، يصبح الحديث عن مشروع فلسطيني مستقل ومتماسك ضرورة لا تحتمل التأجيل.

القضية الفلسطينية، التي لطالما كانت رمزاً للتحرر العالمي، أصبحت اليوم رهينة خطاب أيديولوجي تقليدي عفا عليه الزمن. من مشروع القومية العربية إلى محور المقاومة، كان الفلسطيني دائماً ورقة تُستخدم في حروب الآخرين، دون أن يُمنح حق قيادة مشروعه الخاص.

السابع من أكتوبر كشف هشاشة هذه المشاريع جميعها، ووضع الفلسطينيين أمام خيار جديد: بناء مشروع تحرري شامل يعيد صياغة علاقتهم بالعالم، وينطلق من هويتهم وقضيتهم، بعيداً عن التبعية لأي محور أو أيديولوجيا خارجية.

نتنياهو وحلم السيطرة في مواجهة كابوس المقاومة

على الجانب الآخر، كان السابع من أكتوبر لحظة كاشفة أيضاً بالنسبة لإسرائيل. نتانياهو، الذي طالما استخدم الحروب كأداة للهروب من أزماته الداخلية، وجد نفسه أمام معادلة معقدة. مشروعه لإعادة ترتيب المنطقة، عبر موجات التطبيع والانفتاح على تحالفات إقليمية، بات يواجه تحديات وجودية.

الاحتلال الإسرائيلي، كما حذر فانون، يحمل في طياته بذور فنائه. الفوضى التي أطلقتها إسرائيل، من سوريا إلى غزة، قد تكون مقدمة لانفجار أكبر يهدد وجودها ذاته. نتانياهو، بسياساته القائمة على الهيمنة والقمع، لا يدرك أن مشروعه يحمل تناقضاته الخاصة، التي ستؤدي حتماً إلى انهياره.

المقاومة الفلسطينية وإعادة مشروعها السياسي

المقاومة الفلسطينية ليست فقط حقاً مشروعاً، بل ضرورة وجودية. لكنها كممارسة، ليست معصومة من النقد. السابع من أكتوبر أظهر أن المقاومة بحاجة إلى إعادة تقييم سياساتها وتحالفاتها، بعيداً عن أي قدسية تُمنح للقيادات أو التنظيمات.

القضية هنا ليست في التشكيك بشرعية المقاومة، بل في مواجهة سؤال محوري: كيف يمكن تحويل المقاومة إلى مشروع شامل يتجاوز القيود التقليدية ويواكب التحولات الإقليمية والدولية؟ ورغم كل الضغوط، تظل استثناءً في هذا النظام. إنها ليست مجرد رد فعل على الاحتلال، بل هي مشروع تحرري يعيد صياغة العلاقة بين الشعب الفلسطيني وأرضه. هذا المشروع لا يمكن أن ينجح إلا إذا فهمنا المقاومة كعملية مستمرة للتفكيك وإعادة البناء، بعيداً عن المركزية الأيديولوجية أو الهيمنة التنظيمية.
الاحتلال الإسرائيلي ليس مجرد هيمنة عسكرية، بل هو جزء من نظام إمبريالي أوسع يسعى لتفكيك الهوية الفلسطينية وإخضاعها لمنطق السوق. في مواجهة هذا النظام، تصبح المقاومة أكثر من مجرد رد فعل؛ إنها مشروع وجودي يهدف إلى إعادة بناء الذات الفلسطينية على أسس صلبة ومستدامة.

كل تلك التغييرات في منطقة الشرق الأوسط خاصة في جغرافية بلاد الشام وفي قلبها فلسطين المحتلة يؤكد على أن السابع من أكتوبر كان زلزالاً تاريخياً، لكنه أيضاً فرصة لإعادة التفكير في كل شيء. المقاومة الفلسطينية، رغم كل الضغوط، تظل استثناءً في نظام الهيمنة العالمي. إنها ليست مجرد رد فعل على الاحتلال، بل مشروع تحرري يعيد صياغة العلاقة بين الشعب الفلسطيني وأرضه وتاريخه.

في زمن التحولات الكبرى، الكليشيهات ليست خياراً. السابع من أكتوبر كشف هشاشة المشاريع التقليدية، لكنه في الوقت ذاته فتح الباب أمام ولادة جديدة للمقاومة. هذه الولادة لن تكون سهلة، لكنها ضرورة وجودية.

 

التعليقات (0)